أسعى في هذا المقال إلى لفت الأنظار ، وتسليط بعض الأضواء على مسألة المعنى ، وملامستها عن قرب بما يناسب المقام، دون الخوض المعمّق في قضاياها وتفصيلاتها الجزئية الدقيقة.
لقد تجاذبتْ مباحث المعنى ومشكلاتِه، قبل نشوء واكتمال( علم الدّلالة) بمفهومه الحديث، جملةٌ من العلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء منها العلوم اللغوية كالنحو واللغة والبلاغة وما يتّصل بها، أو غير اللغوية كعلوم المنطق والنفس والاجتماع، فضلاً عن الفلسفة بطبيعة الحال. ولا غرابة في ذلك؛ حيث إنّ" مشكلة المعنى" تقع في الصميم من اهتمامات العلوم الإنسانية جميعها. وكما يلاحظ عالِم الدّلالة( غريماس) بحقّ فإنّ: " العلوم الإنسانية يمكن أنْ تجد قاسمها المشترك في البحث المنصبّ على الدّلالة". إلّا أنّه في حكم المؤكّد ، مع ذلل، أنّ علم المنطِق، وبخاصة( مبحث التّصورات) هو المعنيّ الأول بمسألة المعنى، بالمقارنة مع العلوم الأخرى المشار إليها.
إنّ موضوع العلاقة بين( الألفاظ والمعاني) ، أو بتعبير سيميائي أكثر شمولاً، بين( الدّوال والمدلولات) يمثّل ، دون ريب، محور اهتمام المنطق الصّوريّ، ولعلّه من المفيد هنا الإشارة إلى الجهود الواضحة لعلماء المنطق العرب في التُّراث العربي الإسلاميّ. لقد أسهم هؤلاء العلماء بقسط وافر في قضايا الدّلالة على اتّساعها وتشعّبها، نشير في هذا الشأن- على سبيل المثال لا الحصر- إلى تمييزهم بين " الدّلالة اللفظية" و" الدلالة غير اللفظية"، وكذلك تمييزهم بين الدلالتين" الوضعية"و" غير الوضعيّة".
أمّا في باب دلالة اللفظ على المعنى وتحديد العلاقة بينهما، فقد ميّز المناطقة العرب بين كلّ من:
- دلالة المطابقة: عندما يتطابق اللفظ مع معناه.
- دلالة التّضمّن: وفيها يكون المعنى جزءاً من المعنى الذي يطابقه اللفظ.
- دلالة الالتزام: حيث يكون اللفظ دالّاً بالمطابقة على معنى ، بحيث يلزم عن هذا المعنى معنى آخر سواه.
ولا بدّ من التأكيد هنا على أنّ تأثّر المنطق العربي بالمنطق اليوناني لا يقلّل، بحال من الأحوال، من شأن إسهامات علماء المنطق العرب في هذا المجال؛ إذ إنّهم لم يكونوا مجرّد ناقلين لمسائله ومجترّين لقضاياه، بل إنّهم قد تناولوا ذلك كلّه بالإضافة والتعديل والنقد والتحليل، بما يجعل مصنّفاتهم المنطقيّة أقرب إلى الابتكار منها إلى التّكرار.
- ما هو المعنى؟
سؤال شائك وكبير يحتمل إجابات
كثيرة؛ فمن الممكن أنْ نقول طبقاً لمبدأ التعريف بالسلب ، مثلاً، إنّ المعنى ليس كياناً مستقلاً؛ أي أنّه ليس كياناً قائماً بذاته تنطوي عليه الألفاظ أو الكلمات. أمّا إذا أردنا تعريفاً إيجابياً،فبوسعنا القول: إنّ المعنى هو فهم ماهية الألفاظ والعبارات. إنّ ( نظرية المعنى) وفق التعريف السابق تبحث في كيفية امتلاء الألفاظ بالدلالات؛ أي كيف يمكن للألفاظ أن تكون ذات معنى؟
وبناء على ذلك فإنّ( علم الدلالة) يأخذ على عاتقه البحث في الآليّات والقواعد التي تتحكّم في إنتاج المعنى في اللغة.
