«عندما يغيب الطالب ويحضر المطلوب، وعندما يغيب المريد ويحضر المُراد، تغيب لحظة الحقيقة عياناً وتحضر قصتها».
بهذه الكلمات افتتح عبد الرحيم الشيخ جلسة مناقشة أطروحة الطالب زكريا الزبيدي: «الصياد والتنين، تجربة المطاردة الفلسطينية 1968- 2018»، لنيل شهادة الماجستير في برنامج الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت.
لم يسبق لي أن حضرت أو شاهدت أو شاركت في مناقشة أطروحة جامعية وسط مناخ يشبه مناخ هذه المناقشة المثيرة التي جرت صباح السبت 2 تموز- يوليو 2022.
كل شيء كان معداً لاستقبال الغائب خلف قضبان سجن أيالون في الرَمْلة. والغائب نجح في تحويل الغياب إلى حضور، والسجن إلى مساحة للحرية، والزنزانة إلى مدخل لحفر نفق الحرية.
ما شاهدناه واستمعنا إليه كان ساحراً وجميلاً، الحلم غادر دائرة الأمنيات محوّلاً الكلمات إلى واقع نستطيع لمسه بأعيننا وآذاننا وأيدينا.
هذا السحر لم يكن ممكناً من دون صورة الفدائي. وزكريا الزبيدي كان هنا تجسيداً لهذه الصورة التي لا تمحى لأنها مغروسة في الأرض.
المشرف على الأطروحة، الكاتب والشاعر والأكاديمي اللامع عبد الرحيم الشيخ مع رفيقيه في اللجنة الأستاذين: جمال ضاهر ووليد الشرفا، صنعوا لنا مشهداً مدهشاً. رأيناهم يناقشون ورأينا زكريا في مجموعة من الحوارات المصورة. وكان الأساتذة والطالب يصنعون المعنى، «في رحلة العبور من التأمل إلى الإدراك»، كما قال وليد الشرفا ملخصاً تجربة القائد في «كتائب شهداء الأقصى»، زكريا الزبيدي.
خاض زكريا ورفاقه في مخيم جنين المعركة بين «صاحب المكان والأقرب إلى الطبيعة، والصياد الطارئ على الأرض»، كما قال جمال ضاهر، وكان يحمل سلاحين: البندقية والمعرفة. البندقية سلاح للدفاع عن الحياة، أما المعرفة فتضيء للبندقية الطريق إلى الطريق.
الحوارات مع زكريا الزبيدي التي شاهدناها على الشاشة في قاعة المناقشة، أخذتنا إلى صورة غسان كنفاني متحدياً الشمس، ويدَي كمال ناصر المصلوبتين على دمه، وطفل ناجي العلي الذي جمع الحكمة والتحدي.
كيف استطاع أبو محمد أن يجسّد كل هذه الأبعاد، وهو يتعرض للتعذيب والشَبْح على أيدي الجلاد المحتل؟ وكيف استطاع أن يهدينا الحلم وهو يعيش في كابوس العزل الانفرادي؟
هذا هو السر الذي لا يعرفه سوى من عاش تجربة العمل مع فدائيين يتعاملون مع الموت بصفته اكتشافاً للمعاني التي تستولد البداية من النهاية.
لذلك لم تفاجئنا صراحة الطفل الذي عاش تجربة مسرح الحرية في مخيم جنين، والذي أعاد فتح المسرح ببندقيته إلى جانب صديقه الشهيد جوليانو مير خميس. هذا المسرح جعل من الفن معبراً إلى الشهادة والاستشهاد.
زكريا سُجن فتى، وقاتل شاباً إلى جانب علاء الصبّاغ في مخيم جنين، وصار أحد قادة كتائب شهداء الأقصى، وتحول إلى مطارَد من قبل المحتلين وأيضاً من قبل السلطة الفلسطينية. لم يتردد الزبيدي لحظة وهو يعلن أن لا وجود لدولة أو لسلطة في فلسطين، فالدولة يبنيها الأحرار ولا يؤسسها العبيد.
