أبووردة السعدني - ولد التلاميد الشنقيطي

.. شنقيط - دولة موريتانيا الحالية - ، قيل في معناها " عيون الخيل " ، أطلق الفرنسيون عليها اسم " موريتانيا " - في محاولة منهم لطمس هويتها الاسلامية العربية - سنة 1905م ، وتعني : بلاد السمر أو : أصحاب البشرة السوداء...
... انتشر الاسلام في شنقيط في أواخر القرن الأول الهجري - على أرجح الأقوال - ، فصارت قلعة للرباط ومنارة للعلم ، وصف علماؤها ب " المكتبات المتنقلة " لقوة ذاكرتهم وحفظهم وتمكنهم من علوم الشريعة واللغة والأدب ، فلا يوجد طفل شنقيطي إلا يستظهر القرآن الكريم قبل سن العاشرة ، حتى قيل : إن الشنقيطيات يحنكن أولادهن بالقرآن الكريم...
... اشتهر الشناقطة - أيضا - بتعاطي الشعر والإبداع فيه ، فكان منهم من يقرضه " طبعا وسليقة " ، مع يسر في النظم ومتانة في السبك ، من غير معرفة بالعروض ولا بالنحو ، فأطلق على بلادهم " بلاد المليون شاعر " ، ومن غريب مايروى - في هذا الصدد - أنه قد بلغ بالشنافطة التأثر بالشعر مبلغا جعل الواحد منهم - ربما - يصاب بمرض عضال إذا وقف تدفق شاعريته رغما عنه ، الأمر الذي يؤكد حدة قرائحهم ، وحيوية سليقتهم ، وأصالتهم العربية ...
.... من علماء شنقيط الذين تمتعوا بطاقة ذهنية عالية وملكة حفظ نادرة ، العلامة : محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي ، وحيد زمانه في الحديث والسير ، وفريد عصره في اللغة والأدب ، شاعر ، أموي النسب ، اشتهر والده بلقب : التلاميد ( لعله تصحيف التلاميذ ) ، فعرف بولد التلاميد ، وابن التلاميد...
... ولد ولد التلاميد في منطقة " أشرم " ببلاد شنقيط عام 1242-1829 ، ونشأ نشأة علمية ، فتلقى العلم عن أبويه وأخيه وخاله ، حيث يقول:
غذاني بدر العلم أرأف والد
وأرحم أم ، لم تبتنى على غم
ولم بفطماني عنه حتى رويته
عن الأب ، ثم الأخ والخال والأم
وعن غيرهم من كل حبر سميدع
تقي نقي لا عيي ولا فدم
... تضلع ولد التلاميد في علوم الشريعة واللغة والأدب ، ثم شد رحاله إلى بلاد المشرق الإسلامي ، فزار مصر والجامع الأزهر وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج عام 1283 /١٨٦٦ ، وكانت موسوعيته العلمية قد تردد صداها في بلاد الحرمين الشريفين ، فاستقبله شريف مكة الأمير : عبدالله بن محمد بن عون - ت 1294 /١٨٧٧ - فأكرم ضيافته ، وطلب منه الإقامة في مكة ، وقدمه في مجالسه العلمية التي كان يحضرها علماء مكة وغيرهم من علماء العالم الإسلامي ، ثم رحل إلى المدينة المنورة - بعد عشرة أعوام تقريبا - فتلقاه علماؤها بالسرور والحبور ، ولازموه وأخذوا عنه ...
رحلته الى عاصمة الدولة العثمانية :
***************************
... رحل ولد التلاميد إلى بلاد الشام ، ثم إلى " استانبول " - عاصمة الدولة العثمانية - بحثا عن الكتب ، لمطالعتها واستنساخها ، الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة بين العلماء ، وتخطت شهرته العالم الاسلامي إلي أوربا ، حتى عد معجزة زمانه ، فاستدعاه السلطان العثماني " عبدالحميد الثاني " ، الذي رأي الاستفادة من علمه ، فكلفه بالسفر إلى إسبانيا وباريس ولندن ، عام 1304 /١٨٨٦ ، للبحث في خزائنها عن الكتب العربية التي تفتقر إليها خزائن الكتب في العاصمة العثمانية ، فوافق ولد التلاميد على القيام بتلك المهمة ، غير أنه طلب من السلطان عزل "ناظر وقف المالكية " بالمدينة المنورة ، الذي دأب على حرمان الشناقطة من حقوقهم في الوقف ، فوعده السلطان بالاستجابة لطلبه ، ثم جهزه بسفينة ومؤذن وكاتب ، وطاه ، فكان يستقبل استقبالا حافلا في كل بلد يحل به ، وأنجز مهمته ، وسجل عنواين تراث المسلمين في إسبانيا وباريس ولندن ، في كتاب ضخم سماه : أشهر الكتب العربية الموجودة في خزائن مكاتب إسبانية ، ثم رجع إلى العاصمة العثمانية ، ورفض تسليم ثمار رحلته للسلطان عبدالحميد الثاني ، لعدم وفائه بوعده بعزل ناظر أوقاف المالكية بالمدينة المنورة !!....