ولسائل أنْ يسأل مثلاً : ما الذي تقدّمه معاجم اللغة إذاً؟
الجواب هو أنّ معجم اللغة يزوّدنا بمعاني ألفاظ اللغة، لكنّه لا يبيّن لنا ماهيّة هذه المعاني. أي أنّه لا يجيب عن السؤال المطروح: ما هو المعنى؟
إنّ العلاقة بين الدّال والمدلول، وهي في صُلب اهتمام علم الدّلالة، كما أشرنا قبل قليل، تختزل العلاقة بين اللغة والفكر، مع كلّ العناصر والإشكالات التي تطرحها هذه العلاقة، ومن ثَمَّ أسبقية أحدهما على الآخر: اللغة أم الفكر.
إنّ هذه العلاقة بالذات هي التي حدَتْ ببعض علماء اللغة إلى محاولة تجاوز البحث في مسألة الدّلالة، بحجّة ارتباطها بالدراسات النفسية، فحاولوا عزل الجانب العقليّ للغة عن اللغة ذاتها، منطلقين في ذلك من مقولة خلاصتها أنّ اللغة تقوم بصياغة وسائل التعبير عن الأشياء لدى الإنسان، لكنّها لا تكوّن معرفته بها.
إلّا أنّ مثل هذه المقولة لا يمكن لها أنْ تحسم هذه المسألة؛ إذ إنّه من غير الممكن فصل فعّاليات معرفة العالم عن معرفة اللغة. كما أنّ اللغة ليست مجرّد حامل للأفكار فحسب، بل إنّها تسهم بشكل فعّال في تشكيل هذه الأفكار. وقد عبر العالِم الألسني( سابير-Sapir) عن طبيعة هذه العلاقة التي تربط اللغة بالفكر، بل اللغة بالواقع بصورة عامة، حيث رأى أنّ العالم الذي نعيش فيه إنّما هو" امتداد واسع غير مدرَك، مبنيّ على العادات اللغوية للجماعة".
أمّا عالم الاجتماع ( آدم شاف-Schaff) فإنّه يؤكّد على ارتباط عملية الإدراك ذاتها باللغة ، حيث يقول:" إنّ الفكر المتصَوَّر لا يمكن إدراكه بدون اللغة؛ ذلك أنّ الإنسان ، إثر عمليّة مركّبة من التربية الاجتماعيّة، لا يتعلّم الكلام وحده، بل والتفكير أيضاً. إنّه يتعلّم ذلك متلقّياً عن المجتمع منتوجاً جاهزاً تماماً، هو الوحدة اللغويّة- الفكريّة.
#دكتور_زياد_العوف
لقد تجاذبتْ مباحث المعنى ومشكلاتِه، قبل نشوء واكتمال( علم الدّلالة) بمفهومه الحديث، جملةٌ من العلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء منها العلوم اللغوية كالنحو واللغة والبلاغة وما يتّصل بها، أو غير اللغوية كعلوم المنطق والنفس والاجتماع، فضلاً عن الفلسفة بطبيعة الحال. ولا غرابة في ذلك؛ حيث إنّ" مشكلة المعنى" تقع في الصميم من اهتمامات العلوم الإنسانية جميعها. وكما يلاحظ عالِم الدّلالة( غريماس) بحقّ فإنّ: " العلوم الإنسانية يمكن أنْ تجد قاسمها المشترك في البحث المنصبّ على الدّلالة". إلّا أنّه في حكم المؤكّد ، مع ذلل، أنّ علم المنطِق، وبخاصة( مبحث التّصورات) هو المعنيّ الأول بمسألة المعنى، بالمقارنة مع العلوم الأخرى المشار إليها.
إنّ موضوع العلاقة بين( الألفاظ والمعاني) ، أو بتعبير سيميائي أكثر شمولاً، بين( الدّوال والمدلولات) يمثّل ، دون ريب، محور اهتمام المنطق الصّوريّ، ولعلّه من المفيد هنا الإشارة إلى الجهود الواضحة لعلماء المنطق العرب في التُّراث العربي الإسلاميّ. لقد أسهم هؤلاء العلماء بقسط وافر في قضايا الدّلالة على اتّساعها وتشعّبها، نشير في هذا الشأن- على سبيل المثال لا الحصر- إلى تمييزهم بين " الدّلالة اللفظية" و" الدلالة غير اللفظية"، وكذلك تمييزهم بين الدلالتين" الوضعية"و" غير الوضعيّة".
أمّا في باب دلالة اللفظ على المعنى وتحديد العلاقة بينهما، فقد ميّز المناطقة العرب بين كلّ من:
- دلالة المطابقة: عندما يتطابق اللفظ مع معناه.