كان زكريا متميزاً في كلامه، لا لأنه أتى بأخبار لا نعرفها، بل لأنه جرؤ على قول البدهيّ والحقيقي والبسيط. صارت البداهة اكتشافاً في زمن موت الروح الذي يحاصرنا. قال زكريا أكثر الكلمات وضوحاً: «لا يوجد ما يسمونه مقاومة ثقافية، هناك ثقافة المقاومة، وهذه الثقافة تتسع لجميع الأشكال».
الفرق بين العبارة الأولى التي تجعل من الثقافة بديلاً للمقاومة، وتبرر خواء النخب الحاكمة وهشاشة الثقافة السائدة، وبين العبارة الثانية، واضح. فالثقافة في شروط الاحتلال إما أن تكون ثقافة المقاومة أو لا تكون.
هذا هو التحدي، ليس في فلسطين المحتلة وحدها بل في كل بلاد العرب. فمقاومة الاحتلال والظلم والعسف هي أبجدية الثقافة وأفقها.
من صفوف المقاتلين ومن تجربة المطاردة الطويلة، كتب زكريا أطروحته، وكانت خطوته الأولى هي قلب دلالات حكاية مار جريس – الخضر الذي قتل التنين. الخضر صار اليوم هو التنين الذي يلاحقه الصياد المحتل. يهرب التنين من شباك المحتل ولا ينظر إلى الوراء، ثم يواجه المحتل بإيمان بالحق يعطيه شجاعة أسطورية.
يوم السبت الماضي شهدنا إحدى أكثر عمليات المطارد جرأة، إذ قام زكريا الزبيدي بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين، الذين يتميزون بالحكمة والمعرفة والشجاعة، بإعادة تعريف الجامعة، مؤكدين المؤكد، وهو أن جامعة بيرزيت كانت وستبقى إطاراً يتخرج منه قادة النضال والحرية.
إلى جانب اللجنة الأكاديمية التي تألفت من ثلاثة أساتذة، تشكلت لجنة ثلاثية أطلقوا عليها اسم «لجنة المعرفة والحرية» من خارج الإطار الأكاديمي لجامعة بيرزيت. لقد شرفتني الجامعة عبر ضمّي إلى هذه اللجنة، إلى جانب القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي، والأسير المناضل وليد دقة.
لجنتان ناقشتا الرسالة وتأملتا في دلالاتها، وخلصتا إلى منح الطالب زكريا الزبيدي درجة الامتياز، وبالوقوف وتأدية التحية لأستاذ الحرية الذي يواجه الصياد الإسرائيلي هو ورفاقه عبر حفر نفقين، الأول تحت أسوار السجن، والثاني تحت أسوار الثقافة السائدة.
نفقان يعيدان اليوم صوغ فكرة فلسطين، من شوك الصبار وحلاوته، ومن الحرية بصفتها اسماً لمسرح المقاومة المستمرة في مواجهة النكبة المستمرة.
نفقان دفعا زكريا إلى الطلب من أستاذه حذف نقطة النهاية من الفصل الأخير من أطروحته.
ابن الشهيدة وأخ الشهيد، ليس معنياً بوضع نقطة النهاية، لأنه يقوم مع رفاقه بتأسييس بداية تبدأ باستمرار.
هذه هي البداية أيها الطالب والأستاذ، لقد أعطيتنا شرف أن نرافقك في رحلتك الشاقة، وأن نعبر معك نفق البحث عن كلمات تليق بنبل الفدائيين وشجاعتهم.
وعندما انتهت المناقشة، تراءى لي مشهد أبطال نفق الحرية في سجن جلبوع وهم يدخلون في قصيدة محمود درويش، وكأنهم يرثون السماء من السماء:
«أنتَ المُعَلَّقُ فوق صُبَّار البراري من يديكْ
وعليكَ صَقْرٌ من مخاوفنا عليكْ
وعليك أَن ترث السماء من السماءْ
وعليكَ أَرضٌ مثل جلد الروح تثقُبُهُ زهورُ الهِنْدباء
وعليكَ أَن تختار فَأْسَكَ من بنادقهمْ عليكْ».
