من حكومة إلى أخرى، لم يَجنِ المواطنون من ممارسة السياسة من طرف الأحزاب السياسية إلا الأوجاعَ تلوَ الأوجاعِ. علما أنه، في هذا البلد السعيد، السواد الأعظمُ ممَّن يمارسون السياسة، لا يفقهون شيئا من معناها النبيل. ما يفقهونه جيدا، هو أنها تفتح لهم الطريق واسعا ليصلوا إلى السلطة و بالتالي، ليعيثوا في البلاد فسادا و إفسادا. بل إن فئةً من السياسيين لم يسبق لأقدامهم أن وطأت عتبةَ المدرسة. و أكثر من هذا و ذاك، إن هذا النوعَ من السياسيين الفاسدين و المُفسدين يعرفون حق المعرفة أن مشهدَنا السياسي فاسدٌ حتى النُّخاع، فتراهم يغتنمونها فرصةً لينالوا حقَّهم من ما يوفِّره هذا المشهدُ من ريعٍ و غنائم. و حتى نُدركَ عُمقَ و ألمَ ما تُفرزه السياسة من أوجاع، دعونا نوضِّح ماذا يعنيه، لغويا و اصطلاحيا، مفهومُ السياسة.
أولا، السياسة لها علاقة بالسلطة و ممارسة هذه السلطة. و الأحزاب السياسية هي التي تُمارس السلطة من خلال الانتخابات. و الانتخابات هي التي تُفرز السلطة التَّشريعية أو مجلسَ النُّواب بأغلبية و معارضة. عن هذه الأغلبية، تنبثق السلطة التَّنفيذية أو الحكومة التي تسوسُ (من سياسة) أو تُدبِّر أو تُديرُ شؤونَ المواطنين، أو كما هو متعارفٌ عليه، تُدبِّر الشأن العام للمواطنين. و عندما نقول "تُذبِّر الشأنَ العام"، فهذا يعني أن الناخبين (أو الشعب) هم الذين، بمحض اختيارهم، كلَّفوا الحكومةَ، نيابةً عنهم، بتدبير شأنهم العام. و عندما نتحدَّثُ عن الشأن العام، فالأمرُ يتعلَّقُ بتدبير شؤون المواطنين بما فيه صالحُهم أجمعين أو بما يستجيب لتطلُّعاتِهم أو حسبَ ما وَرَدَ من وعود في الحملات الانتخابية للأحزاب السياسة. و حتى يكونَ تَّدبير الشأن العام مستجِيباً لتطلُّعات المواطنين، يجب أن يُمارسَ هذا التَّدبيرُ بعدلٍ و إخلاصٍ و استقامةٍ و نزاهةٍ و إنضافٍ…
و هذا يقودنا للقول بأن ممارسةَ السلطة، التَّنفيذية على الخصوص، لها ما يميِّزها من أُسُسٍ، أذكر منها ما يلي :
-الإلمامَ بفنِّ و أبجديات التَّدبير
-تنظيم السُّلَطِ و الحِرص على استقلالياتها
-القدرة على تحويل تطلُّعات المواطنين إلى سياسات عمومية تستجيب لهذه التَّطلُّعات
-الحِرصُ على إرساء انسجام بين القطاعات الوزارية و على تكامل ما تُعِذُّه من سياسات عمومية
-الحِرص على أن يكونََ الاهتمامُ بالعنصر البشري هو محور السياسات العمومية…
و ما يجب أن لا يغيبَ عن ذهن كل مَن يمارس السياسةَ أن هذه الأخيرة فرعٌ من فروعِ العلوم الاجتماعية و علمٌ قائم الذات يهتمُّ بدراسة الظواهر السياسية من عدَّة زوايا منها ما هو نظري théorique و منها ما هو اجتماعي sociologique و منها ما هو إداري administratif و منها ما له علاقة بالشؤون الدولية…
بعد هذه التَّوضيحات الهامة، سأتناول واحدا تلوَ الآخر الأوجاعَ التي تكون ممارسةُ السياسة في بلادنا هي السبب في إصابة المواطنين بألمها :
الوجَعُ الأول. إنه وجَعٌ ناتجٌ مباشرةً عن التَّوضيح المبيَّن أعلاه. و يتعلَّق الأمرُ بفئة عريضة من مَن يمارسون السساسةَ، سواءً عبرَ شقٍّها التَّشريعي أو التَّنفيذي، و هم لا يفقهون شيئا في السياسة كعلمٍ قائم الذات. و لعل أخطرَ هؤلاء المتهجِّمين على السياسة، هم نواب الأمة الذين، دستوريا، يشرِّعون باسم الشعب و من أجله. بل إنهم يصوِّتون على ميزانية البلاد التي، من خلالها، تُمرٍّرُ السلطة التنفيذية أو الحكومة سياساتِها العمومية التي، من المفروض، أن تستجيبَ لتطلُّعات المواطنين. أما خطورة الخطورات، فإنها تتعلَّق بفئة السياسيين الأميين الذين لا يفقهون في السياسة إلا ما تُحقٍّقُه لهم من مصالح شخصية.
