يجمع الكاتب أحمد رجب شلتوت في مجموعته القصصية الجديدة “فاتحة لصاحب المقام”، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2020؛ خمسين عنوانًا، لخمسين قصة، ما بين القصيرة والقصيرة جدًا، وكان من بين عناوين قصصه أكثر من عنوان يصلح ليكون عنوانًا لكتابه، على سبيل المثال: “فاطمة لاترقص التانجو/ بيت البحارة/ عطش اليمام…”، وغالبًا عنوان الكتاب الإبداعي: رواية أو مجموعة قصصية أو ديوانًا شعريًا، تُرجِّحه ذائقة الكاتب, بما يتفق مع وجدانه من ناحية، متضامنًا مع ما يتخيله من إيقاع عند المتلقي، فجاء اختيار الكاتب، عنوانًا لمجموعته من هذا الاحتمال، فكان” فاتحة لصاحب المقام” هو العَلم على كل هذا الحشد من العناوين.
نلمس في القصة أجواء القرية، أو الحي الشعبي؛ وكأنهما مرادفًا للأسى والفقد واسترجاع أدوات أو مفردات الحزن، وقد ارتبطت بهما تقريبًا كل مظاهر الدين الشعبي، مقام سيدي فلان، مولد سيدي فلان، اللمبة الجاز لوضعها بين كوم حجارة مدفون تحته الرجل المبروك، “الفُقَهة” على المقابر أيام الخميس، وأفواج النساء المتشحات بالسواد حاملات “الرحمة” لتوزيعها على الأطفال وهؤلاء “الفُقهة”، وتقريبًا بدأ اتشاح النساء بالسواد من القرية، يلبسونه في الأفراح كما يلبسونه في المآتم!
فقصة ” فاتحة لصاحب المقام” لا يمكن أن نتصور حدوثها في الأحياء الراقية، يحدث الحزن واسترجاع مفردات الأسى في كل مكان، ولكن لكل بيئة شكل حزنها وأساها وهمومها، القدرية واليومية والحياتية؛ كل بيئة تفرز شكل التعبير عن فرحها، كما تفرز شكل التعبير عن همومها.
فقلما نجد في الحي الراقي شارعًا يعلو، فيصير عند منتصف النوافذ، ولو وجدنا شارعًا مستواه عند منتصف نافذة، فلن نجد النافذة المتهالكة، المؤدية لغرفة مدفونة كأنها قبر أو مغارة، ولو وجدنا نافذة متهالكة، فلن نجد سرير الأعمدة الحديدية الصدئة، والمغطى بملاءة خضراء، تُوحي للمارّة بأن هنا مقام ولي! وعلينا أن نتوقف لحظات أمام هذه النافذة للدعاء، وطلب البركة من صاحب المقام!!
وعلى لسان السارد مرة نجده ــ الشارع، ومرة باسم الحارة، وكذلك هي النافذة، وقد يكون الشباك، مايوحي بإمكان تعدد الحالة، وتعدد الثقافة.
“ترش الحارة بالماء، ترى الشارع وقد دفن نصف نافذتها”
وهذا ما تخيله أحمد رجب شلتوت، في لقطته العبقرية، وهنا يتجلى الفرق بين لقطات المبدع، ونظرات الإنسان العادي، فلو تخيلنا منظرًا كهذا، وهو موجود بالفعل في الواقع، إما مقامًا حقيقيًا لولي، وإما غرفة كغرفة أحمد رجب شلتوت، تلك التي مر عليها مئات بل آلاف الناس، وما تخيلها أحدهم هكذا، كما تخيلها المبدع، فالإبداع في الأساس مبني على اللقطة، لقطة تراها العين، أو تسمعها الأذن، أو ترد على الخاطر؛ ليتم بعد ذلك التعامل معها في الشكل الإبداعي الذي يناسبها، أو يناسب أدوات الكاتب.