بهذه الكلمات افتتح عبد الرحيم الشيخ جلسة مناقشة أطروحة الطالب زكريا الزبيدي: «الصياد والتنين، تجربة المطاردة الفلسطينية 1968- 2018»، لنيل شهادة الماجستير في برنامج الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت.
لم يسبق لي أن حضرت أو شاهدت أو شاركت في مناقشة أطروحة جامعية وسط مناخ يشبه مناخ هذه المناقشة المثيرة التي جرت صباح السبت 2 تموز- يوليو 2022.
كل شيء كان معداً لاستقبال الغائب خلف قضبان سجن أيالون في الرَمْلة. والغائب نجح في تحويل الغياب إلى حضور، والسجن إلى مساحة للحرية، والزنزانة إلى مدخل لحفر نفق الحرية.
ما شاهدناه واستمعنا إليه كان ساحراً وجميلاً، الحلم غادر دائرة الأمنيات محوّلاً الكلمات إلى واقع نستطيع لمسه بأعيننا وآذاننا وأيدينا.
هذا السحر لم يكن ممكناً من دون صورة الفدائي. وزكريا الزبيدي كان هنا تجسيداً لهذه الصورة التي لا تمحى لأنها مغروسة في الأرض.
المشرف على الأطروحة، الكاتب والشاعر والأكاديمي اللامع عبد الرحيم الشيخ مع رفيقيه في اللجنة الأستاذين: جمال ضاهر ووليد الشرفا، صنعوا لنا مشهداً مدهشاً. رأيناهم يناقشون ورأينا زكريا في مجموعة من الحوارات المصورة. وكان الأساتذة والطالب يصنعون المعنى، «في رحلة العبور من التأمل إلى الإدراك»، كما قال وليد الشرفا ملخصاً تجربة القائد في «كتائب شهداء الأقصى»، زكريا الزبيدي.
خاض زكريا ورفاقه في مخيم جنين المعركة بين «صاحب المكان والأقرب إلى الطبيعة، والصياد الطارئ على الأرض»، كما قال جمال ضاهر، وكان يحمل سلاحين: البندقية والمعرفة. البندقية سلاح للدفاع عن الحياة، أما المعرفة فتضيء للبندقية الطريق إلى الطريق.
الحوارات مع زكريا الزبيدي التي شاهدناها على الشاشة في قاعة المناقشة، أخذتنا إلى صورة غسان كنفاني متحدياً الشمس، ويدَي كمال ناصر المصلوبتين على دمه، وطفل ناجي العلي الذي جمع الحكمة والتحدي.
كيف استطاع أبو محمد أن يجسّد كل هذه الأبعاد، وهو يتعرض للتعذيب والشَبْح على أيدي الجلاد المحتل؟ وكيف استطاع أن يهدينا الحلم وهو يعيش في كابوس العزل الانفرادي؟
هذا هو السر الذي لا يعرفه سوى من عاش تجربة العمل مع فدائيين يتعاملون مع الموت بصفته اكتشافاً للمعاني التي تستولد البداية من النهاية.
لذلك لم تفاجئنا صراحة الطفل الذي عاش تجربة مسرح الحرية في مخيم جنين، والذي أعاد فتح المسرح ببندقيته إلى جانب صديقه الشهيد جوليانو مير خميس. هذا المسرح جعل من الفن معبراً إلى الشهادة والاستشهاد.
زكريا سُجن فتى، وقاتل شاباً إلى جانب علاء الصبّاغ في مخيم جنين، وصار أحد قادة كتائب شهداء الأقصى، وتحول إلى مطارَد من قبل المحتلين وأيضاً من قبل السلطة الفلسطينية. لم يتردد الزبيدي لحظة وهو يعلن أن لا وجود لدولة أو لسلطة في فلسطين، فالدولة يبنيها الأحرار ولا يؤسسها العبيد.
