خالد جهاد - الهروب

لا نستطيع أن نلجأ إلى التعميم حول أي فكرة أو نموذج أو ظاهرة مهما كانت الصورة أو المعطيات تميل إلى اتجاهٍ دون آخر، لأن الحياة لا تخلو من استثناءات وكون الإستثناءات تقودنا في كثيرٍ من الأحيان إلى واقعٍ أجمل، لذلك قررت مؤخراً على غير العادة أن ألقي نظرةً على بعضٍ من آخر الإصدارات الأدبية في العالم العربي بعد أن حصر ت اهتمامي في تجارب الأسماء البارزة أغلب سنوات حياتي، وقررت أن يكون اختياري لعملٍ جديد يحظى بالإقبال والرواج في الوقت الحالي ولذلك بحثت متعمداً عن اسمٍ شاب غير معروف لسببين هو محاولة معرفة اتجاه الكتاب الجدد في الكتابة والموضوعات التي يعالجونها، ومعرفة اتجاه الشباب (الذي لا يزال يقرأ) ومعرفة نوعية الأعمال التي يقرأها وتكوين فكرة وإن كانت متواضعة عن الحالة العامة في الوقت الحالي..

وبعد قراءة هذا العمل خرجت بنفس الإنطباع الذي علق بذهني قبل ثلاث سنوات عندما قمت بنفس الخطوة، وكان تردي أغلب الأعمال المتوفرة سبب قطيعتي مع أغلب الإصدارات الحديثة، حيث وجدت التقاء الكثير من الكتاب الجدد مع القراء (دون تعميم لوجود العديد من الإستثناءات) في عدد من النقاط، ولكن تظل السمة الأساسية لها والغالبة عليها هي (الهروب من الواقع)، فنجد الكثير من الإصدارات الحديثة تقدم روايات بوليسية أو رومانسية تقدم الحب بطريقة سطحية نمطية مكررة ومستنسخة ملايين المرات وبأسلوب مفتعل وغياب كامل لمعنى أو هوية النص، أو تقديم روايات تتحدث عن المستقبل بأسلوب أقرب لأفلام الخيال العلمي في السينما الأمريكية وتقع أحداثها بعد مئات السنين أو حتى أعمال تتحدث عن السحر والشعوذة وعالم الشياطين، إلى جانب متفرقات متواضعة المضمون لا تخرج عن محاكاة النماذج والإصدارات الغربية من ناحية انتقاء المواضيع التي لا تضيف شيئاً للقارىء، أو طريقة الكتابة وصولاً إلى تصميم الغلاف وحتى اختيار العنوان وكأننا نعيش في دول اسكندنافية حيث يستطيع أي قارىء بسيط أن يشعر بأنه أمام حالة مزيفة ومصطنعة من الألف إلى الياء..

وبشكلٍ تلقائي تذكرت العديد من الأسماء والأعمال الفنية والأدبية البارزة من مختلف الخلفيات الثقافية على امتداد بلادنا، والتي صنعت بشكل أو بآخر تاريخاً لا زلنا نتعلم منه رغم مرور عقودٍ طويلة.. وهنا سألت نفسي وكان السؤال في داخلي موجهاً لجميع من يتعاطى في الشأن الفني والثقافي على اختلاف اهتماماته وموهبته وتوجهه.. لماذا نكتب؟ أو لماذا نبدع ؟ هل لأننا فعلاً نقدم ما نؤمن به أم رغبةً في الوصول إلى الشهرة وتحقيق نوع من التمايز عن الآخرين في محيطنا ؟ هل نكتب أو نرسم أو نصور أو نمثل طمعاً في كلمات الإطراء والثناء أم أن هناك من لديه حقاً ما يقدمه؟ هل نقدم أعمالاً تشبهنا وتشبه بيئتنا وهمومنا أم هناك حالة من الإنفصال المتعمد عن الواقع والتوجه نحو استنساخ النماذج الغربية دون تفكير ؟ هل نقدم للناس ما يرتقي بهم وبذائقتهم أم أننا نقدم ما يجعلنا أكثر بروزاً وسطوعاً ويرضي الأنا بداخل كلٍ منا ؟ هل نقدم الحالة الوجدانية أو الإنسانية أم ننتهز الفرصة لتقديم أنفسنا من خلالها ؟ هل نتناول ظاهرة أو قضية أو موضوع بغية طرح وجهات النظر وبحثاً عن حوار قد يقودنا إلى حل يساهم في التغيير نحو الأفضل أم لتعمد لفت الأنظار ؟ هل القضايا التي تطفو على السطح من وقتٍ لآخر وينشغل بها (المثقفون) بعد صمتهم الطويل المعتاد عن قضايانا الملحة هي قضايا ذات أولوية أو تشكل أهمية للمواطن البسيط بحيث تؤثر على حياته بشكل مباشر أم أنها فرصة لتذكيره بأن (النخب) تفكر فيما هو (أبعد وأعمق) ؟ هل الحديث المتكرر عن الحرية والجرأة التي لا تعرف حدوداً أو خطوطاً حمراء يمكنها أن تقترب (ولو قليلاً) من حوارات وأفكار الأعمال الواقعية والإجتماعية التي كانت موجودة حتى نهاية التسعينيات ؟ وبما أن مفهوم الحرية لا يتجزأ هل يمكن أن نرى تجسيداً فعلياً لواقعنا من خلال التطرق إلى الموضوعات الهامة ومن ضمنها الموضوعات السياسية التي يتجنبها الكثير من الوجوه والأقلام في نفس الوقت الذي تمطرنا بتقديم نظرياتها (الإبداعية والتقدمية) المحصورة في إطار الجنس ومهاجمة الأديان ؟ وهل سيتم تأريخ هذه الأعمال أو الأفكار أو يكتب لها الإستمرارية أو تقدم بعد عقود كصورة أو وثيقة عن المرحلة الحالية كما حدث ذلك مع الأعمال الكلاسيكية والتي أرخت للواقع والحياة الإجتماعية وثقافة الناس في تلك الحقبة ؟

