صور الشعراء الفنية قبل الإسلام من منظور المنهج النفسي رسالة تقدمت بها الباحثة /أوراس نصيف جاسم محمد إلى مجلس كلية التربية للبنات -جامعة بغداد، وهي جزء من متطلبات نيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها إشراف الأستاذ الدكتور/أحمد إسماعيل النعيمي ربيع الأول 1425هـ /أيار 2004م
وتعريفًا بالدراسة فيما يلي بيان بمكونات الدراسة، ونتائجها، كما ذكرتها الباحثة على النحو التالي:
مكونات الدراسة:
التمهيد:
عرضت الباحثة في البداية تمهيدا تأريخيا موجزًا لمفهوم الصورة من وجهة نفسية في منظور القدماء من فلاسفة وبلاغيين ونقاد عرب أسهموا في بلورة هذا المفهوم، وانتهاء بتعريفها على وفق منهج نفسي حديث في النقد لدى الباحثين المعاصرين
ثم أفردت الباحثة مفهوماً خاصاً بالبحث للصورة الفنية يتساوق والمنهج النفسي.
ثم جاءت الفصول الرئيسة والمباحث الفرعية بعنواناتها التي قامت عليها الدراسة، فقد كانت خير معين للباحثة في الكشف عن أبعاد جديدة وجوانب أخرى للخطابات الشعرية، لها صلة وثيقة بنفسيات الشعراء وطبيعة تفاعلهم مع تجاربهم الشعورية، مع ما حملته صورهم ومشاهداتهم من دلالات نفسية مغايرة لما هي عليه في الواقع المرصود لها وكانت فصول الدراسة كما ذكرتها الباحثة على النحو التالي:
الفصل الأول صور استهلالات القصائد وأبعادها النفسية
حيث ذكرت الباحثة الاستهلال وأبعاده التصويرية والنفسية بعد أن وضعت الحدود الفاصلة بينه وبين المصطلحات الأخرى التي خلطها كثير من الباحثين به، وكأنهم يحاولون تأكيد ترادفها معه جملة وتفصيلاً، وهذه المصطلحات هي: (الابتداء) و(المطلع) و(المقدمة).
وقد بينت الباحثة أيضاً عن سبب اختياري لمصطلح (الاستهلال) دون سواه في تحليل الصور الشعرية على وفق المنهج النفسي.
ومن ثمّ عرضت الباحثة لخمسة ضروب من الاستهلالات لأبرز خمسة أغراض شعرية تتضح فيها أحاسيس الشعراء وانفعالاتهم عبر الصور الفنية المرصودة فيها، وهذه الاستهلالات هي: الحزن والتأسي، وبكاء الشباب، والطيف، والحب والصبابة، والهموم والإحباط.
الفصل الثاني: اللوحات الشعرية في إطار بناء القصيدة الجاهلية وأبعادها النفسية:
حيث تناولت الباحثة
أولا: لوحة الطلل :
حيث كانت الهدف الأول في تحليل صوره وأبعاده الفكرية من منظور المنهج النفسي، فعمدت الباحثة فيها إلى انتقاء تفسيرات الباحثين لظاهرة الوقفة الطللية ولاسيما ما يصبّ منها في معطيات منهج هذه الدراسة. فالشاعر في استهلاله الطلي أبرز أحاسيس الألم والغربة والضياع في جنس من التصوير، فجّرت مدامعه قرباً تتدفق منها المياه بغزارة سواء كان سبب هذا التدفق اهتراء أديمها أوجدّته، إلا أنه لم يُطْلَ بدهان يحكم خرزه. وتارة تكون هذه الدموع لؤلؤاً متناثراً سريع التبدد على الأرض، وأحياناً يكون شجو الحمام على الأغصان معادلاً موضوعياً لمأساته، وغيرها من الصور والأساليب الفنية التي صوّر بها الشعراء مأساتهم ومعاناتهم في الاستهلال الطللي.
وبعد تتبّع أهم صور الانفعالات والأحاسيس لدى الشعراء في استهلالاتهم الطللية،
ثانيا مشهد الرحلة والصراع:
هذا المشهد الذي يتبع وقفة الشاعر على أطلاله في كثير من الأحيان ؛لأنه وسيلته في تبديد همومه المختلفة، لذا فقد تجلّت الأبعاد النفسية في هذا المشهد من خلال تلك الشواهد الشعرية المفصحة عن نفسيات الشعراء، بوساطة اهتمامهم بتصوير معاناة النوق التي تحملهم إلى الممدوح أو المصير المجهول، ثم يعمدون إلى عقد صلة مقارنة أو وشيجة بين حالتها النفسية المتوترة-غالباً-وما ينتاب ثور الوحش، أو البقرة الوحشية، أو حمار الوحش من انفعالات وأحاسيس مماثلة أو تكاد تكون مماثلة، وفي قليل من الأحايين يقرن الشعراء أحاسيس رواحلهم (المعادل الموضوعي لأحاسيسهم) بما يشابهها لدى الظليم أو النعامة.
وترى الباحثة أن الشاعر الجاهلي يلتفت إلى إبراز نفسية الصائد وكلابه في بعض لوحات الصراع فتتحقق بذلك أبعاد نفسية مضافة إلى تلك اللوحات الشعرية. وبعدها التفتّ إلى دراسة الأبعاد النفسية للوحة الغرض ذات الصلة الوثيقة بلوحتي (الاستهلال الطللي ) و(الرحلة والصراع)، إذا كانت القصيدة طويلة ومتعددة اللوحات، إلا أن لوحة الغرض ضمن المنهج النفسي لم تقف عند هذا الضرب من القصائد بل تجاوزته إلى تلك القصائد ذات البناء الفني المباشر أيضا، مع الأخذ بعين الاعتبار المناسبة التي قيلت فيها القصيدة، أو باعث النظم الرئيس، وقد قاد استقراء الأبعاد النفسية المباشرة للوحة الغرض في الخطابات الشعرية إلى انتقاء أهم وأبرز صور المشاعر والانفعالات والأحاسيس الوجدانية التي لونت معظم هذه اللوحات، ومن أبرزها:
الغربة المكانية والنفسية، والاستعطاف والاسترحام، والتحذير والتهويل، والقلق والحيرة، والحزن الممضّ.