واستدعاء الحزن له قسوة شفرات السكاكين على رقاب الدجاجات، وقسوة سيخ الحديد المَحمي على كومة الصوف، وهكذا كانت المشاعر الملتهبة لفاطمة، بطلة قصة ” فاتحة لصاحب المقام”, حين أثارت مشاعرها، وحفَّزتها أغنية أم كلثوم؛ الأغنية التي تطرق الأبواب لتعلن للناس مجئ العيد، كما تطرق أغنية محمد عبد المطلب، وأغنية الثلاثي المرح الأبواب لقدوم رمضان، فلا العيد عيد إذا لم تعلنها أم كلثوم، ولا رمضان قادم ولا موجود طوال الشهر إلا إذا قال عبد المطلب رمضان جانا، أهلا رمضان، وغنى الثلاثي المرح وحوي يا وحوي.
“يا ليلة العيد آنستينا”
لكن أي أُنس، وأي مُؤانسة ستراها فاطمة وهي في صقيع فراشها، بعد موت زوجها؟!
“سمعتها فاطمة من الراديو فامتلأت بالأسى”.
ومصدر آخر لاستدعاء الحزن، في أغاني أطفال الحارة، وهم يحتفلون بقدوم العيد، الذي يعني عندهم جلبابًا جديدًا، وكاوتش من باتا، أيام زمان، وترننج وكوتش من التوحيد والنور في أيامنا هذه.
“فتحت النافذة؛ فرأت أطفال الحارة يحتفلون بالعيد القادم بعد سويعات”
ربما من حسن حظ فاطمة؛ أنها لم يكن لها أطفال؛ يُقلِّبون عليها مواجع، أكثر مما يُفرض عليها من الخارج، وربما لو كان لها طفل معهم؛ لجاء تصويرها أزمتها النفسية أشد وطأة.
أسى على أسى، وهم على حزن، فقد علا الشارع بفعل الهدم والردم، عوامل التكسية، فاطمة انزوى بيتها، وصار كمغارة، تهبط لها عدد من الدرجات عند الدخول، فالشارع حَزَّمَ نافذة غرفتها المُطلة عليه، فلا يظهر سوى نصفها الأعلى، ولا ترى غير أرجل الناس وهم يمرون وهي بداخل الغرفة.
“شباكك مثلك يا فاطمة جار عليه الزمن”
“لم تعد ترى وجوه المارّة؛ لا يبدو لها منهم إلا النصف الأسفل”
إهمالها لحالها، وصدِّة نفسها عن الحياة، أذهب عن عشها أي جماليات ولو بسيطة، فالكوخ من الممكن أن يصير قصرًا ــ لمن في مستواها الاجتماعي ــ بترتيب، وتنظيم مفرداته، وتنظيفه، وتجريده من كل المهملات، فنافذة فاطمة مليئة بالكراكيب، مما يعوق فتحها، والاطلاع على الدنيا منها.
“حولتها من الداخل إلى دولاب صغير اتسع لكراكيبها”
” لكن الليلة يا فاطمة ليلة عيد، ويجب أن تفتحي نافذتك”
تقولها وهي تبكي، ربما تناجي نفسها، أن تستطيع فتح قلبها لاستقبال الحياة، والذي من الممكن أن يبدأ باستقبال ليلة العيد، والتي تبدأ بفتح النافذة؛ تُلقي بتلك الكراكيب بعيدًا عن مصدر الضوء والهواء؛ نافذة على العالم الخارجي.
وقد تكون تلك الكراكيب هي الهموم التي عششت فيها بعد موت زوجها؛ أغلقت نوافذها فاستوت عندها الليالي، ليلة العيد كليلة أول ذي الحجة، وليلة النصف من رمضان!
هذه الكراكيب ــ الهموم ــ هي ما يمنع عنها الضوء، الأمل.
استجابت لنداء داخلها؛ عبَّأت الكراكيب في كراتين، ودسَّتها تحت السرير ذي القوائم الحديدية الصدئة.