الوجع الثاني. السياسة، كما هي ممارسةٌ في بلادنا، لا علاقةَ لها على الإطلاق بالسياسة كعلمٍ. إنها سياسةٌ تستمدُّ وجودَها من الأهواء و من الجشع. إنها سياسةٌ تقول ما لا تفعل، أي سياسة كلها نفاق و كذب وافتراء و مصالح شخصية و دسائس و إخفاء الحقائق… سياسةٌ انتهازيةٌ بامتياز! سياسة هي أم الخبائث و إذا ظهرت بوجه حسن، فاعلم أن محركَها هو النفاق. وفي هذا الصدد، فكلُّ مَن أراد أن يكونَ سياسيا ناجحا، فعليه أن لا يقولَ الحقيقة. و إذا قالها، عليه أن يعرف كيف يُزخرفَها وكيف يجعلَها تخدم مصالحَه. السياسي هو ذلك الشخصُ الذي ظاهرُه يوحي بالاستقامة و النزاهة و باطنُه لا يستوي إلا إذا تغذى بالتدليس والكذب و التزوير و التلفيق و التحريف و الالتواء و الإملاق و التملق و... و باختصار، السياسي له عدة و جوه. و كل وجه عبارة عن عملة تُسْتَعْمَلُ في المكان و المقام المناسبين.
الوجع الثالث. سياسةٌ قاسمها المشترك و مبدأها الوحيد هو التَّسابق لغَنمِ كراسي السلطة. و الطامة الكبرى، هو أن هذه السياسة جاهدت و اجتهدت لتسهيلِ القِرانِ أو الزواج بين المال و السلطة. حينها، خلقت قوَّةً جديدةً ساعدتها على الاستحواد على السلطة في جوٍّ تتشابه فيه الأحزابُ السياسية من حيث سيلان لُعابها رغبةً في وصولها إلى السلطة. و الزواج بين المال و السلطة لا يعترف لا بالديمقراطية و لا بتطلُّعات المواطنين. و إن اعترف بالديمقراطية، فإنها فقط ديمقراطية الواجهة التي هي عبارة عن ذرِّ الرماد على العيون.
الوجع الرابع. من إفرازات السياسة، في هذا البلد السعيد، هو أن جلَّ السياسيين، عندما يصلون إلى كراسي السطة، سواءً على المستوى التَّشريعي أو التَّنفيذي، ينسون صفةَ التَّواضع و يتبنَّون صفاتِ الاستعلاء و الكبرياء ليجعلوا من أنفسِهم بشراً فوق الآخرين من حيث القيمة و الموقع. حينها، لا يرضون بالاختلاط مع عامة المواطنين، بل يريدون أن ينحنيَ لهم هؤلاء المواطنون و كأن وصولَهم إلى السلطة تشريفٌ بينما هو مجرد تكليف.