ومن المؤكد أنه لا يوجد نموذج كامل حيث قد نتفق مع أعمال أو أفكار فيما نختلف مع بعضها لنفس الشخص، لكن المهم هو وجود فكرة تستحق الطرح أو النقاش ووجود قيمة أو حالة أو معنى يعيش لسنوات ويستحق أن يورث لأجيال، ومما يبدو حالياً من حالة ركود وهروب من الواقع سواءاً كان ذلك من خلال اختيارات القراء أو الكتاب على حدٍ سواء (والذي ينطبق على مختلف ميادين الثقافة والفنون) نستطيع أن نلمح مشكلة كبيرة في التواصل مع أنفسنا وهويتنا ولغتنا ومشاعرنا إلى جانب حالة من العجز في عواطفنا، فالكثير من هذه الأعمال الحديثة يفتقد ضمن أحداثه وفكرته الأساسية إلى بيئة حاضنة أو تواصل مع محيطه أو الأجيال التي سبقته، كما يمتاز بفقر اللغة وضعف الأسلوب وعدم ترابط الأحداث بحيث يبدو الكثير منها بمثابة مشاهد مجمعة لا ترابط بينها، فيطغى الملل على إيقاعها مما يشتت القارىء أو المتلقي عموماً، إلى جانب العديد من الصور أو المشاهد أو التشبيهات الأدبية المفتعلة والمقحمة وغير المتجانسة مع بنية النص و(فكرته) والتي تخلو من الجماليات على صعيد المعنى والرمزية، وهي عبارة عن (تعريب) لمشاهد فجة أو سطحية موجودة في أعمال غربية وبشكلٍ غير متقن، حيث أن وجودها لا يضيف إلى العمل كما أن حذفها لا يغير شيئاً أو يسبب خللاً في تتابع الأحداث..

هل أصبح من الصعب أن تتكرر أعمال مثل(قنديل أم هاشم) ليحي حقي أو (الحرام) ليوسف ادريس أو (كوابيس بيروت) لغادة السمان أو (رجال في الشمس) لغسان كنفاني أو (باب الشمس) لإلياس خوري بأبعادها المتعددة ؟ وهل نحن في مشهد يقترب من حالة خلط الأوراق والإلهاء وتسمية الأشياء بغير مسمياتها والتي شخصتها سينما المخرج المصري الراحل عاطف الطيب في العديد من أفلامه الجريئة بمعنى الجرأة الفكرية والتي كان من أبرزها أفلام (البريء) و(الهروب) و(كشف المستور) رغم وجود بعض التحفظات على بعض الشخصيات المذكورة في هذه الأفلام بسبب طريقة تصوير أهل الصعيد أو الريف وكأنهم دوماً جهلة وخارجون عن القانون وهو نوع من التنميط والتجني عليهم، عدا عن المعضلة والمشكلة المتكررة في الخلط بين التدين بأشكاله المختلفة (والذي يتم تطويعه في كثيرٍ من الأحيان تبعاً لثقافة كل فئة وبيئة) وبين التطرف والإرهاب واستخدام الدين كغطاء لأعمال غير مشروعة، والتي لا يوجد ما يماثلها اليوم بتاتاً من نقد يعد قريباً من الموضوعية التي نحتاجها، كما نحتاج إلى الحديث عن الواقع والحياة التي نعيشها بصدق لأن هذه المرحلة ستؤرخ للأجيال القادمة وتحتاج منا إلى الأمانة وليس الإستنساخ أو الإستسهال أو البحث عن الظهور مهما كان الثمن..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...