ثالثا :لوحة الحرب :
احتلت حيزاً واسعاً في البناء الفني بكلا نمطيه مستثمرة معطيات المنهج النفسي بتحليل ما يقع منها من أبعاد نفسية ضمن مواقف بعينها يتخذها الشاعر الجاهلي نحو تكريهه لصورة الحرب، لبثّ النفور في نفوس مؤججيها، أو صور مشاعر الندم بعد أن حصدت الحرب الآلاف من فرسان الطرفين
وربما يلجأ الشاعر إلى أساليب بعينها للحرب النفسية التي يروم شنها على أعدائه:
*كأن يغالي في انتقاء صور الوعيد والتهديد لأعدائه
*تأجيج سعير الحرب من خلال استغلاله للأبعاد النفسية لعاطفة الثأر والانتقام مرة،
* استخدام أساليب شتى في السخرية من المتقاعسين
* تصوير المرأة داخل حلقات الندب، ولاسيما أن المرأة في هذا المقام تتمتع بطاقة تحريضية عظيمة مؤثرة في المتلقي.
الفصل الثالث والأخير (التحليل النقدي للصورة من منظور المنهج النفسي) فكان أن رسمت صورته أربعة مباحث مهمة في تشكيل الصورة الفنية:
المبحث الأول : أساليب النظم والصياغ:
وهو مبحث استند في فكرته إلى نظرية النظم التي نضجت على يد عبد القاهر الجرجاني، فحاولت الباحثة من خلال هذا المبحث التماس التطبيقات لهذه النظرية في الشعر الجاهلي، مع إضافات مستوحاة من هذه النظرية مع التركيز على حذق الشاعر في صياغة معانيه الحاملة لمشاعره المختلفة من خلال تحليل الأساليب اللغوية المتنوعة.
*المبحث الثاني (المجاز والفنون البلاغية):
استندت الباحثة إلى كتب البلاغة والنقد القديمة منها والحديثة في بيان الأسس والأبعاد النفسية لأساليب البلاغة العربية وتأكيد ارتباط تنوع آثارها في نفس المتلقي بتنوع الأساليب البلاغية.
* المبحث الرابع: مبحث الإيقاع والجرس الموسيقي:
تصدت الباحثة فيه لدراسة قدرة الموسيقى الشعرية على إبراز المشاعر النفسية، وأثبتُّ جدواها بتحليل أجزاءها: البحر وتفعيلاته، والجرس الموسيقي ومكوناته، والقافية، والأصوات اللغوية بمعانيها وصفاتها ومخارجها.
الخاتمة ونتائج الدراسة:
ذكرت الباحثة نتائج دراستها على النحو التالي:
نتائج الفصل الأول:
حدّد البحث المصطلح الأكثر ملاءمة لدراسة الصور الفنية المتصدرة للبناء الفني المتعدد اللوحات في القصيدة الجاهلية من منظور المنهج النفسي، ألا وهو:
(الاستهلال):
بعد الاستعانة بأمهات كتب المعاجم. وتركنا المصطلحات الأُخر، لأن (الابتداء) يتسع للبيت الأول من القصيدة فحسب، وإذا ما زاد عليه بيت آخر لا يسمى ابتداء، لأنه يمثل النظرة الأولى للنص الأدبي قبل إنعام النظر فيه وتأمله.
(المطلع):
فتتحدد دلالته بالعنصر الأول فحسب، وهو يتمثل بالأبيات الأُوَل من القصيدة التي تصب في لوحة واحدة، وهي في حقيقتها موضوع القصيدة مرمزاً، ولا يكون بيتاً واحداً.
(المقدمة):
بينت الباحثة أن مصطلح المقدمة يستغرق البيت الأول والعنصر الأول معاً في دلالته، إلا أن بعداً معنوياً آخر يحتويه، هو أنه يشترط في التقديم أن يكون البيت الأول هو أجود بيت في القصيدة كلها، وإذا استخدم هذا المصطلح في الاستقصاء فإنه سيتعين على الباحثة -عندئذٍ-الاستغناء عن كثير من القصائد الجياد، لأن أجود بيت فيها اتفق على جودته النقاد والبلاغيين القدماء لا يتقدم أبياتها. وملاءمة الاستهلال بوصفه مصطلحا فنياً للمنهج النفسي في النقد، متأتية من أنه يدل على البيت الأول من القصيدة بغض النظر عن وجوب أفضليته على غيره من الأبيات في بعديه الفكري والفني، ويدل كذلك على العنصر الأول من القصيدة، لأن المعاني المنضوية تحت مصطلح (الاستهلال) لغوياً تدور دلالاتها جميعاً حول مفهوم البداية أو الصدارة.
وقاد استقراء آراء القدماء من بلاغيين ونقاد عرب التي عالجوا بها المطالع والاستهلالات والابتداءات في الخطاب الشعري بخاصة، أنهم التفتوا إلى نفسية (المتلقي) فحسب، من خلال تأكيدهم ضرورة عناية الشاعر بتجويد الاستهلال بقوة المعاني وسلاسة الألفاظ وتلاؤم الأجزاء، مع إيحائه بموضوع القصيدة، لكي يترك الأثر المطلوب في نفس المتلقي، دون أن يعيروا أي اهتمام-في الأغلب الأعم-إلى نفسية الشاعر، سواء حمل النص صور انفعالاته وتأثره بباعث تجربته الشعورية أم لم يحمل، الأمر الذي دفعهم إلى تخطئة بعض فحول الشعراء في بعض استهلالاتهم، لتعارضها مع المعايير التي وضعوها لصياغة الاستهلال البارع.
ثم إن عناية البلاغيين والنقاد العرب القدماء بضرورة تجويد الاستهلال والتخلص والخاتمة يدل على اهتمامهم بالمحافظة على وحدة الشعور في بناء القصيدة الفني أو ما سميناه (الوحدة النفسية) في القصيدة، وهي عين ما أراد ابن قتيبة إخبارنا به في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء)، محاولاً إيجاد تفسير نفسي لعلة ترابط لوحات قصيدة(المدح) على هذا التسلسل،
*أن أفضل شعراء المديح في الجاهلية هم الذين اختطّوا هذه السبيل ومهدوها لمن تلاهم من الشعراء، منطلقين في ذلك من عمق واقعهم النفسي المفروض على حياتهم. ولا يفهم من كلام ابن قتيبة أنه أوجب على معاصريه من الشعراء سلوك سبيل من سبقهم في صورهم ومعانيهم، بل إنه أراد لمعاصريه من الشعراء سلوك سبيل من سبقهم في الانطلاق من الواقع النفسي المهيمن على بيئاتهم وتجاربهم الشعرية.