“وجددتِ الأمل فينا.. يا ليلة العيد”
ويدفعها تجديد الأمل، فتملأ جرتها، وتضعها في النافذة لكي يبرد الماء، أينما حركت مؤشر الراديو، فلا شيء غير “يا ليلة العيد آنستينا”، أيضًا راحت ترش الماء في الحارة، ثم تلاحظ داير الملاءة، وقد تهرئ، ينبغي رفعها، ووضع ملاءة غيرها.. هل تضع الملاءة الساتان البمبي، التي تحتفظ بها من أيام المرحوم، تخرجها من الكيس، ومعها زجاجة العطر؟ كانت من خصوصيات ليالي الأُنس كليلة مثل هذه، مع الذي مات؟
“تنظر إلى ما في الكيس فيزداد أساها”
نفسها لن تسمح بأن تفرش “البمبي”، فلمن تفرش “البمبي”، وقد راح رفيق حياتها ولياليها؟ فليظل هذا “البمبي” حبيس الكيس، فلو خرج زوجها من قبره؛ ستخرج الملاءة البمبي!!
هذا “البمبي” مرتبط في جميع الأذهان، الارستقراطية، والشعبية؛ بالبهجة، والسرور، لكن هناك من الناس من يُحرِّمون على أنفسهم أدنى درجات البهجة.
“كان البمبي لونًا لليالي أعياد فاطمة؛ فالزوج كان ينزع عن نفسه غلالات الإرهاق والكمد، فتكتمل بهجة العيد”
وفي موقف الأسى، لا سلوى أمام الأرملة سوى صورة زوجها.
“وجه رجلها يطالعها عبر الصورة، يدعوها فتنهض …، بجلبابها تمسح الأتربة عن الزجاج…”
لن تترك سريرها عاريًا، لا حرج من شراء ملاءة بيضاء؛ نساء القرى يرتدين الأسود، في المآتم وفي الأفراح، لكنهن لا يتحرجن من ملاءة سرير بيضاء، والملاءة القديمة كانت هكذا، لكن الأبيض يتسخ لأقل لمسة، وربما أرادت نوعًا من التغيير، لكن لا ينبغي أن تفرش ملاءة صفراء، أو برتقالي مثلًا؛ ناهيك عن استحالة أن تفرش اللون الأحمر!!
كل ألوان البهجة لا ينبغي لفاطمة أن تفرشها على سرير الترمل؛ فغالبية النساء، ونسوة القرى بالتحديد، تنغلق أمامهن نوافذ الحياة؛ بمجرد موت زوجها!!!
اللون الأخضر هو ما يلق بحالة فاطمة؛ فالأخضر يرتبط بالجنة (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ) ، (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ…) والأخضر يُذكرنا بالحقول، فاطمة لو ذهبت لحضور فرح جارتها، فهذا لا يليق مع حزنها المقيم، أما لو ذهبت لأرض البرسيم أو الذرة فلا بأس، فلن يقول أحد عنها أنها نسيت زوجها، وأنها فَرِحةً، لمجرد ذهابها للحقل.
كما يرتبط اللون الأخضر في الثقافة الشعبية، بلون قبور ومقامات أولياء الله الصالحين؛ فلن نجد على مقام الحسين كسوة صفراء، أو حمراء، ولا مقام السيدة زينب كسوة برتقالي، أو بمبي.
سوف تشتري مفرشًا أخضر.. “تعود بالأخضر وتنسى شراء العطر”، هي لم تنسَ، نسيته أصلاً، فلمن سيكون هذا العطر؟! لكن حينما ضغط عليها الأسى غسلته بالاستحمام، لعلها أزالت أدران الحزن، وفتحت مسام جسدها للحياة.
وفجأة تنتبه على صوت، وتمتمات وراء النافذة، وقد جلس صاحبه مقرفصًا رافعًا كفيه، يدعو ويبتهل، وعيناه تتجهان نحو السرير، فتخرج مندفعةً لترى من يتلصص عليها؛ الرجل يدعو، ويمسح وجهه بكفيه.. سمعته وهو يَعد بدستة شموع؟!
أمسكته من كتفه وهي تقول:
ـــ ماذا تفعل؟
ـ أقرأ الفاتحة لسيدي وأرجوه.
ـــ سيدك من؟
ـ صاحب المقام.
تركته ودخلت “وفي حجرتها تظل تضحك حتى تمتلئ عيناها بالدموع”
دلالتان يمكن أن يحملهما مقام الولي؛ الأولى المفهوم والموروث الشعبي عند الرجل قارئ الفاتحة، والأخرى؛ مقام زوجها،الذي بغيابه أهملت نافذتها، لكن الأمل في الحياة قادم مع الشموع، التي وعد بها ذلك الرجل.