- دلالة التّضمّن: وفيها يكون المعنى جزءاً من المعنى الذي يطابقه اللفظ.
- دلالة الالتزام: حيث يكون اللفظ دالّاً بالمطابقة على معنى ، بحيث يلزم عن هذا المعنى معنى آخر سواه.
ولا بدّ من التأكيد هنا على أنّ تأثّر المنطق العربي بالمنطق اليوناني لا يقلّل، بحال من الأحوال، من شأن إسهامات علماء المنطق العرب في هذا المجال؛ إذ إنّهم لم يكونوا مجرّد ناقلين لمسائله ومجترّين لقضاياه، بل إنّهم قد تناولوا ذلك كلّه بالإضافة والتعديل والنقد والتحليل، بما يجعل مصنّفاتهم المنطقيّة أقرب إلى الابتكار منها إلى التّكرار.
- ما هو المعنى؟
سؤال شائك وكبير يحتمل إجابات
كثيرة؛ فمن الممكن أنْ نقول طبقاً لمبدأ التعريف بالسلب ، مثلاً، إنّ المعنى ليس كياناً مستقلاً؛ أي أنّه ليس كياناً قائماً بذاته تنطوي عليه الألفاظ أو الكلمات. أمّا إذا أردنا تعريفاً إيجابياً،فبوسعنا القول: إنّ المعنى هو فهم ماهية الألفاظ والعبارات. إنّ ( نظرية المعنى) وفق التعريف السابق تبحث في كيفية امتلاء الألفاظ بالدلالات؛ أي كيف يمكن للألفاظ أن تكون ذات معنى؟
وبناء على ذلك فإنّ( علم الدلالة) يأخذ على عاتقه البحث في الآليّات والقواعد التي تتحكّم في إنتاج المعنى في اللغة.
ولسائل أنْ يسأل مثلاً : ما الذي تقدّمه معاجم اللغة إذاً؟
الجواب هو أنّ معجم اللغة يزوّدنا بمعاني ألفاظ اللغة، لكنّه لا يبيّن لنا ماهيّة هذه المعاني. أي أنّه لا يجيب عن السؤال المطروح: ما هو المعنى؟
إنّ العلاقة بين الدّال والمدلول، وهي في صُلب اهتمام علم الدّلالة، كما أشرنا قبل قليل، تختزل العلاقة بين اللغة والفكر، مع كلّ العناصر والإشكالات التي تطرحها هذه العلاقة، ومن ثَمَّ أسبقية أحدهما على الآخر: اللغة أم الفكر.
إنّ هذه العلاقة بالذات هي التي حدَتْ ببعض علماء اللغة إلى محاولة تجاوز البحث في مسألة الدّلالة، بحجّة ارتباطها بالدراسات النفسية، فحاولوا عزل الجانب العقليّ للغة عن اللغة ذاتها، منطلقين في ذلك من مقولة خلاصتها أنّ اللغة تقوم بصياغة وسائل التعبير عن الأشياء لدى الإنسان، لكنّها لا تكوّن معرفته بها.
إلّا أنّ مثل هذه المقولة لا يمكن لها أنْ تحسم هذه المسألة؛ إذ إنّه من غير الممكن فصل فعّاليات معرفة العالم عن معرفة اللغة. كما أنّ اللغة ليست مجرّد حامل للأفكار فحسب، بل إنّها تسهم بشكل فعّال في تشكيل هذه الأفكار. وقد عبر العالِم الألسني( سابير-Sapir) عن طبيعة هذه العلاقة التي تربط اللغة بالفكر، بل اللغة بالواقع بصورة عامة، حيث رأى أنّ العالم الذي نعيش فيه إنّما هو" امتداد واسع غير مدرَك، مبنيّ على العادات اللغوية للجماعة".
أمّا عالم الاجتماع ( آدم شاف-Schaff) فإنّه يؤكّد على ارتباط عملية الإدراك ذاتها باللغة ، حيث يقول:" إنّ الفكر المتصَوَّر لا يمكن إدراكه بدون اللغة؛ ذلك أنّ الإنسان ، إثر عمليّة مركّبة من التربية الاجتماعيّة، لا يتعلّم الكلام وحده، بل والتفكير أيضاً. إنّه يتعلّم ذلك متلقّياً عن المجتمع منتوجاً جاهزاً تماماً، هو الوحدة اللغويّة- الفكريّة.
#دكتور_زياد_العوف