نقد الدكتور طه حسين نقد شائق، وهو بلا شك يحتاج من قارئه إلى صبرٍ في التلقي، وخلفية لا بأس بها من علوم اللغة حتى يستطيع مسايرة مراد الدكتور بنقده. ثم إنه الدكتور إلى ذلك صاحب رأي يستطيع إيجاد حججه لإثبات دعواه، وربما رأيته مقنعا إن أنت سرت وأدلته، وبيِّناته، لكن سيظل في نفسك شيء من التحامل من الدكتور على بعض خصومه.
ولم أعجب أن أجد له نقدا متحاملا على المتنبي في كتابه "مع المتنبي"* ، فقد فعل قريبا من ذلك مع أمير الشعراء، أحمد شوقي، ويمكن الاطلاع على ذلك في مظانه.
يقول د. طه حسين في أخذه لامية المتنبي التي مدح بها سعيد بن عبدالله، التي يقول فيها:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جارٍ على ضعفي وما عدلا
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا
والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
إلى أن يقول:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
والدكتور طه حسين يقول في هذه الأبيات عجبا، استنكارا منه، والحق إن الأبيات ليست مستنكرة، ولا يحزنون.
في نقده للبيت:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
يقول عن البيت:
"فسترى فيه مبالغة ظاهرها يخلب، ولكن تحقيقها يدل على أن صاحبها صبي، لم ينضج تفكيره بعد، ذلك إن رجع الضمير في "لها" على المنايا، مع تقدم الضمير وتأخر المرجع في اللفظ، وأنا أعلم أن هذا ليس خطأ، ولست أذكره لذلك، وإنما أذكره لأضع يدك على الجهد الذي يبذله الصبي في إقامة شعره"** .
ما أستعجب له في هذا الاستدلال، هو إثبات الدكتور صحة الترتيب لغة، كقول الله تعالى: "فأوجس في نفسه خيفة موسى"، ثم إنه يقول: لست أذكر هذا الاستشهاد لذلك، فنتوقع منه الإتيان بدليل يبرر نقده بأن ظاهر البيت خلَّب، فلا نجد إلا قوله: "وإنما أذكره لأضع يدك على الجهد الذي يبذله الصبي في إقامة شعره". وأنا يبات وضعت يدي على الجهد وحمدته، ولم أعثر على الخلب الذي قال به الدكتور، بل عثرت على معنى يطير بنا سموا في الإحساس بالموت والفراق إلى آفاق بعيدة.
وأما نقده للبيتين الَّذَيْن يصف فيهما بني تميم، وهزيمتهم:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
فعن البيت الأول يقول الدكتور:
"فالبيت يذكرك من غير شك بقول جرير للأخطل:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلا تشدُّ عليكمُ ورجالا".
ويكتفي بهذا الاستدلال، الذي سُبق إليه بالتأكيد، والواحدي ممن استشهد به في هذا الموضع في كتابه شرح ديوان المتنبي، وزاد الواحدي قوله: قال أبو عبيدة لما أنشد الأخطل قول جرير فيه هذا، قال سرقه والله من كتاب الله تعالى يحسبون كل صيحة عليهم الآية*** .
وأنا أرى غير ما يرى الدكتور من اختلاف بين البيتين، ففي بيت جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلا تشدُّ عليكمُ ورجالا".
هناك أشياء، يراها الهارب، فهو يرى واقعا، لكنه يتوهمه خيلا، ورجالا، بينما في بيت المتنبي:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
لا وجود لأشياء تُتَوهَّمُ خيلا، ورجالا، بل هناك لا شيء، بمعنى أنهم يتوهمون العدم لشدة خوفهم، وفي هذا بون بين المعنيين، والغلبة بالتأكيد تخييلا للمتنبي.
وفي البيت المدهش الذي يقول فيه المتنبي:
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول الدكتور طه حسين:
فما رأيك في هذا الطفل الذي تركض في لهواته تميم بخيلها فلا يأخذه السعال؟ ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ وما عسى أن تكون تميم، وخيل تميم؟ وعلى هذا النحو من الكلام الذي تتكلف فيه المبالغة في المعنى، والملائمة في الألفاظ، يمضي الشاعر حتى يتم قصيدته، ونحن لا نكاد نخرج من هذه القصيدة بشيء ذي غناء ..."****
ومعنى البيت:
بعد هذه الوقعة، وبعد فعل الممدوح (سعيد بن عبدالله) بتميم كل هذا التنكيل، لو ركضت خيل بني تميم في لهوات الطفل ما سعل، لقلتهم، وهوانهم، فكأنهم لا شيء بعد تلكم الواقعة.
فهل في هذا الوصف المبتكر ما يعيبه، اللهم إلا رأي الدكتور في المتنبي، فلو قلنا إنه شعر صباه، أفيحمد منا مدحه أم هجاؤه؟!
هوامش:
* حسين، طه (2013). مع المتنبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة.