الوجع الخامس. بيَّنت التَّجربة أن السياسةَ، في هذا البلد السعيد، لا دينَ لها. فكثير من أحزابنا السياسية ينطبق عليها هذا القولُ. فعندما تتموقع هذه الأحزاب السياسية في المعارضة، نراها تتشبَّثُ بالمبادئ و تميل، على الأقل في تصريحاتِها، لخدمة المواطنين. و عندما تصل نفسُ الأحزاب إلى السلطة، تشريعسةً كانت أو تنفيذية، نراها، بقدرة قادرٍ، تتنكَّر لهذه المباذئ و لخدمة المواطنين. أو كما نقول باللغة العامية : "كَتْقْلْبْ الفِيستَة" و بكل سهولة و بدون تردُّد و بدون أدنى توبيخ ضميرٍ! إنه ضربٌ صارخٌ عرضَ الحائط بأخلاقيات السياسة éthique politique. و هذا ما حصل بالنسبة لحزبي الاستقلال و "البام" اللذان انتقلا، إثرَ الانتخابات الأخيرة من المعارضة إلى الأغلبيةَ الحاكمة. و خير مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، هو أن هذين الحزبين، لما كانا متموقعين في المعارضة، كانا من أشرس المدافعين عن تسقيف أسعار المحروقات و من المطالبين باسترجاع ملايير الدراهم الناتجة عن الأرباح غير المشروعة بعد انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية. أما ا اليوم، فنفس الحزبين يلتزمان صمتا مطبقا حول ما كانا متشبِّثين به. أليس تغييرُ الوجوه هذا دليلٌ قاطعٌ على أن أحزابنا السياسية لا مباذئَ لها و أن ما يهمها، من ممارسة السياسة هو الوصول إلى السلطة. أليس هذا كذلك دليلُ قاطع على أن الوصولَ إلى السلطة هو الرابط الوحيد الذي يجمع بين أحزابنا السياسية، كحُلفاء، في الحكومة الواحدة.
الوجع السادس. من انتخابات إلى أخرى و من برلمانٍ إلى آخر و من حكومة إلى أخرى، تبيَّنَ للمواطنين أن السياسةَ، كما هي مُمارسة في هذا البلد، عبارة عن مسرحية يقوم بإخراجها السلطة و المال و ممثلوها هم الحكومة و البرلمان و الجماعات الترابية. و المتفرجون هم الناخِبون أو الشعب برمَّتِه. ممثلون يقومون بأدوارهم تمشِّيا مع ما أعدَّه المالُ و السلطة من سيناريوهات خيطُها الناظم هو الليبرالية المتوحٍّشة التي لا تؤمن إلا بما يُذرُّه عليها الاقتصادُ من أرباح رضِيَ أو كرِه المتفرٍّجون. متفرٍّجزن لا حولَ و لا قوَّةَ لهم لأنهم لا يدخلون في معادلة السلطة و المال التي ليست في حاجةٍ إليهم لبلوغ أهدافها. بل إن شريحةً عريضةً من المتفرِّجين تجد ضالَّتَها في هذه المعادلة باستفادتِها منها بطرقة أو أخرى. و خيرُ خَشَبَةٍ تجري فوقها هذه المسرحية هي البرلمان بغرفتيه. تُطرحُ الأسئلة من طرف البرلمانيين الذين، على ما يبدو، يطرحونها نيابةً عن الشعب. يُجيبُ الوزراء ثم يُعقِّبُ البرلمانيون ثم يعقِّب الوزراء. و ينتهي الأمرُ! يذهب الوزراء و البرلمانيون إلى حال سبيلهم. و لا شيءَ يتغيَّر! أما المتفرِّجون، فإنهم يشترون التَّذاكر من خلال الضرائب و لا شيءَ يتغيَّر! أما نوع المسرحية، فهو درَامِي و المنفرِّجون مجبَرونُ بشراء التَّذاكر كل خمس سنوات قابلة للتَّجديد.
الوجَع السابع. السياسة، كما هي مُمارشةٌ في هذا البلد السعيد، مرادفةٌ للإفلات من العقاب. فكم هي القضايا التي لها علاقة باختلاس المال العام و بقي مَن هم وراء هذا الاختلاس بدون عقاب. و كم هي كثيرة القضايا التي بيَّنت تقاريرُ المجلس الأعلى للحسابات أنها مشوبة باختلالات لكنها لم يتم البثُّ فيها قضائيا. و كم هي الجماعات الترابية التي لم تقٌم بمهامها كما يفرض عليها ذلك القانون و لم تخضع للمحاسبة. و كأن الإفلاتَ من العقاب مَزِيةٌ من مزايا السياسة و ليس خللاً يعاقب عليه القانون. و كأن السياسةَ تسمح لمَن يمارسُها أن لا يحترمَ دولةَ الحق و القانون.