(الحزن والتأسي ) كأحد ضروب الاستهلالات :
نلاحظ في بعض صوره الاستهلالية الحزينة وقفة طللية للشاعر يتذكر فيها المنازل وأحبته، أي أنها-بتعبير آخر-تشبه في بنائها الفني قصيدة المدح، إلا إنها تخالفها في جوها النفسي المفعم بالكآبة والحزن العميق
* حاول البحث من خلال الشواهد الشعرية التعقيب على رأي قدامة بن جعفر القائل بتشابه البناء الفني لكلتا القصيدتين: المادحة والراثية، إلا أن في ألفاظ الأخيرة منهما ما يدل على تعلق الكلام بامرئ قضى نحبه إلا إن هذا المقياس لا يستقيم دائماً، إذ إن الشعراء يحاولون في كل المناسبات تطويع الاستهلال الطللي بما يتساوق وأهدافهم سواء كان غزلياً أو لا، فقد تكون المرثية المستهلة بذكر الأطلال بكائية خالصة في مضمونها، وتارة يكون فيها شيء من الحزن، ألا أن عاطفة الانتقام الغاضبة فاقته وطغت عليه، وإذا كان الشاعر في وقت مضى يبكي أطلال محبوبته الراحلة، فهو في مستهل قصيدة الرثاء يبكي أطلال مرثيه، بعد أن أبعدته عنها الخطوب والمنايا.
أما الاستهلال ببكاء الشباب فقد لمسنا قلّة صوره التي تقع ضمن إطار المنهج النفسي في الاستقصاء؛ لأن الإنسان الجاهلي كان يحيا حياة خشنة وصعبة منذ ولادته إلى وفاته، فلم يكن يبكي رفاهية شبابه نحو ما هو معروف لدى شعراء العصور اللاحقة، وإنما كان يأسف على فراق الصحاب وإعجاب الغواني به، وهو كثيراً ما يحوّل مشاعر الضعف والحزن والحنين لشبابه إلى قوة وطاقة حيوية متجددة في ضرب من أحلام اليقظة، أو تجاهل متعمدّ لفكرة الموت والفناء.
الطيف:
فهو ظاهرة نفسية عابرة تعتري وعي الشاعر بسبب احتدام الصراع النفسي لديه والحرمان العاطفي. وفضلاً عما تقدّم فقد وجد البحث أن الدلالات اللغوية للطيف في المعجم هي وصف آخر لهذه الظاهرة النفسية بعد استعراض الألفاظ المشتقة من الجذر (طفف)أو(طوف)أو(طيف)، فهي جميعاً تشترك في ثلاثة معانٍ، الأول: الظهور المباغت بقوة، والانبثاق من الظلام أو العدم. والثاني: الإحاطة بحس الشاعر ووعيه، وخداعه بالدنو والاقتراب. والثالث: التلاشي والتبدد والانقشاع. ثم أن الصفات الصوتية التي تحملها هذه الحروف الثلاثة (ط ي ف) تعطي الدلالات الثلاث نفسها. والطيف يتمتع بأبعاد نفسية مثيرة لاهتمام المتلقي، تكاد توازي فيها الاستهلالات الغزلية، ليسحب الشاعر هذا الجو النفسي من الاهتمام إلى غرضه المنشود،
وبعد استقراء أجرت الباحثة على كثير من الدواوين والأشعار المنثورة في المظان الأدبية في سبيل اقتفاء هذه الظاهرة الفنية في مستهل القصائد، وقر لدى الباحثة أنها قد استخدمت بأبعادها المعنوية-الرمزية-أكثر مما استخدمت كتعويض أو صورة حية كامنة في نفس الشاعر ووعيه لإشباع دوافعه..، ولعل منبعها النفسي المحض لدى الشاعر، مع غرابتها ومفارقتها للمألوف عند المتلقي، جعلاها مطواعة لأغراض الشاعر المختلفة في توجيه هذه اللوحة الوجهة النفسية والفنية(الذاتية)التي يرومونها، والوجهة الاجتماعية (الموضوعية)فضلاً عن كونها إحدى آليات مقاومة الإحباط والاكتئاب النفسي.
الاستهلال بالحب والصبابة :
توصلت الباحثة إلى أن تجربة النسيب الشعرية في الاستهلال شبيهة بتعويذة سحرية يناط بها كل ما يمور في نفوس الشعراء، مهما تباينت الأمزجة والحالات الوجدانية، لما لها من خاصية إيحائية فريدة من نوعها تمكنها من استيعاب دوافع البشر بعامة والشعراء بخاصة.
الاستهلال بالهموم والإحباط :
من أبرز التجليات الفنية التي يعتمدها كثير من الشعراء لحالاتهم النفسية الجياشة بمشاعر القلق والخوف والحزن، فهم يصورون همومهم المؤرقة بتطاول الليل وثقله بعد أن تحول إلى زمن نفسي للشاعر، وتارة يصفون أرقهم بملدوغ لا تهجع عينه بسبب الآلام المتوالية.
نتائج الفصل الثاني:
بينت الباحثة أن أبرز المشاعر والانفعالات المرصودة في الوقفة الطللية هي البكاء المصرّح به في كثير من الأحيان على أعتاب الديار الدارسة وأنه البكاء يمثل –من وجهة نفسية-محاولة مهمة من المحاولات اليائسة لإرواء وإحياء الحياة الذاوية بين ثنايا الأحجار المتنكرة بجلباب الزمن المتغير، ولعل الاستهلال الطللي، بوصفه ظاهرة فنية لها أسسها النفسية الواضحة جزء من إفرازات اللاوعي الجمعي الذي تطلبته مرحلة الانهدام الحضاري التي خلقت الأطلال.