HARMONYTOPEGYPT.COM
الناقد أحمد محمد عبده يكتب.. رؤية انطباعية لقصة "فاتحة لصاحب المقام" - هارموني توب إيجيبت
يجمع الكاتب أحمد رجب شلتوت في مجموعته القصصية الجديدة "فاتحة لصاحب المقام"، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2020؛ خمسين عنوانًا، لخمسين قصة، ما بين القصيرة
نلمس في القصة أجواء القرية، أو الحي الشعبي؛ وكأنهما مرادفًا للأسى والفقد واسترجاع أدوات أو مفردات الحزن، وقد ارتبطت بهما تقريبًا كل مظاهر الدين الشعبي، مقام سيدي فلان، مولد سيدي فلان، اللمبة الجاز لوضعها بين كوم حجارة مدفون تحته الرجل المبروك، “الفُقَهة” على المقابر أيام الخميس، وأفواج النساء المتشحات بالسواد حاملات “الرحمة” لتوزيعها على الأطفال وهؤلاء “الفُقهة”، وتقريبًا بدأ اتشاح النساء بالسواد من القرية، يلبسونه في الأفراح كما يلبسونه في المآتم!
فقصة ” فاتحة لصاحب المقام” لا يمكن أن نتصور حدوثها في الأحياء الراقية، يحدث الحزن واسترجاع مفردات الأسى في كل مكان، ولكن لكل بيئة شكل حزنها وأساها وهمومها، القدرية واليومية والحياتية؛ كل بيئة تفرز شكل التعبير عن فرحها، كما تفرز شكل التعبير عن همومها.
فقلما نجد في الحي الراقي شارعًا يعلو، فيصير عند منتصف النوافذ، ولو وجدنا شارعًا مستواه عند منتصف نافذة، فلن نجد النافذة المتهالكة، المؤدية لغرفة مدفونة كأنها قبر أو مغارة، ولو وجدنا نافذة متهالكة، فلن نجد سرير الأعمدة الحديدية الصدئة، والمغطى بملاءة خضراء، تُوحي للمارّة بأن هنا مقام ولي! وعلينا أن نتوقف لحظات أمام هذه النافذة للدعاء، وطلب البركة من صاحب المقام!!
وعلى لسان السارد مرة نجده ــ الشارع، ومرة باسم الحارة، وكذلك هي النافذة، وقد يكون الشباك، مايوحي بإمكان تعدد الحالة، وتعدد الثقافة.
“ترش الحارة بالماء، ترى الشارع وقد دفن نصف نافذتها”
وهذا ما تخيله أحمد رجب شلتوت، في لقطته العبقرية، وهنا يتجلى الفرق بين لقطات المبدع، ونظرات الإنسان العادي، فلو تخيلنا منظرًا كهذا، وهو موجود بالفعل في الواقع، إما مقامًا حقيقيًا لولي، وإما غرفة كغرفة أحمد رجب شلتوت، تلك التي مر عليها مئات بل آلاف الناس، وما تخيلها أحدهم هكذا، كما تخيلها المبدع، فالإبداع في الأساس مبني على اللقطة، لقطة تراها العين، أو تسمعها الأذن، أو ترد على الخاطر؛ ليتم بعد ذلك التعامل معها في الشكل الإبداعي الذي يناسبها، أو يناسب أدوات الكاتب.
واستدعاء الحزن له قسوة شفرات السكاكين على رقاب الدجاجات، وقسوة سيخ الحديد المَحمي على كومة الصوف، وهكذا كانت المشاعر الملتهبة لفاطمة، بطلة قصة ” فاتحة لصاحب المقام”, حين أثارت مشاعرها، وحفَّزتها أغنية أم كلثوم؛ الأغنية التي تطرق الأبواب لتعلن للناس مجئ العيد، كما تطرق أغنية محمد عبد المطلب، وأغنية الثلاثي المرح الأبواب لقدوم رمضان، فلا العيد عيد إذا لم تعلنها أم كلثوم، ولا رمضان قادم ولا موجود طوال الشهر إلا إذا قال عبد المطلب رمضان جانا، أهلا رمضان، وغنى الثلاثي المرح وحوي يا وحوي.