** المصدر السابق، ص 56
*** النيسابوري، أبو الحسن، (1999م). شرح ديوان المتنبي، ط 1، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، ج1، ص 151.
**** حسين، طه (2013). مع المتنبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ص 60
ولم أعجب أن أجد له نقدا متحاملا على المتنبي في كتابه "مع المتنبي"* ، فقد فعل قريبا من ذلك مع أمير الشعراء، أحمد شوقي، ويمكن الاطلاع على ذلك في مظانه.
يقول د. طه حسين في أخذه لامية المتنبي التي مدح بها سعيد بن عبدالله، التي يقول فيها:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جارٍ على ضعفي وما عدلا
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا
والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
إلى أن يقول:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
والدكتور طه حسين يقول في هذه الأبيات عجبا، استنكارا منه، والحق إن الأبيات ليست مستنكرة، ولا يحزنون.
في نقده للبيت:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
يقول عن البيت:
"فسترى فيه مبالغة ظاهرها يخلب، ولكن تحقيقها يدل على أن صاحبها صبي، لم ينضج تفكيره بعد، ذلك إن رجع الضمير في "لها" على المنايا، مع تقدم الضمير وتأخر المرجع في اللفظ، وأنا أعلم أن هذا ليس خطأ، ولست أذكره لذلك، وإنما أذكره لأضع يدك على الجهد الذي يبذله الصبي في إقامة شعره"** .
ما أستعجب له في هذا الاستدلال، هو إثبات الدكتور صحة الترتيب لغة، كقول الله تعالى: "فأوجس في نفسه خيفة موسى"، ثم إنه يقول: لست أذكر هذا الاستشهاد لذلك، فنتوقع منه الإتيان بدليل يبرر نقده بأن ظاهر البيت خلَّب، فلا نجد إلا قوله: "وإنما أذكره لأضع يدك على الجهد الذي يبذله الصبي في إقامة شعره". وأنا يبات وضعت يدي على الجهد وحمدته، ولم أعثر على الخلب الذي قال به الدكتور، بل عثرت على معنى يطير بنا سموا في الإحساس بالموت والفراق إلى آفاق بعيدة.
وأما نقده للبيتين الَّذَيْن يصف فيهما بني تميم، وهزيمتهم:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
فعن البيت الأول يقول الدكتور:
"فالبيت يذكرك من غير شك بقول جرير للأخطل:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلا تشدُّ عليكمُ ورجالا".
ويكتفي بهذا الاستدلال، الذي سُبق إليه بالتأكيد، والواحدي ممن استشهد به في هذا الموضع في كتابه شرح ديوان المتنبي، وزاد الواحدي قوله: قال أبو عبيدة لما أنشد الأخطل قول جرير فيه هذا، قال سرقه والله من كتاب الله تعالى يحسبون كل صيحة عليهم الآية*** .
وأنا أرى غير ما يرى الدكتور من اختلاف بين البيتين، ففي بيت جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلا تشدُّ عليكمُ ورجالا".
هناك أشياء، يراها الهارب، فهو يرى واقعا، لكنه يتوهمه خيلا، ورجالا، بينما في بيت المتنبي:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنَّه رجلا
لا وجود لأشياء تُتَوهَّمُ خيلا، ورجالا، بل هناك لا شيء، بمعنى أنهم يتوهمون العدم لشدة خوفهم، وفي هذا بون بين المعنيين، والغلبة بالتأكيد تخييلا للمتنبي.
وفي البيت المدهش الذي يقول فيه المتنبي:
فبعده، وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول الدكتور طه حسين:
فما رأيك في هذا الطفل الذي تركض في لهواته تميم بخيلها فلا يأخذه السعال؟ ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ وما عسى أن تكون تميم، وخيل تميم؟ وعلى هذا النحو من الكلام الذي تتكلف فيه المبالغة في المعنى، والملائمة في الألفاظ، يمضي الشاعر حتى يتم قصيدته، ونحن لا نكاد نخرج من هذه القصيدة بشيء ذي غناء ..."****
ومعنى البيت:
بعد هذه الوقعة، وبعد فعل الممدوح (سعيد بن عبدالله) بتميم كل هذا التنكيل، لو ركضت خيل بني تميم في لهوات الطفل ما سعل، لقلتهم، وهوانهم، فكأنهم لا شيء بعد تلكم الواقعة.
فهل في هذا الوصف المبتكر ما يعيبه، اللهم إلا رأي الدكتور في المتنبي، فلو قلنا إنه شعر صباه، أفيحمد منا مدحه أم هجاؤه؟!
هوامش:
* حسين، طه (2013). مع المتنبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة.
** المصدر السابق، ص 56
*** النيسابوري، أبو الحسن، (1999م). شرح ديوان المتنبي، ط 1، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، ج1، ص 151.
**** حسين، طه (2013). مع المتنبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ص 60