وساط جيلالي - أصحاب ًالضّاية ً

صباح يوم الإثنين : كان المُعلّم يستند بيديه الضخمتين على المكتب، جسمه مائل نحو الأمام، ينظر في ورقة موضوعة أمامه، رأسه الصلعاء البرّاقة باتجاههنا، ونحن بعد أن ولجنا الفصل كُنّا قد اِستقمنا في جلستنا، ووضعنا أمامنا دفاتر الملخصات والمقلمات، وربَّعنا أيادينا ٠
لكنه وبِدون أن ينظر باتجاهنا، وبصوته الخشن المُرعب صاح بنا :
ـ صْحابْ ً الضّايََة ً يْوَقْفُو حْدَا السبورة !
أُخِذْتُ على حين غرة ، فاضطربت وسرت في جسمي قشعريرة الخوف وبدأ عرق بارد ينساب من بين منكبي، لكنّي لم أقف وبقيت جالسا في مكاني ، ونظرت باتجاه الثلاثة الآخرين ، كانوا يُحاولون إِخفاء اِضطرابهم مثلي ، وبقوا كذلك جالسين ٠
ظل المعلم ينظر إلى الورقة فوق المكتب ، وبدون أن ينظر باتجاهنا، كرَّر من جديد، بصوت أكثر اِرتفاعاً، ولهجة أكثر تشدُّدا :
ـ قولْتْ ليكُمْ صْحَابْ ً الضَّايَة ً يْوَقْفُو حْدَا السَّبُّورة !
أصْحاب ً الضَّايَة ً هم نحن : أنا ، وعبد الجبار ، واسماعيل ، وجبران٠
و ًالضَّاية ً بركة ماء كبيرة ، قطرها يزيد على الخمسين متر ، وعمقها أكثر من نصف متر ، ماؤها صاف وبارد ، تقع بجانب مقبرة على بعد ثلاثة كيلمترات من مدخل المدينة ٠
يبدو أن صبر مُعَلِّمنا قد عِيل ، فقد اِستقام في وقفته وزمجر غاضباً :
ـ آخر مرَّة أُكَرِّر قولي ، صْحابْ ً الضَّاية ً يْوَقْفُو حْدَا السَّبُّورة !
وقف جبران واِتجه نحو السّبُّورة ، فتبعناه أنا واسماعيل ، وبقي عبد الجبار جالسا في مكانه ، لكن عندما اِتجه المعلم نحوه ، وقف بدوره بسُرعة واِلتحق بنا ٠
تُرى منْ وشى بِنا ؟ كنا نحن الأربعة قد تسللنا يوم الأحد بعد الزوال ، نحمل أكياسنا التي تحتوي على الفُوطات والسندويتشات (خبز وبطاطس )، واتجهنا مشياً على الأقدام نحو الضَّاية ٠
كُنّا نجري بين القبور ثم نقفز إلى الماء البارد المنعش ، وحين نسبح على ظهورنا ، تبدو اللحود وكأنها تتفرج علينا وترعانا ٠
كان المكان خاليا ، ومرّت بنا فتاة قروية تحمل قربة ماء ، طلبتُ منها شربة ماء، لكنها أسرعت الخطى وهي تضحك ، ثم توقفت واِستدارت نحونا ، ولوحت لنا بيدها ، قبل أن تستأنف السير من جديد ٠
وفي المساء عُدْنا وقَدْ هَدَّنا التعب ، ورائحة مِلح القبور تفوح من ثيابنا ٠
ها نحن الآن نقف مُسْتَديرين نحو التلاميذ ، كانت السعادة تغمرهم والتشوق إلى مُتابعة أطوارالتعذيب التي قد تستغرق كل الحصة يسْتَبِدُّ بِهم ، وصاح بنا المعلم :
ـ اخلعوا أحذيتكم واِجلسوا على الأرض ٠
ثم وضع سترته ، وبدأ يُشَمِّر كُمَّي قميصه ، ولست أدري كيف اِرتسمت في ذهني ، في تلك اللحظة الرهيبة ، صورة الفتاة القروية وهي تُلَوِّح لنا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...