الوجع الثامن. إنه وجَع الأوجاع. سببُه الرئيسي هو عدم تطبيق القانون. تحدثُ الكوارثُ الاجتماعية من حينٍ لآخر، كان من الممكن تفاديها لو قامت السلطات العمومية بواجبها طبقا لما يسمح به القانون. مثلا : مراقبة ظروف العمل في المعامل، في المقاولات، في أوراش البناء… مراقبة السير على الطرق و تطبيق القانون على الشاحنات و الحافلات و سيارات الأجرة التي لا تتوفَّر فيها شروط نقل المسافرين و البضائع… تطبيق القانون لتفاذي احتلال الملك العمومي و تفادي تسلُّط أصحاب السترات الصفراء على المواطنين… إنه وضعٌ يعيشُه المواطنون باستمرار في حياتهم اليومية على مرأى و مسمع السلطات العمومية و الأحزاب السياسية و لا أحدَ يحرِّك ساكنا. فما هو السببُ؟ السببُ، بكل بساطة، هو تخلِّي مَن بيدهم الأمرُ عن مسئولياتهم عملاُ بالمقولة المتداولة tout le monde est responsable et et personne ne l'est، أي الكُلُّ مسئولٌ و لا أحدَ يقوم بمسئوليتِه. و هذا شيءٌ جاري به العملُ في مجال ممارسة السياسة.
إن ممارسةَ السياسةَ، في هذا البلد السعيد، كلها أوجاعٌ عانى و يعاني منها المواطنون منذ عقود. و السببُ في هذه المعاناة هو أن هذه السياسة أفسدت كل شيء. و بسببِ هذا الإفساد، غابت المواطنة و غاب حب الوطن و تلاشت القيم السامية. و غابت السياسة النبيلة التي كانت سائدة في ربوع الوطن قبل الحماية و أثناءها و مباشرةً بعد الاستقلال. و كان الناس يعبرون عنها بتلقائية و عفوية دون عناء لسبب واحد هو أنها سكنت فيهم و أصبحت جزأ من سلوكهم. و مما يؤسف له أن السياسة النبيلة بدأت في التقهقر في نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات مع ظهور نوع جديد من البشر ينتمي لفصيلة الإنسان المفترس الذي يفقد وعيَه و شعورَه و يسيل لعابُه أمام الغنائم و الفرائس الدسمة و الكراسي و الجشع ضاربا عرض الحائط كل القيم و كل المبادئ حيث يصبح كالثور المسعور هدفه الأول و الأخير تحقيق أهدافه الشنيعة و لو على حساب بلده أو بلدته أو قريته أو حيِّه أو أنداده…
لكن السياسة، كما هي ممارسةٌ حاليا، مهما عظمت ومهما تفشت و مهما طغت، لن تستطيع أن تستقطب الشرفاء المتشبثين حتى النخاع بمبادئهم السامية التي لا تُباع ولا تُشترى. و لا غرابةَ أن جل هؤلاء الشرفاء لا ينتمون للأحزاب السياسية لأنهم مقتنعون أن هذه الأحزاب عبارة عن لوبيات مصالح تتنكَّر لوطنها ولوطنيتها. هؤلاء الشرفاء موجودون في كل مكان شعارُهم الحديث النبوي الشريف : "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَان".
أولا، السياسة لها علاقة بالسلطة و ممارسة هذه السلطة. و الأحزاب السياسية هي التي تُمارس السلطة من خلال الانتخابات. و الانتخابات هي التي تُفرز السلطة التَّشريعية أو مجلسَ النُّواب بأغلبية و معارضة. عن هذه الأغلبية، تنبثق السلطة التَّنفيذية أو الحكومة التي تسوسُ (من سياسة) أو تُدبِّر أو تُديرُ شؤونَ المواطنين، أو كما هو متعارفٌ عليه، تُدبِّر الشأن العام للمواطنين. و عندما نقول "تُذبِّر الشأنَ العام"، فهذا يعني أن الناخبين (أو الشعب) هم الذين، بمحض اختيارهم، كلَّفوا الحكومةَ، نيابةً عنهم، بتدبير شأنهم العام. و عندما نتحدَّثُ عن الشأن العام، فالأمرُ يتعلَّقُ بتدبير شؤون المواطنين بما فيه صالحُهم أجمعين أو بما يستجيب لتطلُّعاتِهم أو حسبَ ما وَرَدَ من وعود في الحملات الانتخابية للأحزاب السياسة. و حتى يكونَ تَّدبير الشأن العام مستجِيباً لتطلُّعات المواطنين، يجب أن يُمارسَ هذا التَّدبيرُ بعدلٍ و إخلاصٍ و استقامةٍ و نزاهةٍ و إنضافٍ…