“يا ليلة العيد آنستينا”
لكن أي أُنس، وأي مُؤانسة ستراها فاطمة وهي في صقيع فراشها، بعد موت زوجها؟!
“سمعتها فاطمة من الراديو فامتلأت بالأسى”.
ومصدر آخر لاستدعاء الحزن، في أغاني أطفال الحارة، وهم يحتفلون بقدوم العيد، الذي يعني عندهم جلبابًا جديدًا، وكاوتش من باتا، أيام زمان، وترننج وكوتش من التوحيد والنور في أيامنا هذه.
“فتحت النافذة؛ فرأت أطفال الحارة يحتفلون بالعيد القادم بعد سويعات”
ربما من حسن حظ فاطمة؛ أنها لم يكن لها أطفال؛ يُقلِّبون عليها مواجع، أكثر مما يُفرض عليها من الخارج، وربما لو كان لها طفل معهم؛ لجاء تصويرها أزمتها النفسية أشد وطأة.
أسى على أسى، وهم على حزن، فقد علا الشارع بفعل الهدم والردم، عوامل التكسية، فاطمة انزوى بيتها، وصار كمغارة، تهبط لها عدد من الدرجات عند الدخول، فالشارع حَزَّمَ نافذة غرفتها المُطلة عليه، فلا يظهر سوى نصفها الأعلى، ولا ترى غير أرجل الناس وهم يمرون وهي بداخل الغرفة.
“شباكك مثلك يا فاطمة جار عليه الزمن”
“لم تعد ترى وجوه المارّة؛ لا يبدو لها منهم إلا النصف الأسفل”
إهمالها لحالها، وصدِّة نفسها عن الحياة، أذهب عن عشها أي جماليات ولو بسيطة، فالكوخ من الممكن أن يصير قصرًا ــ لمن في مستواها الاجتماعي ــ بترتيب، وتنظيم مفرداته، وتنظيفه، وتجريده من كل المهملات، فنافذة فاطمة مليئة بالكراكيب، مما يعوق فتحها، والاطلاع على الدنيا منها.
“حولتها من الداخل إلى دولاب صغير اتسع لكراكيبها”
” لكن الليلة يا فاطمة ليلة عيد، ويجب أن تفتحي نافذتك”
تقولها وهي تبكي، ربما تناجي نفسها، أن تستطيع فتح قلبها لاستقبال الحياة، والذي من الممكن أن يبدأ باستقبال ليلة العيد، والتي تبدأ بفتح النافذة؛ تُلقي بتلك الكراكيب بعيدًا عن مصدر الضوء والهواء؛ نافذة على العالم الخارجي.
وقد تكون تلك الكراكيب هي الهموم التي عششت فيها بعد موت زوجها؛ أغلقت نوافذها فاستوت عندها الليالي، ليلة العيد كليلة أول ذي الحجة، وليلة النصف من رمضان!
هذه الكراكيب ــ الهموم ــ هي ما يمنع عنها الضوء، الأمل.
استجابت لنداء داخلها؛ عبَّأت الكراكيب في كراتين، ودسَّتها تحت السرير ذي القوائم الحديدية الصدئة.
“وجددتِ الأمل فينا.. يا ليلة العيد”
ويدفعها تجديد الأمل، فتملأ جرتها، وتضعها في النافذة لكي يبرد الماء، أينما حركت مؤشر الراديو، فلا شيء غير “يا ليلة العيد آنستينا”، أيضًا راحت ترش الماء في الحارة، ثم تلاحظ داير الملاءة، وقد تهرئ، ينبغي رفعها، ووضع ملاءة غيرها.. هل تضع الملاءة الساتان البمبي، التي تحتفظ بها من أيام المرحوم، تخرجها من الكيس، ومعها زجاجة العطر؟ كانت من خصوصيات ليالي الأُنس كليلة مثل هذه، مع الذي مات؟
“تنظر إلى ما في الكيس فيزداد أساها”
نفسها لن تسمح بأن تفرش “البمبي”، فلمن تفرش “البمبي”، وقد راح رفيق حياتها ولياليها؟ فليظل هذا “البمبي” حبيس الكيس، فلو خرج زوجها من قبره؛ ستخرج الملاءة البمبي!!