كان زكريا متميزاً في كلامه، لا لأنه أتى بأخبار لا نعرفها، بل لأنه جرؤ على قول البدهيّ والحقيقي والبسيط. صارت البداهة اكتشافاً في زمن موت الروح الذي يحاصرنا. قال زكريا أكثر الكلمات وضوحاً: «لا يوجد ما يسمونه مقاومة ثقافية، هناك ثقافة المقاومة، وهذه الثقافة تتسع لجميع الأشكال».
الفرق بين العبارة الأولى التي تجعل من الثقافة بديلاً للمقاومة، وتبرر خواء النخب الحاكمة وهشاشة الثقافة السائدة، وبين العبارة الثانية، واضح. فالثقافة في شروط الاحتلال إما أن تكون ثقافة المقاومة أو لا تكون.
هذا هو التحدي، ليس في فلسطين المحتلة وحدها بل في كل بلاد العرب. فمقاومة الاحتلال والظلم والعسف هي أبجدية الثقافة وأفقها.
من صفوف المقاتلين ومن تجربة المطاردة الطويلة، كتب زكريا أطروحته، وكانت خطوته الأولى هي قلب دلالات حكاية مار جريس – الخضر الذي قتل التنين. الخضر صار اليوم هو التنين الذي يلاحقه الصياد المحتل. يهرب التنين من شباك المحتل ولا ينظر إلى الوراء، ثم يواجه المحتل بإيمان بالحق يعطيه شجاعة أسطورية.
يوم السبت الماضي شهدنا إحدى أكثر عمليات المطارد جرأة، إذ قام زكريا الزبيدي بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين، الذين يتميزون بالحكمة والمعرفة والشجاعة، بإعادة تعريف الجامعة، مؤكدين المؤكد، وهو أن جامعة بيرزيت كانت وستبقى إطاراً يتخرج منه قادة النضال والحرية.
إلى جانب اللجنة الأكاديمية التي تألفت من ثلاثة أساتذة، تشكلت لجنة ثلاثية أطلقوا عليها اسم «لجنة المعرفة والحرية» من خارج الإطار الأكاديمي لجامعة بيرزيت. لقد شرفتني الجامعة عبر ضمّي إلى هذه اللجنة، إلى جانب القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي، والأسير المناضل وليد دقة.
لجنتان ناقشتا الرسالة وتأملتا في دلالاتها، وخلصتا إلى منح الطالب زكريا الزبيدي درجة الامتياز، وبالوقوف وتأدية التحية لأستاذ الحرية الذي يواجه الصياد الإسرائيلي هو ورفاقه عبر حفر نفقين، الأول تحت أسوار السجن، والثاني تحت أسوار الثقافة السائدة.
نفقان يعيدان اليوم صوغ فكرة فلسطين، من شوك الصبار وحلاوته، ومن الحرية بصفتها اسماً لمسرح المقاومة المستمرة في مواجهة النكبة المستمرة.
نفقان دفعا زكريا إلى الطلب من أستاذه حذف نقطة النهاية من الفصل الأخير من أطروحته.
ابن الشهيدة وأخ الشهيد، ليس معنياً بوضع نقطة النهاية، لأنه يقوم مع رفاقه بتأسييس بداية تبدأ باستمرار.
هذه هي البداية أيها الطالب والأستاذ، لقد أعطيتنا شرف أن نرافقك في رحلتك الشاقة، وأن نعبر معك نفق البحث عن كلمات تليق بنبل الفدائيين وشجاعتهم.
وعندما انتهت المناقشة، تراءى لي مشهد أبطال نفق الحرية في سجن جلبوع وهم يدخلون في قصيدة محمود درويش، وكأنهم يرثون السماء من السماء:
«أنتَ المُعَلَّقُ فوق صُبَّار البراري من يديكْ
وعليكَ صَقْرٌ من مخاوفنا عليكْ
وعليك أَن ترث السماء من السماءْ
وعليكَ أَرضٌ مثل جلد الروح تثقُبُهُ زهورُ الهِنْدباء
وعليكَ أَن تختار فَأْسَكَ من بنادقهمْ عليكْ».