و هذا يقودنا للقول بأن ممارسةَ السلطة، التَّنفيذية على الخصوص، لها ما يميِّزها من أُسُسٍ، أذكر منها ما يلي :
-الإلمامَ بفنِّ و أبجديات التَّدبير
-تنظيم السُّلَطِ و الحِرص على استقلالياتها
-القدرة على تحويل تطلُّعات المواطنين إلى سياسات عمومية تستجيب لهذه التَّطلُّعات
-الحِرصُ على إرساء انسجام بين القطاعات الوزارية و على تكامل ما تُعِذُّه من سياسات عمومية
-الحِرص على أن يكونََ الاهتمامُ بالعنصر البشري هو محور السياسات العمومية…
و ما يجب أن لا يغيبَ عن ذهن كل مَن يمارس السياسةَ أن هذه الأخيرة فرعٌ من فروعِ العلوم الاجتماعية و علمٌ قائم الذات يهتمُّ بدراسة الظواهر السياسية من عدَّة زوايا منها ما هو نظري théorique و منها ما هو اجتماعي sociologique و منها ما هو إداري administratif و منها ما له علاقة بالشؤون الدولية…
بعد هذه التَّوضيحات الهامة، سأتناول واحدا تلوَ الآخر الأوجاعَ التي تكون ممارسةُ السياسة في بلادنا هي السبب في إصابة المواطنين بألمها :
الوجَعُ الأول. إنه وجَعٌ ناتجٌ مباشرةً عن التَّوضيح المبيَّن أعلاه. و يتعلَّق الأمرُ بفئة عريضة من مَن يمارسون السساسةَ، سواءً عبرَ شقٍّها التَّشريعي أو التَّنفيذي، و هم لا يفقهون شيئا في السياسة كعلمٍ قائم الذات. و لعل أخطرَ هؤلاء المتهجِّمين على السياسة، هم نواب الأمة الذين، دستوريا، يشرِّعون باسم الشعب و من أجله. بل إنهم يصوِّتون على ميزانية البلاد التي، من خلالها، تُمرٍّرُ السلطة التنفيذية أو الحكومة سياساتِها العمومية التي، من المفروض، أن تستجيبَ لتطلُّعات المواطنين. أما خطورة الخطورات، فإنها تتعلَّق بفئة السياسيين الأميين الذين لا يفقهون في السياسة إلا ما تُحقٍّقُه لهم من مصالح شخصية.
الوجع الثاني. السياسة، كما هي ممارسةٌ في بلادنا، لا علاقةَ لها على الإطلاق بالسياسة كعلمٍ. إنها سياسةٌ تستمدُّ وجودَها من الأهواء و من الجشع. إنها سياسةٌ تقول ما لا تفعل، أي سياسة كلها نفاق و كذب وافتراء و مصالح شخصية و دسائس و إخفاء الحقائق… سياسةٌ انتهازيةٌ بامتياز! سياسة هي أم الخبائث و إذا ظهرت بوجه حسن، فاعلم أن محركَها هو النفاق. وفي هذا الصدد، فكلُّ مَن أراد أن يكونَ سياسيا ناجحا، فعليه أن لا يقولَ الحقيقة. و إذا قالها، عليه أن يعرف كيف يُزخرفَها وكيف يجعلَها تخدم مصالحَه. السياسي هو ذلك الشخصُ الذي ظاهرُه يوحي بالاستقامة و النزاهة و باطنُه لا يستوي إلا إذا تغذى بالتدليس والكذب و التزوير و التلفيق و التحريف و الالتواء و الإملاق و التملق و... و باختصار، السياسي له عدة و جوه. و كل وجه عبارة عن عملة تُسْتَعْمَلُ في المكان و المقام المناسبين.
الوجع الثالث. سياسةٌ قاسمها المشترك و مبدأها الوحيد هو التَّسابق لغَنمِ كراسي السلطة. و الطامة الكبرى، هو أن هذه السياسة جاهدت و اجتهدت لتسهيلِ القِرانِ أو الزواج بين المال و السلطة. حينها، خلقت قوَّةً جديدةً ساعدتها على الاستحواد على السلطة في جوٍّ تتشابه فيه الأحزابُ السياسية من حيث سيلان لُعابها رغبةً في وصولها إلى السلطة. و الزواج بين المال و السلطة لا يعترف لا بالديمقراطية و لا بتطلُّعات المواطنين. و إن اعترف بالديمقراطية، فإنها فقط ديمقراطية الواجهة التي هي عبارة عن ذرِّ الرماد على العيون.
