في بعض الأحيان، يقف الأديب ناقدًا لنصه، يُفسّره ويُبين مراميه ويحكم عليه. وربما يغالي في إطرائه والإعجاب به؛ ليُظهر نفسه متفوقًا على من سبقه من الأدباء، أو ربما من سيأتون بعده. وفي أحيان أخرى نجد بعض الأدباء يحكمون على النقاد الذي تناولوا نصهم بالفشل في فهم النص وتحليله، وبعدم القدرة على سبر أغواره. بل إن بعضهم يظهرون امتعاضهم وتحقيرهم للآخرين من النقاد؛ لأنهم أهملوا نصوصهم فلم ينتبهوا إليها ويقفوا عندها، أو لم يقدروها حق قدرها، بوضعها في مرتبة عالية من الإبداع والتفوق.
أذكر أن أحد الأصدقاء من الكتاب دعاني وألح في الدعوة؛ كي أتكلم في حفلة توقيع لإحدى أعماله القصصية. وافقت على ذلك متمنيًا أن أوفق في كلمتني، خاصة هي المرة الأولى التي ألبي فيها طلبه بالحديث عن عمل من أعماله الكثيرة. لقد تكلمت عن عمله مبرزا أنه يندرج تحت ثلاثة أنواع من القصص: جيدة، ومتوسطة، وهابطة. وقدمت عدة أمثلة من كل نوع، مبينًا تعليل ما توصلت إليه. في نهاية اللقاء لاحظت غضبه على ما قدمته رغم ما بذلت من جهد نقدي. حاولت تلطيف الجو، وسألته: ألا تشكرني؟ أجابني مستنكرًا: أنا أشكرك؟! إنه لا يتقبل من النقد إلا ما يوافق هواه. وذهبت علاقتنا التي كنت أضعها في قائمة الصداقة والمحبة إلى الجحيم.
لا شك في أن الأديب الحقيقي لا يتدخل فيما يقوله النقاد عن نصه، بل يتقبل ذلك بصدر رحب؛ فهو حقًا مصدر فائدة له ولإبداعه وشهرته. نحن نرى بأن كبار الشعراء والروائيين لا يقفون من نصوصهم موقف النقد، ولا يعترضون على ما يوجه لنصوصهم مدحًا أو ذمًا، بل يتركون للنقاد والقراء مسؤولية القيام بذلك.
يذكر طه حسين عن الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري في مجلة "الرسالة" (ع19، 1933) عندما طالبه النقاد والقراء بأن يُبين لهم ما أراد قوله في قصيدته" المقبرة البحرية"، التي أبدعها عام 1920، وبلغ عدد أبياتها مئة وأربعة وأربعين بيتًا، وقد نالت شهرة واسعة، وأثير كثير من الحوار حول ما أراد الشاعر قوله، واشتد الخلاف حول قيمتها بين النقاد حتى إن بعضهم رفعها إلى السماء، وبعضهم أنزلها إلى الحضيض.
في خضم هذا النقاش والخلاف حول القصيدة" كان فاليري صامتًا، ولم يجب النقاد والقراء الذين كانوا يطالبونه بإبداء رأيه فيما يقولونه عن قصيدته، وبتوضيح ما أراده فيها. ولكن بعد مدة ظهر كتاب الأستاذ الأديب في السوربون مسيو جوستاف كوهين، الذي عنوانه "محاولة لتفسير المقبرة البحرية" وكانت مقدمته بقلم فاليري نفسه. وفوجئ الجميع أنه لم يُبد في هذه المقدمة جوابًا للأسئلة التي طرحها النقاد.
إن خلاصة ما أراد أن يبينه فاليري في تقديمه الكتاب أن من اليأس الوصول إلى المعاني التي أرادها الشاعر حين نظم قصيدته. وفي رأيه أن الأثر الفني، سواء أكان لشاعر أم لغيره، عندما يخرج من يد صاحبه فإن لكل واحد من الناس أن يفهم منه ما أراد أو ما استطاع؛ فما أراد صاحبه أن يقوله يخصه ومقصور عليه حين نظم القصيدة، وربما نسيه؛ فلا يجب أن يُسأل عنه، أو يُطالب بتوضيحه.