مؤتمر المستشرقين الثامن :
*******************
... مؤتمر علمي عالمي للعلوم الشرقية ، دعا إليه ملك السويد " أسكارالثاني ( 1872 - 1905 ) ، عقد في مدينة " استكهولم " عام 1888م ، ولما كانت شهرة ولد التلاميد الشنقيطي عمت الآفاق ، أرسل ملك السويد رسالة إلى السلطان العثماني يرجوه فيها : أن يرسل إليه وفدا من علماء العرب لإلقاء بحوث عن القرآن الكريم والشريعة الاسلامية واللغة العربية والشعر العربي ، وألح في رجائه أن يرأس الوفد العربي ولد التلاميد ، فوافق الأخير على القيام بتلك المهمة ، لكنه اشترط على السلطان الوفاء بوعده وعزل ناظر وقف المالكية بالمدينة المنورة ، وأن تكون رحلته لرفعة شأن الاسلام والمسلمين ، وأن يرافقه عدد من العلماء العرب ، ومؤذن ، وطاه ، وبادر سفير السويد في القاهرة " الكونت كارلو دي لندبرج " - كان مستشرقا ، اعتنق الاسلام وسمى نفسه : عمر السويدي - بالسفر إلى العاصمة العثمانية لمتابعة الرحلة ، فالتقى بولد التلاميد ، وأكد له أن الملك خصه بالدعوة تقديرا لسعة علمه ، في حين دعا غيره من علماء الدول والممالك دعوة عامة ، وطلب منه أن ينظم فصيدة على طريقة " العرب العرباء " ، فاستجاب العالم الشنقيطي لرغبة السفير ، ونظم قصيدة تزيد عن مائتي بيت ، قال في مطلعها :
ألا طرقت من فتى مطلع النجم
غريبا عن الأوطان في أمم العجم
... ثم يشيد بملك السويد قائلا :
مآدب كل الناس للطعم وحده
ومأدبتا " أسكار " للعلم والطعم
دعا دعوة للعلم عمت وخصصت
فأضحى بها " أسكار " يعلو على النجم
دعا الجفلي كل الأنام معمما
وبالنقري كنت المخصص بالإسم !!
... لكن رحلة ولد التلاميد الشنقبطي لم تتم ، لعدم وفاء السلطان عبدالحميد الثاني بوعده ، وربما لأسباب أخرى نجهل كنهها ، ورحل الشنقيطي منفيا إلى المدينة المنورة ..!!...
رحلته الى القاهرة :
***************
... رحل ولد التلاميد إلى القاهرة - بعد أن ضيق عليه ولاة الأمر العثمانيين في المدينة المنورة - سنة 1307 /١٨٨٩ ، فأحسن - الشيخ محمد عبده ، مفتي مصر - استقباله ، وقرر له راتبا من الأوقاف _ بعد أن غدر به نقيب الأشراف السيد محمد توفيق البكري - ت١٩٣٢ م -، والتقى بكبار علماء الأزهر الشريف ، وناظرهم في مسائل فقهية ولغوية ، يقول عنها تلميذه " أحمد حسن الزيات " : بأن شيخه الشنقيطي كان " شموس الطبع ، حاد البادرة ، قوي العارضة ، وكان لا ينفك يتحدى رجال اللغة بالمسائل الدقيقة ، والنوادر الغريبة ، مستعينا على جهلهم بعلمه ، وعلى نسيانهم بحفظه ، حتى هابوا جنابه ، وكرهوا لقاءه !!".....
.... تتلمذ عليه عدد كبير من علماء مصر وأدبائها ، منهم : الشيخ محمد رشيد رضا - ت 1935م - الذي نعته ب " إمام اللغة والأدب ، ومفخرة العجم والعرب " ، وأحمد حسن الزيات - ت1968م - الذي يرى أنه كان " آية من آيات الله في حفظ الحديث والأخبار والأمثال ، لا يند عن ذهنه من كل أولئك نص ولا سند " ، وأثنى عليه حافظ إبراهيم - شاعر النيل ت ١٩٣٢ م - بقوله " ... إنه كتبخانة متنقلة " ، وأشار إليه طه حسين - عميد الأدب العربي ت ١٩٧٣ م - بقوله : " كان أولئك الطلبة يتحدثون بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي ، في حفظ اللغة ، ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب "....
... عكف الشيخ الشنقيطي - في بيته المتواضع خلف الجامع الأزهر - على التدريس وتحقيق ذخائر التراث ، فحرر القاموس ، وصحح المفضليات والأصمعيات ، وكتاب الأغاني ، والمخصص لابن سيدة وعلق عليه تعليقات بديعة ، إلي أن لقي ربه في الثالث والعشرين من شهر شوال سنة 1322 /١٩٠٤ م - وقد ناهز الثمانين عاما ، وكان قد رثى نفسه - قبيل مماته - بأبيات ، منها :
سيبكي علي العلم والكتب بعدما
أغيب في رمسي فيندبني باسمي !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...