هذا “البمبي” مرتبط في جميع الأذهان، الارستقراطية، والشعبية؛ بالبهجة، والسرور، لكن هناك من الناس من يُحرِّمون على أنفسهم أدنى درجات البهجة.
“كان البمبي لونًا لليالي أعياد فاطمة؛ فالزوج كان ينزع عن نفسه غلالات الإرهاق والكمد، فتكتمل بهجة العيد”
وفي موقف الأسى، لا سلوى أمام الأرملة سوى صورة زوجها.
“وجه رجلها يطالعها عبر الصورة، يدعوها فتنهض …، بجلبابها تمسح الأتربة عن الزجاج…”
لن تترك سريرها عاريًا، لا حرج من شراء ملاءة بيضاء؛ نساء القرى يرتدين الأسود، في المآتم وفي الأفراح، لكنهن لا يتحرجن من ملاءة سرير بيضاء، والملاءة القديمة كانت هكذا، لكن الأبيض يتسخ لأقل لمسة، وربما أرادت نوعًا من التغيير، لكن لا ينبغي أن تفرش ملاءة صفراء، أو برتقالي مثلًا؛ ناهيك عن استحالة أن تفرش اللون الأحمر!!
كل ألوان البهجة لا ينبغي لفاطمة أن تفرشها على سرير الترمل؛ فغالبية النساء، ونسوة القرى بالتحديد، تنغلق أمامهن نوافذ الحياة؛ بمجرد موت زوجها!!!
اللون الأخضر هو ما يلق بحالة فاطمة؛ فالأخضر يرتبط بالجنة (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ) ، (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ…) والأخضر يُذكرنا بالحقول، فاطمة لو ذهبت لحضور فرح جارتها، فهذا لا يليق مع حزنها المقيم، أما لو ذهبت لأرض البرسيم أو الذرة فلا بأس، فلن يقول أحد عنها أنها نسيت زوجها، وأنها فَرِحةً، لمجرد ذهابها للحقل.
كما يرتبط اللون الأخضر في الثقافة الشعبية، بلون قبور ومقامات أولياء الله الصالحين؛ فلن نجد على مقام الحسين كسوة صفراء، أو حمراء، ولا مقام السيدة زينب كسوة برتقالي، أو بمبي.
سوف تشتري مفرشًا أخضر.. “تعود بالأخضر وتنسى شراء العطر”، هي لم تنسَ، نسيته أصلاً، فلمن سيكون هذا العطر؟! لكن حينما ضغط عليها الأسى غسلته بالاستحمام، لعلها أزالت أدران الحزن، وفتحت مسام جسدها للحياة.
وفجأة تنتبه على صوت، وتمتمات وراء النافذة، وقد جلس صاحبه مقرفصًا رافعًا كفيه، يدعو ويبتهل، وعيناه تتجهان نحو السرير، فتخرج مندفعةً لترى من يتلصص عليها؛ الرجل يدعو، ويمسح وجهه بكفيه.. سمعته وهو يَعد بدستة شموع؟!
أمسكته من كتفه وهي تقول:
ـــ ماذا تفعل؟
ـ أقرأ الفاتحة لسيدي وأرجوه.
ـــ سيدك من؟
ـ صاحب المقام.
تركته ودخلت “وفي حجرتها تظل تضحك حتى تمتلئ عيناها بالدموع”
دلالتان يمكن أن يحملهما مقام الولي؛ الأولى المفهوم والموروث الشعبي عند الرجل قارئ الفاتحة، والأخرى؛ مقام زوجها،الذي بغيابه أهملت نافذتها، لكن الأمل في الحياة قادم مع الشموع، التي وعد بها ذلك الرجل.
HARMONYTOPEGYPT.COM
الناقد أحمد محمد عبده يكتب.. رؤية انطباعية لقصة "فاتحة لصاحب المقام" - هارموني توب إيجيبت
يجمع الكاتب أحمد رجب شلتوت في مجموعته القصصية الجديدة "فاتحة لصاحب المقام"، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2020؛ خمسين عنوانًا، لخمسين قصة، ما بين القصيرة