هكذا يعكس رأي بول فاليري في قصيدته" المقبرة البحرية" ما نرغب في أن نقوله ونوضحه بأن صاحب النص يحسن به أن ينأى عن توجيه النقد إلى نصه؛ أو إلى من يتناول نصه بالنقد، وأن يحذر النقاد الاحتكام إلى ما يقوله الأديب عن نصه. فمن الصواب أن ينطلق الناقد من النص لا مما يقوله صاحبه؛ لأن ما يقوله في الأساس ما هو إلا شروحات أو توضيحات لما أراد أن يعبر عنه من خلال نصه. لقد فقد ارتباطه بالنص بعد أن نشره وأذاعه بين الناس. إنه لا يملكه، وإذا ما غير فيه بعد ذلك نكون إزاء نص جديد أو نص محرف.
أذكر أن أحد الأصدقاء من الكتاب دعاني وألح في الدعوة؛ كي أتكلم في حفلة توقيع لإحدى أعماله القصصية. وافقت على ذلك متمنيًا أن أوفق في كلمتني، خاصة هي المرة الأولى التي ألبي فيها طلبه بالحديث عن عمل من أعماله الكثيرة. لقد تكلمت عن عمله مبرزا أنه يندرج تحت ثلاثة أنواع من القصص: جيدة، ومتوسطة، وهابطة. وقدمت عدة أمثلة من كل نوع، مبينًا تعليل ما توصلت إليه. في نهاية اللقاء لاحظت غضبه على ما قدمته رغم ما بذلت من جهد نقدي. حاولت تلطيف الجو، وسألته: ألا تشكرني؟ أجابني مستنكرًا: أنا أشكرك؟! إنه لا يتقبل من النقد إلا ما يوافق هواه. وذهبت علاقتنا التي كنت أضعها في قائمة الصداقة والمحبة إلى الجحيم.
لا شك في أن الأديب الحقيقي لا يتدخل فيما يقوله النقاد عن نصه، بل يتقبل ذلك بصدر رحب؛ فهو حقًا مصدر فائدة له ولإبداعه وشهرته. نحن نرى بأن كبار الشعراء والروائيين لا يقفون من نصوصهم موقف النقد، ولا يعترضون على ما يوجه لنصوصهم مدحًا أو ذمًا، بل يتركون للنقاد والقراء مسؤولية القيام بذلك.
يذكر طه حسين عن الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري في مجلة "الرسالة" (ع19، 1933) عندما طالبه النقاد والقراء بأن يُبين لهم ما أراد قوله في قصيدته" المقبرة البحرية"، التي أبدعها عام 1920، وبلغ عدد أبياتها مئة وأربعة وأربعين بيتًا، وقد نالت شهرة واسعة، وأثير كثير من الحوار حول ما أراد الشاعر قوله، واشتد الخلاف حول قيمتها بين النقاد حتى إن بعضهم رفعها إلى السماء، وبعضهم أنزلها إلى الحضيض.
في خضم هذا النقاش والخلاف حول القصيدة" كان فاليري صامتًا، ولم يجب النقاد والقراء الذين كانوا يطالبونه بإبداء رأيه فيما يقولونه عن قصيدته، وبتوضيح ما أراده فيها. ولكن بعد مدة ظهر كتاب الأستاذ الأديب في السوربون مسيو جوستاف كوهين، الذي عنوانه "محاولة لتفسير المقبرة البحرية" وكانت مقدمته بقلم فاليري نفسه. وفوجئ الجميع أنه لم يُبد في هذه المقدمة جوابًا للأسئلة التي طرحها النقاد.
إن خلاصة ما أراد أن يبينه فاليري في تقديمه الكتاب أن من اليأس الوصول إلى المعاني التي أرادها الشاعر حين نظم قصيدته. وفي رأيه أن الأثر الفني، سواء أكان لشاعر أم لغيره، عندما يخرج من يد صاحبه فإن لكل واحد من الناس أن يفهم منه ما أراد أو ما استطاع؛ فما أراد صاحبه أن يقوله يخصه ومقصور عليه حين نظم القصيدة، وربما نسيه؛ فلا يجب أن يُسأل عنه، أو يُطالب بتوضيحه.
هكذا يعكس رأي بول فاليري في قصيدته" المقبرة البحرية" ما نرغب في أن نقوله ونوضحه بأن صاحب النص يحسن به أن ينأى عن توجيه النقد إلى نصه؛ أو إلى من يتناول نصه بالنقد، وأن يحذر النقاد الاحتكام إلى ما يقوله الأديب عن نصه. فمن الصواب أن ينطلق الناقد من النص لا مما يقوله صاحبه؛ لأن ما يقوله في الأساس ما هو إلا شروحات أو توضيحات لما أراد أن يعبر عنه من خلال نصه. لقد فقد ارتباطه بالنص بعد أن نشره وأذاعه بين الناس. إنه لا يملكه، وإذا ما غير فيه بعد ذلك نكون إزاء نص جديد أو نص محرف.