مشهد الرحلة والصراع:
* تمّ رصد قلة المواضع التي أنسن الشعراء الجاهليون فيها حيواناتهم ولاسيما الإبل منها، فكان تفسير هذه الظاهرة هو غلبة الدوافع الاجتماعية (القبلية)على الدوافع الذاتية للشاعر، لأن تفضيل الأخيرة في وعيه يعني تهديداً أو خرقاً لشعوره بالانتماء إلى الجماعة التي تمثلها (القبيلة)في كثير من الأحيان، ولعل الدافع الرئيس خلف هذه الأنسنة أو العقلنة للجمل أو الناقة هو رغبة الشاعر في الإفصاح عن مخاوفه أو أحزانه أو حنينه إلى حيث ينتمي بوساطة إسقاط هذه المشاعر على هذه الحيوانات.
صراع ثور الوحش مع كلاب الصيد :
*لم يذكر الشعراء الجاهليون في مراثيهم مقتل ثور الوحش وحمار الوحش أثناء الصراع الدامي، ولعل الرائد في ذلك، أو أول مَن ذكر في شعره هذه القصة المأساوية هو أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المخضرم، لدى رثائه لأبنائه.
*أن نزوع الشعراء إلى تشبيه إبلهم بثور الوحش أو حمار الوحش أو البقرة الوحشية المسبوعة أو الظليم لا يقتصر على مقارنة سرعة هذه الحيوانات بسرعة الناقة بل الأمر يتعدى ذلك إلى رغبة الشعراء في إيصال عواطفهم وانفعالاتهم التي تنتابهم لدوافع شتى، منها: طول الرحلة نفسها من خلال التصوير الوجداني لهذه الحيوانات، فضلاً عن كون الصراع في ذاته جوهر الحياة الأصيل. فكانت قصة ثور الوحش تعبيراً رمزياً عن شجاعة الشاعر ورباطة جأشه، أما مشاعر حمار الوحش والبقرة الوحشية المسبوعة فهي تعبير عن مخاوفه وهمومه وغربته في الرحلة، أما المشاعر الرقيقة للظليم والنعامة فقد أومأت إلى مشاعر الحنين إلى الأهل والديار التي ترافقه طوال سفره المضني إلى ممدوحيه، وبهذه النتائج أمكن الإجابة عن سبب الجمع بين لوحتين أو أكثر منها في القصيدة الواحدة.
غرض القصيدة:
بعد تطبيق المنهج النفسي عليه: تم التوصل إلى أن غرض القصيدة كونه بؤرة تتحلق حولها صور القصيدة في بعد نفسي موحّد، فإنها-أي لوحة الغرض-مع بقية لوحات البناء الفني للقصيدة تكون كياناً نفسياً لا يكمل بعضه بعضاً وحسب، بل قد تحمل كل لوحة من هذه اللوحات الشعرية نواة الفكرة أو الإحساس الذي يرغب الشاعر صوغه وتشكيله تشكيلاً جمالياً ذا أبعاد نفسية.
نتائج الفصل الثالث:
*تضمن الفصل الثالث محاولات متواضعة في الكشف عن أساليب فنية ومسالك أخرى ذات دلالات نفسية متنوعة في النظم الذي نظّر له عبد القادر الجرجاني، وهذه الأساليب والمسالك تكاد أن تكون بمثابة أوجه أخرى تضاف إلى عملية النسج والصياغة الفنية المستقطبة لاستجابة المتلقي.
*حاول البحث عبر الخطابات الشعرية إيضاح التأثير النفسي المتحصّل من هذه الأساليب، وتأكيد الأبعاد النفسية التي تتركّز في بعض الأوزان الصرفية بشكل واضح، بوصفها جزءاً من عملية النسج اللغوية التي يقوم بها الشاعر. وتتوقف الطاقة التأثيرية في هذه الأوزان والصيغ الصرفية على كثرة الأبعاد المعنوية والدلالات الفكرية المنوطة بها فضلاً عن تلاؤمها مع السياق اللغوي الذي تقع فيه، إذ أنّ تغيّر المعنى رهن بتغير اللفظ، ولعل أهم ما قام به البحث في هذا المضمار هو محاولة تصحيح بعض وجهات النظر التي انطلق منها النقاد القدماء في تحليل بعض الخطابات الشعرية الجاهلية، إذ استقى البحث أدلته من أبحاث البلاغيين والنقاد القدماء أنفسهم.
*الفنون البلاغية :
*اتضح أن ارتباط هذه الأساليب الفرعية بالبواعث النفسية وبيان دلالاتها وإيحاءاتها في المتلقي يفسّر اعتماد العرب في أشعارهم على أساليب بلاغية معينة للتعبير عن حالات وجدانية معينة، فضلاً عن أن معرفة الشعراء لهذه الأساليب هي في حقيقتها معرفة تلقائية فطرية نابعة من إحساسهم المرهف بالطاقة الموحية للفظ في اللغة. وفي بعض الحالات يتباين المشبه عن المشبه به في الجو النفسي المؤطر لكليهما، كأن يجمع التشبيه بين مشاعر الغبطة والحزن، ألا أن المهم في الأمر هو أن يحصل التوافق في الجو النفسي للصورة التشبيهية برمتها، وانفعالات الشاعر وأحاسيسه، والأمر نفسه يصدق على فن الاستعارة الذي فاق في قوته التوصيلية للمتلقي-لدى كثير من الباحثين-ما للتشبيه من طاقة مماثلة.
الخيال :
عن طريق الخيال استطاع الشعراء التأثير في المتلقي من خلال إذابة الواقع المحسوس فيه لتخرج صورته ممتزجة بطبيعة إحساس الشاعر وملونة بألوانه، فقد يمسخ الشاعر الحزين أجمل المحسوسات لدينا ويشركها بمصابه، أو تحسن في نظره أبشع المناظر فيجعلها تطرب لطربه، فهناك دائماً تواشج وطيد بين العاطفة والخيال الشعري.
الإيقاع والجرس الموسيقي:
ناقش البحث قضية عدم تعلق نوع البحر العروضي بطبيعة غرض الشاعر أو موضوعه، إلا أن القصدية في علاقة موسيقى الشعر بنوع العاطفة الإنسانية المودعة فيه يشي بها الجرس والإيقاع البارزان في حشو القصيدة. ثم تطرق البحث أيضاً إلى قضية صلاحية جميع الحروف من حيث كونها روياً تنتهي به القافية أو أحد حروفها الأخرى.