الوجع الرابع. من إفرازات السياسة، في هذا البلد السعيد، هو أن جلَّ السياسيين، عندما يصلون إلى كراسي السطة، سواءً على المستوى التَّشريعي أو التَّنفيذي، ينسون صفةَ التَّواضع و يتبنَّون صفاتِ الاستعلاء و الكبرياء ليجعلوا من أنفسِهم بشراً فوق الآخرين من حيث القيمة و الموقع. حينها، لا يرضون بالاختلاط مع عامة المواطنين، بل يريدون أن ينحنيَ لهم هؤلاء المواطنون و كأن وصولَهم إلى السلطة تشريفٌ بينما هو مجرد تكليف.
الوجع الخامس. بيَّنت التَّجربة أن السياسةَ، في هذا البلد السعيد، لا دينَ لها. فكثير من أحزابنا السياسية ينطبق عليها هذا القولُ. فعندما تتموقع هذه الأحزاب السياسية في المعارضة، نراها تتشبَّثُ بالمبادئ و تميل، على الأقل في تصريحاتِها، لخدمة المواطنين. و عندما تصل نفسُ الأحزاب إلى السلطة، تشريعسةً كانت أو تنفيذية، نراها، بقدرة قادرٍ، تتنكَّر لهذه المباذئ و لخدمة المواطنين. أو كما نقول باللغة العامية : "كَتْقْلْبْ الفِيستَة" و بكل سهولة و بدون تردُّد و بدون أدنى توبيخ ضميرٍ! إنه ضربٌ صارخٌ عرضَ الحائط بأخلاقيات السياسة éthique politique. و هذا ما حصل بالنسبة لحزبي الاستقلال و "البام" اللذان انتقلا، إثرَ الانتخابات الأخيرة من المعارضة إلى الأغلبيةَ الحاكمة. و خير مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، هو أن هذين الحزبين، لما كانا متموقعين في المعارضة، كانا من أشرس المدافعين عن تسقيف أسعار المحروقات و من المطالبين باسترجاع ملايير الدراهم الناتجة عن الأرباح غير المشروعة بعد انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية. أما ا اليوم، فنفس الحزبين يلتزمان صمتا مطبقا حول ما كانا متشبِّثين به. أليس تغييرُ الوجوه هذا دليلٌ قاطعٌ على أن أحزابنا السياسية لا مباذئَ لها و أن ما يهمها، من ممارسة السياسة هو الوصول إلى السلطة. أليس هذا كذلك دليلُ قاطع على أن الوصولَ إلى السلطة هو الرابط الوحيد الذي يجمع بين أحزابنا السياسية، كحُلفاء، في الحكومة الواحدة.
الوجع السادس. من انتخابات إلى أخرى و من برلمانٍ إلى آخر و من حكومة إلى أخرى، تبيَّنَ للمواطنين أن السياسةَ، كما هي مُمارسة في هذا البلد، عبارة عن مسرحية يقوم بإخراجها السلطة و المال و ممثلوها هم الحكومة و البرلمان و الجماعات الترابية. و المتفرجون هم الناخِبون أو الشعب برمَّتِه. ممثلون يقومون بأدوارهم تمشِّيا مع ما أعدَّه المالُ و السلطة من سيناريوهات خيطُها الناظم هو الليبرالية المتوحٍّشة التي لا تؤمن إلا بما يُذرُّه عليها الاقتصادُ من أرباح رضِيَ أو كرِه المتفرٍّجون. متفرٍّجزن لا حولَ و لا قوَّةَ لهم لأنهم لا يدخلون في معادلة السلطة و المال التي ليست في حاجةٍ إليهم لبلوغ أهدافها. بل إن شريحةً عريضةً من المتفرِّجين تجد ضالَّتَها في هذه المعادلة باستفادتِها منها بطرقة أو أخرى. و خيرُ خَشَبَةٍ تجري فوقها هذه المسرحية هي البرلمان بغرفتيه. تُطرحُ الأسئلة من طرف البرلمانيين الذين، على ما يبدو، يطرحونها نيابةً عن الشعب. يُجيبُ الوزراء ثم يُعقِّبُ البرلمانيون ثم يعقِّب الوزراء. و ينتهي الأمرُ! يذهب الوزراء و البرلمانيون إلى حال سبيلهم. و لا شيءَ يتغيَّر! أما المتفرِّجون، فإنهم يشترون التَّذاكر من خلال الضرائب و لا شيءَ يتغيَّر! أما نوع المسرحية، فهو درَامِي و المنفرِّجون مجبَرونُ بشراء التَّذاكر كل خمس سنوات قابلة للتَّجديد.