ولعل الجديد في الأمر أنه قام بشرح العلاقة بين الصفات الصوتية بحرف الروي والباعث النفسي أو الدلالات الإيحائية للخطاب الشعري الذي يحتويه.
وتعريفًا بالدراسة فيما يلي بيان بمكونات الدراسة، ونتائجها، كما ذكرتها الباحثة على النحو التالي:
مكونات الدراسة:
التمهيد:
عرضت الباحثة في البداية تمهيدا تأريخيا موجزًا لمفهوم الصورة من وجهة نفسية في منظور القدماء من فلاسفة وبلاغيين ونقاد عرب أسهموا في بلورة هذا المفهوم، وانتهاء بتعريفها على وفق منهج نفسي حديث في النقد لدى الباحثين المعاصرين
ثم أفردت الباحثة مفهوماً خاصاً بالبحث للصورة الفنية يتساوق والمنهج النفسي.
ثم جاءت الفصول الرئيسة والمباحث الفرعية بعنواناتها التي قامت عليها الدراسة، فقد كانت خير معين للباحثة في الكشف عن أبعاد جديدة وجوانب أخرى للخطابات الشعرية، لها صلة وثيقة بنفسيات الشعراء وطبيعة تفاعلهم مع تجاربهم الشعورية، مع ما حملته صورهم ومشاهداتهم من دلالات نفسية مغايرة لما هي عليه في الواقع المرصود لها وكانت فصول الدراسة كما ذكرتها الباحثة على النحو التالي:
الفصل الأول صور استهلالات القصائد وأبعادها النفسية
حيث ذكرت الباحثة الاستهلال وأبعاده التصويرية والنفسية بعد أن وضعت الحدود الفاصلة بينه وبين المصطلحات الأخرى التي خلطها كثير من الباحثين به، وكأنهم يحاولون تأكيد ترادفها معه جملة وتفصيلاً، وهذه المصطلحات هي: (الابتداء) و(المطلع) و(المقدمة).
وقد بينت الباحثة أيضاً عن سبب اختياري لمصطلح (الاستهلال) دون سواه في تحليل الصور الشعرية على وفق المنهج النفسي.
ومن ثمّ عرضت الباحثة لخمسة ضروب من الاستهلالات لأبرز خمسة أغراض شعرية تتضح فيها أحاسيس الشعراء وانفعالاتهم عبر الصور الفنية المرصودة فيها، وهذه الاستهلالات هي: الحزن والتأسي، وبكاء الشباب، والطيف، والحب والصبابة، والهموم والإحباط.
الفصل الثاني: اللوحات الشعرية في إطار بناء القصيدة الجاهلية وأبعادها النفسية:
حيث تناولت الباحثة
أولا: لوحة الطلل :
حيث كانت الهدف الأول في تحليل صوره وأبعاده الفكرية من منظور المنهج النفسي، فعمدت الباحثة فيها إلى انتقاء تفسيرات الباحثين لظاهرة الوقفة الطللية ولاسيما ما يصبّ منها في معطيات منهج هذه الدراسة. فالشاعر في استهلاله الطلي أبرز أحاسيس الألم والغربة والضياع في جنس من التصوير، فجّرت مدامعه قرباً تتدفق منها المياه بغزارة سواء كان سبب هذا التدفق اهتراء أديمها أوجدّته، إلا أنه لم يُطْلَ بدهان يحكم خرزه. وتارة تكون هذه الدموع لؤلؤاً متناثراً سريع التبدد على الأرض، وأحياناً يكون شجو الحمام على الأغصان معادلاً موضوعياً لمأساته، وغيرها من الصور والأساليب الفنية التي صوّر بها الشعراء مأساتهم ومعاناتهم في الاستهلال الطللي.
وبعد تتبّع أهم صور الانفعالات والأحاسيس لدى الشعراء في استهلالاتهم الطللية،
ثانيا مشهد الرحلة والصراع:
هذا المشهد الذي يتبع وقفة الشاعر على أطلاله في كثير من الأحيان ؛لأنه وسيلته في تبديد همومه المختلفة، لذا فقد تجلّت الأبعاد النفسية في هذا المشهد من خلال تلك الشواهد الشعرية المفصحة عن نفسيات الشعراء، بوساطة اهتمامهم بتصوير معاناة النوق التي تحملهم إلى الممدوح أو المصير المجهول، ثم يعمدون إلى عقد صلة مقارنة أو وشيجة بين حالتها النفسية المتوترة-غالباً-وما ينتاب ثور الوحش، أو البقرة الوحشية، أو حمار الوحش من انفعالات وأحاسيس مماثلة أو تكاد تكون مماثلة، وفي قليل من الأحايين يقرن الشعراء أحاسيس رواحلهم (المعادل الموضوعي لأحاسيسهم) بما يشابهها لدى الظليم أو النعامة.
وترى الباحثة أن الشاعر الجاهلي يلتفت إلى إبراز نفسية الصائد وكلابه في بعض لوحات الصراع فتتحقق بذلك أبعاد نفسية مضافة إلى تلك اللوحات الشعرية. وبعدها التفتّ إلى دراسة الأبعاد النفسية للوحة الغرض ذات الصلة الوثيقة بلوحتي (الاستهلال الطللي ) و(الرحلة والصراع)، إذا كانت القصيدة طويلة ومتعددة اللوحات، إلا أن لوحة الغرض ضمن المنهج النفسي لم تقف عند هذا الضرب من القصائد بل تجاوزته إلى تلك القصائد ذات البناء الفني المباشر أيضا، مع الأخذ بعين الاعتبار المناسبة التي قيلت فيها القصيدة، أو باعث النظم الرئيس، وقد قاد استقراء الأبعاد النفسية المباشرة للوحة الغرض في الخطابات الشعرية إلى انتقاء أهم وأبرز صور المشاعر والانفعالات والأحاسيس الوجدانية التي لونت معظم هذه اللوحات، ومن أبرزها:
الغربة المكانية والنفسية، والاستعطاف والاسترحام، والتحذير والتهويل، والقلق والحيرة، والحزن الممضّ.
ثالثا :لوحة الحرب :
احتلت حيزاً واسعاً في البناء الفني بكلا نمطيه مستثمرة معطيات المنهج النفسي بتحليل ما يقع منها من أبعاد نفسية ضمن مواقف بعينها يتخذها الشاعر الجاهلي نحو تكريهه لصورة الحرب، لبثّ النفور في نفوس مؤججيها، أو صور مشاعر الندم بعد أن حصدت الحرب الآلاف من فرسان الطرفين
وربما يلجأ الشاعر إلى أساليب بعينها للحرب النفسية التي يروم شنها على أعدائه:
*كأن يغالي في انتقاء صور الوعيد والتهديد لأعدائه
*تأجيج سعير الحرب من خلال استغلاله للأبعاد النفسية لعاطفة الثأر والانتقام مرة،
* استخدام أساليب شتى في السخرية من المتقاعسين
* تصوير المرأة داخل حلقات الندب، ولاسيما أن المرأة في هذا المقام تتمتع بطاقة تحريضية عظيمة مؤثرة في المتلقي.
الفصل الثالث والأخير (التحليل النقدي للصورة من منظور المنهج النفسي) فكان أن رسمت صورته أربعة مباحث مهمة في تشكيل الصورة الفنية:
المبحث الأول : أساليب النظم والصياغ:
وهو مبحث استند في فكرته إلى نظرية النظم التي نضجت على يد عبد القاهر الجرجاني، فحاولت الباحثة من خلال هذا المبحث التماس التطبيقات لهذه النظرية في الشعر الجاهلي، مع إضافات مستوحاة من هذه النظرية مع التركيز على حذق الشاعر في صياغة معانيه الحاملة لمشاعره المختلفة من خلال تحليل الأساليب اللغوية المتنوعة.
*المبحث الثاني (المجاز والفنون البلاغية):
استندت الباحثة إلى كتب البلاغة والنقد القديمة منها والحديثة في بيان الأسس والأبعاد النفسية لأساليب البلاغة العربية وتأكيد ارتباط تنوع آثارها في نفس المتلقي بتنوع الأساليب البلاغية.
- المبحث الثالث: مبحث الخيال:
* المبحث الرابع: مبحث الإيقاع والجرس الموسيقي:
تصدت الباحثة فيه لدراسة قدرة الموسيقى الشعرية على إبراز المشاعر النفسية، وأثبتُّ جدواها بتحليل أجزاءها: البحر وتفعيلاته، والجرس الموسيقي ومكوناته، والقافية، والأصوات اللغوية بمعانيها وصفاتها ومخارجها.
الخاتمة ونتائج الدراسة:
ذكرت الباحثة نتائج دراستها على النحو التالي:
نتائج الفصل الأول:
حدّد البحث المصطلح الأكثر ملاءمة لدراسة الصور الفنية المتصدرة للبناء الفني المتعدد اللوحات في القصيدة الجاهلية من منظور المنهج النفسي، ألا وهو:
(الاستهلال):
بعد الاستعانة بأمهات كتب المعاجم. وتركنا المصطلحات الأُخر، لأن (الابتداء) يتسع للبيت الأول من القصيدة فحسب، وإذا ما زاد عليه بيت آخر لا يسمى ابتداء، لأنه يمثل النظرة الأولى للنص الأدبي قبل إنعام النظر فيه وتأمله.
(المطلع):
فتتحدد دلالته بالعنصر الأول فحسب، وهو يتمثل بالأبيات الأُوَل من القصيدة التي تصب في لوحة واحدة، وهي في حقيقتها موضوع القصيدة مرمزاً، ولا يكون بيتاً واحداً.
(المقدمة):
بينت الباحثة أن مصطلح المقدمة يستغرق البيت الأول والعنصر الأول معاً في دلالته، إلا أن بعداً معنوياً آخر يحتويه، هو أنه يشترط في التقديم أن يكون البيت الأول هو أجود بيت في القصيدة كلها، وإذا استخدم هذا المصطلح في الاستقصاء فإنه سيتعين على الباحثة -عندئذٍ-الاستغناء عن كثير من القصائد الجياد، لأن أجود بيت فيها اتفق على جودته النقاد والبلاغيين القدماء لا يتقدم أبياتها. وملاءمة الاستهلال بوصفه مصطلحا فنياً للمنهج النفسي في النقد، متأتية من أنه يدل على البيت الأول من القصيدة بغض النظر عن وجوب أفضليته على غيره من الأبيات في بعديه الفكري والفني، ويدل كذلك على العنصر الأول من القصيدة، لأن المعاني المنضوية تحت مصطلح (الاستهلال) لغوياً تدور دلالاتها جميعاً حول مفهوم البداية أو الصدارة.
وقاد استقراء آراء القدماء من بلاغيين ونقاد عرب التي عالجوا بها المطالع والاستهلالات والابتداءات في الخطاب الشعري بخاصة، أنهم التفتوا إلى نفسية (المتلقي) فحسب، من خلال تأكيدهم ضرورة عناية الشاعر بتجويد الاستهلال بقوة المعاني وسلاسة الألفاظ وتلاؤم الأجزاء، مع إيحائه بموضوع القصيدة، لكي يترك الأثر المطلوب في نفس المتلقي، دون أن يعيروا أي اهتمام-في الأغلب الأعم-إلى نفسية الشاعر، سواء حمل النص صور انفعالاته وتأثره بباعث تجربته الشعورية أم لم يحمل، الأمر الذي دفعهم إلى تخطئة بعض فحول الشعراء في بعض استهلالاتهم، لتعارضها مع المعايير التي وضعوها لصياغة الاستهلال البارع.
ثم إن عناية البلاغيين والنقاد العرب القدماء بضرورة تجويد الاستهلال والتخلص والخاتمة يدل على اهتمامهم بالمحافظة على وحدة الشعور في بناء القصيدة الفني أو ما سميناه (الوحدة النفسية) في القصيدة، وهي عين ما أراد ابن قتيبة إخبارنا به في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء)، محاولاً إيجاد تفسير نفسي لعلة ترابط لوحات قصيدة(المدح) على هذا التسلسل،
*أن أفضل شعراء المديح في الجاهلية هم الذين اختطّوا هذه السبيل ومهدوها لمن تلاهم من الشعراء، منطلقين في ذلك من عمق واقعهم النفسي المفروض على حياتهم. ولا يفهم من كلام ابن قتيبة أنه أوجب على معاصريه من الشعراء سلوك سبيل من سبقهم في صورهم ومعانيهم، بل إنه أراد لمعاصريه من الشعراء سلوك سبيل من سبقهم في الانطلاق من الواقع النفسي المهيمن على بيئاتهم وتجاربهم الشعرية.
(الحزن والتأسي ) كأحد ضروب الاستهلالات :
نلاحظ في بعض صوره الاستهلالية الحزينة وقفة طللية للشاعر يتذكر فيها المنازل وأحبته، أي أنها-بتعبير آخر-تشبه في بنائها الفني قصيدة المدح، إلا إنها تخالفها في جوها النفسي المفعم بالكآبة والحزن العميق
* حاول البحث من خلال الشواهد الشعرية التعقيب على رأي قدامة بن جعفر القائل بتشابه البناء الفني لكلتا القصيدتين: المادحة والراثية، إلا أن في ألفاظ الأخيرة منهما ما يدل على تعلق الكلام بامرئ قضى نحبه إلا إن هذا المقياس لا يستقيم دائماً، إذ إن الشعراء يحاولون في كل المناسبات تطويع الاستهلال الطللي بما يتساوق وأهدافهم سواء كان غزلياً أو لا، فقد تكون المرثية المستهلة بذكر الأطلال بكائية خالصة في مضمونها، وتارة يكون فيها شيء من الحزن، ألا أن عاطفة الانتقام الغاضبة فاقته وطغت عليه، وإذا كان الشاعر في وقت مضى يبكي أطلال محبوبته الراحلة، فهو في مستهل قصيدة الرثاء يبكي أطلال مرثيه، بعد أن أبعدته عنها الخطوب والمنايا.
أما الاستهلال ببكاء الشباب فقد لمسنا قلّة صوره التي تقع ضمن إطار المنهج النفسي في الاستقصاء؛ لأن الإنسان الجاهلي كان يحيا حياة خشنة وصعبة منذ ولادته إلى وفاته، فلم يكن يبكي رفاهية شبابه نحو ما هو معروف لدى شعراء العصور اللاحقة، وإنما كان يأسف على فراق الصحاب وإعجاب الغواني به، وهو كثيراً ما يحوّل مشاعر الضعف والحزن والحنين لشبابه إلى قوة وطاقة حيوية متجددة في ضرب من أحلام اليقظة، أو تجاهل متعمدّ لفكرة الموت والفناء.
الطيف:
فهو ظاهرة نفسية عابرة تعتري وعي الشاعر بسبب احتدام الصراع النفسي لديه والحرمان العاطفي. وفضلاً عما تقدّم فقد وجد البحث أن الدلالات اللغوية للطيف في المعجم هي وصف آخر لهذه الظاهرة النفسية بعد استعراض الألفاظ المشتقة من الجذر (طفف)أو(طوف)أو(طيف)، فهي جميعاً تشترك في ثلاثة معانٍ، الأول: الظهور المباغت بقوة، والانبثاق من الظلام أو العدم. والثاني: الإحاطة بحس الشاعر ووعيه، وخداعه بالدنو والاقتراب. والثالث: التلاشي والتبدد والانقشاع. ثم أن الصفات الصوتية التي تحملها هذه الحروف الثلاثة (ط ي ف) تعطي الدلالات الثلاث نفسها. والطيف يتمتع بأبعاد نفسية مثيرة لاهتمام المتلقي، تكاد توازي فيها الاستهلالات الغزلية، ليسحب الشاعر هذا الجو النفسي من الاهتمام إلى غرضه المنشود،
وبعد استقراء أجرت الباحثة على كثير من الدواوين والأشعار المنثورة في المظان الأدبية في سبيل اقتفاء هذه الظاهرة الفنية في مستهل القصائد، وقر لدى الباحثة أنها قد استخدمت بأبعادها المعنوية-الرمزية-أكثر مما استخدمت كتعويض أو صورة حية كامنة في نفس الشاعر ووعيه لإشباع دوافعه..، ولعل منبعها النفسي المحض لدى الشاعر، مع غرابتها ومفارقتها للمألوف عند المتلقي، جعلاها مطواعة لأغراض الشاعر المختلفة في توجيه هذه اللوحة الوجهة النفسية والفنية(الذاتية)التي يرومونها، والوجهة الاجتماعية (الموضوعية)فضلاً عن كونها إحدى آليات مقاومة الإحباط والاكتئاب النفسي.
الاستهلال بالحب والصبابة :
توصلت الباحثة إلى أن تجربة النسيب الشعرية في الاستهلال شبيهة بتعويذة سحرية يناط بها كل ما يمور في نفوس الشعراء، مهما تباينت الأمزجة والحالات الوجدانية، لما لها من خاصية إيحائية فريدة من نوعها تمكنها من استيعاب دوافع البشر بعامة والشعراء بخاصة.
الاستهلال بالهموم والإحباط :
من أبرز التجليات الفنية التي يعتمدها كثير من الشعراء لحالاتهم النفسية الجياشة بمشاعر القلق والخوف والحزن، فهم يصورون همومهم المؤرقة بتطاول الليل وثقله بعد أن تحول إلى زمن نفسي للشاعر، وتارة يصفون أرقهم بملدوغ لا تهجع عينه بسبب الآلام المتوالية.
نتائج الفصل الثاني:
بينت الباحثة أن أبرز المشاعر والانفعالات المرصودة في الوقفة الطللية هي البكاء المصرّح به في كثير من الأحيان على أعتاب الديار الدارسة وأنه البكاء يمثل –من وجهة نفسية-محاولة مهمة من المحاولات اليائسة لإرواء وإحياء الحياة الذاوية بين ثنايا الأحجار المتنكرة بجلباب الزمن المتغير، ولعل الاستهلال الطللي، بوصفه ظاهرة فنية لها أسسها النفسية الواضحة جزء من إفرازات اللاوعي الجمعي الذي تطلبته مرحلة الانهدام الحضاري التي خلقت الأطلال.
مشهد الرحلة والصراع:
* تمّ رصد قلة المواضع التي أنسن الشعراء الجاهليون فيها حيواناتهم ولاسيما الإبل منها، فكان تفسير هذه الظاهرة هو غلبة الدوافع الاجتماعية (القبلية)على الدوافع الذاتية للشاعر، لأن تفضيل الأخيرة في وعيه يعني تهديداً أو خرقاً لشعوره بالانتماء إلى الجماعة التي تمثلها (القبيلة)في كثير من الأحيان، ولعل الدافع الرئيس خلف هذه الأنسنة أو العقلنة للجمل أو الناقة هو رغبة الشاعر في الإفصاح عن مخاوفه أو أحزانه أو حنينه إلى حيث ينتمي بوساطة إسقاط هذه المشاعر على هذه الحيوانات.
صراع ثور الوحش مع كلاب الصيد :
*لم يذكر الشعراء الجاهليون في مراثيهم مقتل ثور الوحش وحمار الوحش أثناء الصراع الدامي، ولعل الرائد في ذلك، أو أول مَن ذكر في شعره هذه القصة المأساوية هو أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المخضرم، لدى رثائه لأبنائه.
*أن نزوع الشعراء إلى تشبيه إبلهم بثور الوحش أو حمار الوحش أو البقرة الوحشية المسبوعة أو الظليم لا يقتصر على مقارنة سرعة هذه الحيوانات بسرعة الناقة بل الأمر يتعدى ذلك إلى رغبة الشعراء في إيصال عواطفهم وانفعالاتهم التي تنتابهم لدوافع شتى، منها: طول الرحلة نفسها من خلال التصوير الوجداني لهذه الحيوانات، فضلاً عن كون الصراع في ذاته جوهر الحياة الأصيل. فكانت قصة ثور الوحش تعبيراً رمزياً عن شجاعة الشاعر ورباطة جأشه، أما مشاعر حمار الوحش والبقرة الوحشية المسبوعة فهي تعبير عن مخاوفه وهمومه وغربته في الرحلة، أما المشاعر الرقيقة للظليم والنعامة فقد أومأت إلى مشاعر الحنين إلى الأهل والديار التي ترافقه طوال سفره المضني إلى ممدوحيه، وبهذه النتائج أمكن الإجابة عن سبب الجمع بين لوحتين أو أكثر منها في القصيدة الواحدة.
غرض القصيدة:
بعد تطبيق المنهج النفسي عليه: تم التوصل إلى أن غرض القصيدة كونه بؤرة تتحلق حولها صور القصيدة في بعد نفسي موحّد، فإنها-أي لوحة الغرض-مع بقية لوحات البناء الفني للقصيدة تكون كياناً نفسياً لا يكمل بعضه بعضاً وحسب، بل قد تحمل كل لوحة من هذه اللوحات الشعرية نواة الفكرة أو الإحساس الذي يرغب الشاعر صوغه وتشكيله تشكيلاً جمالياً ذا أبعاد نفسية.
نتائج الفصل الثالث:
*تضمن الفصل الثالث محاولات متواضعة في الكشف عن أساليب فنية ومسالك أخرى ذات دلالات نفسية متنوعة في النظم الذي نظّر له عبد القادر الجرجاني، وهذه الأساليب والمسالك تكاد أن تكون بمثابة أوجه أخرى تضاف إلى عملية النسج والصياغة الفنية المستقطبة لاستجابة المتلقي.
*حاول البحث عبر الخطابات الشعرية إيضاح التأثير النفسي المتحصّل من هذه الأساليب، وتأكيد الأبعاد النفسية التي تتركّز في بعض الأوزان الصرفية بشكل واضح، بوصفها جزءاً من عملية النسج اللغوية التي يقوم بها الشاعر. وتتوقف الطاقة التأثيرية في هذه الأوزان والصيغ الصرفية على كثرة الأبعاد المعنوية والدلالات الفكرية المنوطة بها فضلاً عن تلاؤمها مع السياق اللغوي الذي تقع فيه، إذ أنّ تغيّر المعنى رهن بتغير اللفظ، ولعل أهم ما قام به البحث في هذا المضمار هو محاولة تصحيح بعض وجهات النظر التي انطلق منها النقاد القدماء في تحليل بعض الخطابات الشعرية الجاهلية، إذ استقى البحث أدلته من أبحاث البلاغيين والنقاد القدماء أنفسهم.
*الفنون البلاغية :
*اتضح أن ارتباط هذه الأساليب الفرعية بالبواعث النفسية وبيان دلالاتها وإيحاءاتها في المتلقي يفسّر اعتماد العرب في أشعارهم على أساليب بلاغية معينة للتعبير عن حالات وجدانية معينة، فضلاً عن أن معرفة الشعراء لهذه الأساليب هي في حقيقتها معرفة تلقائية فطرية نابعة من إحساسهم المرهف بالطاقة الموحية للفظ في اللغة. وفي بعض الحالات يتباين المشبه عن المشبه به في الجو النفسي المؤطر لكليهما، كأن يجمع التشبيه بين مشاعر الغبطة والحزن، ألا أن المهم في الأمر هو أن يحصل التوافق في الجو النفسي للصورة التشبيهية برمتها، وانفعالات الشاعر وأحاسيسه، والأمر نفسه يصدق على فن الاستعارة الذي فاق في قوته التوصيلية للمتلقي-لدى كثير من الباحثين-ما للتشبيه من طاقة مماثلة.
الخيال :
عن طريق الخيال استطاع الشعراء التأثير في المتلقي من خلال إذابة الواقع المحسوس فيه لتخرج صورته ممتزجة بطبيعة إحساس الشاعر وملونة بألوانه، فقد يمسخ الشاعر الحزين أجمل المحسوسات لدينا ويشركها بمصابه، أو تحسن في نظره أبشع المناظر فيجعلها تطرب لطربه، فهناك دائماً تواشج وطيد بين العاطفة والخيال الشعري.
الإيقاع والجرس الموسيقي:
ناقش البحث قضية عدم تعلق نوع البحر العروضي بطبيعة غرض الشاعر أو موضوعه، إلا أن القصدية في علاقة موسيقى الشعر بنوع العاطفة الإنسانية المودعة فيه يشي بها الجرس والإيقاع البارزان في حشو القصيدة. ثم تطرق البحث أيضاً إلى قضية صلاحية جميع الحروف من حيث كونها روياً تنتهي به القافية أو أحد حروفها الأخرى.
ولعل الجديد في الأمر أنه قام بشرح العلاقة بين الصفات الصوتية بحرف الروي والباعث النفسي أو الدلالات الإيحائية للخطاب الشعري الذي يحتويه.