الوجَع السابع. السياسة، كما هي مُمارشةٌ في هذا البلد السعيد، مرادفةٌ للإفلات من العقاب. فكم هي القضايا التي لها علاقة باختلاس المال العام و بقي مَن هم وراء هذا الاختلاس بدون عقاب. و كم هي كثيرة القضايا التي بيَّنت تقاريرُ المجلس الأعلى للحسابات أنها مشوبة باختلالات لكنها لم يتم البثُّ فيها قضائيا. و كم هي الجماعات الترابية التي لم تقٌم بمهامها كما يفرض عليها ذلك القانون و لم تخضع للمحاسبة. و كأن الإفلاتَ من العقاب مَزِيةٌ من مزايا السياسة و ليس خللاً يعاقب عليه القانون. و كأن السياسةَ تسمح لمَن يمارسُها أن لا يحترمَ دولةَ الحق و القانون.
الوجع الثامن. إنه وجَع الأوجاع. سببُه الرئيسي هو عدم تطبيق القانون. تحدثُ الكوارثُ الاجتماعية من حينٍ لآخر، كان من الممكن تفاديها لو قامت السلطات العمومية بواجبها طبقا لما يسمح به القانون. مثلا : مراقبة ظروف العمل في المعامل، في المقاولات، في أوراش البناء… مراقبة السير على الطرق و تطبيق القانون على الشاحنات و الحافلات و سيارات الأجرة التي لا تتوفَّر فيها شروط نقل المسافرين و البضائع… تطبيق القانون لتفاذي احتلال الملك العمومي و تفادي تسلُّط أصحاب السترات الصفراء على المواطنين… إنه وضعٌ يعيشُه المواطنون باستمرار في حياتهم اليومية على مرأى و مسمع السلطات العمومية و الأحزاب السياسية و لا أحدَ يحرِّك ساكنا. فما هو السببُ؟ السببُ، بكل بساطة، هو تخلِّي مَن بيدهم الأمرُ عن مسئولياتهم عملاُ بالمقولة المتداولة tout le monde est responsable et et personne ne l'est، أي الكُلُّ مسئولٌ و لا أحدَ يقوم بمسئوليتِه. و هذا شيءٌ جاري به العملُ في مجال ممارسة السياسة.
إن ممارسةَ السياسةَ، في هذا البلد السعيد، كلها أوجاعٌ عانى و يعاني منها المواطنون منذ عقود. و السببُ في هذه المعاناة هو أن هذه السياسة أفسدت كل شيء. و بسببِ هذا الإفساد، غابت المواطنة و غاب حب الوطن و تلاشت القيم السامية. و غابت السياسة النبيلة التي كانت سائدة في ربوع الوطن قبل الحماية و أثناءها و مباشرةً بعد الاستقلال. و كان الناس يعبرون عنها بتلقائية و عفوية دون عناء لسبب واحد هو أنها سكنت فيهم و أصبحت جزأ من سلوكهم. و مما يؤسف له أن السياسة النبيلة بدأت في التقهقر في نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات مع ظهور نوع جديد من البشر ينتمي لفصيلة الإنسان المفترس الذي يفقد وعيَه و شعورَه و يسيل لعابُه أمام الغنائم و الفرائس الدسمة و الكراسي و الجشع ضاربا عرض الحائط كل القيم و كل المبادئ حيث يصبح كالثور المسعور هدفه الأول و الأخير تحقيق أهدافه الشنيعة و لو على حساب بلده أو بلدته أو قريته أو حيِّه أو أنداده…
لكن السياسة، كما هي ممارسةٌ حاليا، مهما عظمت ومهما تفشت و مهما طغت، لن تستطيع أن تستقطب الشرفاء المتشبثين حتى النخاع بمبادئهم السامية التي لا تُباع ولا تُشترى. و لا غرابةَ أن جل هؤلاء الشرفاء لا ينتمون للأحزاب السياسية لأنهم مقتنعون أن هذه الأحزاب عبارة عن لوبيات مصالح تتنكَّر لوطنها ولوطنيتها. هؤلاء الشرفاء موجودون في كل مكان شعارُهم الحديث النبوي الشريف : "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَان".