محمد لغويبي - الحكاية المختفية في "رقصة الطائر البحري" للشاعر المعتمد الخراز

تقديم:
"القراءة الناجحة هي التي تكون متواضعة"(1)، بهذه الجملة الفاضحة يقودك عبد الفتاح كيليطو إلى قراءة النصوص، إنه بذلك لا يسلمك مفتاح القراءة بل يكشف لك عن طبيعة هذا المفتاح السحري الذي مادته القراءات وشكله إخفاؤها... بهذه الصورة تحاول هذه القراءة التمرن على امتلاك هذا المفتاح المدهش/الغريب، من أجل الإنصات إلى صوت الشاعر المعتمد الخراز في ديوانه "رقصة الطائر البحري"(2)، فـ"القليل من النصوص الجيدة والمتميزة التي تصنع مستقبل الشعر وتخترق الأزمنة المشعة بالجمال والأمل، وتسعى دوما وأبدا إلى قطف وردة الشعر..."(3).
1- في معرفة العنوان:
يكشف العنوان "رقصة الطائر البحري" عن نسق تداولي معرفي وجمالي، فتركيبته مزيج سحري لمفردات بسيطة ومتداولة، ومدلولات مسكوكة ومعادة، لكن الخلطة السحرية سرعان ما تنزاح عن شكل مكوناتها المشروخة ومفرداتها المفردة الشائعة والمعلومة، يحدث ذلك بالانزياح والصورة والإيقاع، فالإضافة والتوصيف خلخلا معا المألوف وجعلاه غريبا مدهشا بإحالة رشيقة إلى قول المتنبي:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا فالطير يرقص مذبوحا من الألم
وإذا كان الرقص بمعناه المباشر لغة تواصلية عالمية/كونية فالطائر هو الإنسان، وهو هذا الوجود الشاسع، ولأنه بحري فهو السندباد يحمل أثقاله ويبحث عمن يقرأه وقد تماهى مع البحر في غوره وعمقه وثرائه، وتناقضاته وأسراره الحبلى بالغريب، بالأمل والألم.
2- في شعرية الورد:
كثيرة هي الكتب التي احتمت بالورد في عناوينها، نسوق هنا على سبيل التمثيل لا الحصر: "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو و"ورد أقل" لمحمود درويش و"مجنون الورد" لمحمد شكري و"رميا بالورد" لعبد الكريم الطبال... وهذا الاختيار المتواتر يرتبط بالرمزية والصورة، مما يجعلنا نرى في الورد نقيضه وهو الشوك، على اعتبار العملية الإبداعية نتاج الحمل والولادة، التعب والراحة، الألم والفرح.... وفي "رقصة الطائر البحري" للشاعر المعتمد الخراز ثلاث قصائد خاصة بالورد:
ففي الأولى وتحمل عنوان "وردة" (صص8-10) يقول:
(1) بين امرأة/ من سجوف الصمت/ وصوتي/ أرى/ وردة/ في دمي/ كالدهان (2) وردة/ بين دالية/ من سليل النبيذ/ وثجيج الوريد (3) وردة/ تكتب الصمت،/ تسكن بيت الليل (4) وردة/ تفتح البحر/ كي تحتمل (5) وردة/ تبكي موت عاشقها/ سهوا/ أو صحوا/ فوق بياض الورق (6) وردة/ تسرق النار/ من جنة الله (7) قالت وردة للريح:/ أينا في البلاد المسيح (8) لو أن السلحفاة تحكي قصة ورده/ لو...
فالشاعر في القصيدة يرى، والرؤية هنا أوسع وأرحب بكثير عندما تتجلى شعرا، فهي إبداعية لا بصرية فحسب ما دامت الوردة تكتب وتسكن، تفتح بحرا وتبكي موتا، والوردة تسرق النار من الجنة، وتتمسح لتصير حكاية، قد تنهض بسردها سلحفاة! إن هذا التركيب الشكلي بإسناد الأفعال إلى الوردة يجعل "الشكل ذا كلفة عالية" كما يقول بول فاليري، لذا فالوردة منذورة للشوك أيضا، وقد صارت هي الشاعر/المؤلف "الغائب فيما يكتب كشخص والحاضر كصورة"(4). فالشاعر مؤلف أيضا لكن من طراز خاص. لقد أصبحت وردة في القصيدة حكاية لا تعني المرأة بل الإنسان في كونيته، فالعالم يكتب تاريخه برا وبحرا وجوا، يبكي ويسرق ويحلم بالمسيح المنقذ من الضلال يعيد للحكاية روحها على لسان سلحفاة معمرة... حكيمة ضاربة في أصل الحكاية.
وفي القصيدة الثانية "باقة ورد" (صص33-34) يقول الشاعر:
ترحلين/ وما في القلب/ سوى باقة ورد/ من ذكراك/ الخريف يئن/ وليلك يا ليلى/ موحش/ قمر غرناطة/ يرقص فوق شنيل/ قطط/ تحتمي بدوائر/ نور من وحدتها/ وردة/ خانت كف حارسها/ لتموت على خصلة/ شارده/ وهذا المطر/ لم يعد ناعما/ بل رصاصا في القلب.
إنها قصيدة تحتفي بشعرية السرد- أيضا- من خلال ليلى/غرناطة، وقصة خيانة ورصاصة في القلب لم ينفع معها مطر، فالنص الشعري هنا عانق الحكاية وجعل الورد ذكرى عابرة مأمولة في متخيل شعري أثقله الحكي عن ضياع مجد آفل، وكأننا أمام الملك الضليل، هو امرؤ القيس الشاعر الباحث عن الملك الضائع والغد المجهول الذي يركبه لن يكون غير قصيدة /حكاية وردة /ليلى/غرناطة... إن الأدب وفق هذا التصور "يتغذى بالفرص الضائعة"(5)، غير أنكم "مخيرون في الكثير من آلامكم"(6).
وفي القصيدة الثالثة "وردة الليل" وهي مهداة إلى امرئ القيس، هي وقصائد غيرها تحت عنوان جامع "أغنيات لليل" (ص61)، يقول الشاعر:
يقطف الليل من شجري
كلمات
وبياضا،
يفتح
في فم
قارئي
وردة
شعرية وردة هنا تنتهي متفتحة فاتحة للقارئ المشتهى شهية القراءة، وهي أقصى ما يتمناه مقروء/شاعر، هذا الكائن الليلي الشجري الذي يمد إلى المتلقي يدا، ويدعوه إلى كلماته وصوره للإبحار فيهما، فالشاعر "يصور مشاعره وأحاسيسه عبر لغة مختلفة تتصل بالعالم اتصالا من نوع آخر، إنه ارتباط بعوالم روحية مفارقة..."(7).
وتستمر "وردة" في التجلي في قصائد الديوان، وبين الخفاء والتجلي حضور دائم بأشكال مختلفة، يقول الشاعر في قصيدة "رقصة الطائر البحري"(ص11):
يزرع
في فم البحر وردا
وفي قصيدة "عصا الرائي "(ص13) يقول:
لي حكمة الورد،
ومنطق الطير،
وصولجان من رماد.
وفي "غيمة الحلم"(ص16):
أكاد أرى وردة
تنزل
من مدارج عزلتها
فأطارد
في دم محبرتي
صوتَها
وفي "غرفة الحلم"(ص18):
أرقب الربيع:
قد يأتي بوردة
وقد يأتي بناي.
وفي "يد الشاعر"(ص21):
يدك الوردة
خطوها
في طريق الحريق
وفي "الشاعر"(ص22):
يا فارسا
عن وردة تبحث في المرايا
كسر دموع التيه
واسكن المرايا.
وفي "أنشودة لنهر غرناطة"(ص47):
أيها النهر
بيننا أنت
خنجر في خاصره
أم وردة ثائره؟
وفي قصيدة "أقصى الممر"(ص62) يقول:
ليل يمشي
مسرعا،
في أقصى الممر
وردة
وفي "صهيل الصبح"(ص66) نقرأ:
في تخوم الصمت تنمو
وردة
تعلن بدءا لغوايات جديده
3- في سردية "وردة":
إن حكاية "وردة" في "رقصة الطائر البحري" ليست أوصافا بل سردا موسيقيا، لقد غدا الشعر ينهل من السرود ما يفوق الوصف، فوردة حكاية شاعر بصور مختلفة، نسيجة شعرية تمزج بين الذات والعالم، فهي الأنين وهي الصراخ، وهي البوح وهي الفعل، هي الاشتعال وهي الرماد.. هي الماضي والحاضر والمستقبل، هي الأزمنة وهي الفصول كلها.. هي الهدف والمرشد في أقصى الممر، هي علامة وغاية منذورة للنهايات. وهذا ما يجعل "البحث عن الحقيقة، بحثا عن معنى يخفيه النص بكل عناية"(8)، وهو ما نستشفه في "رقصة الطائر البحري" للشاعر المعتمد الخراز الذي يرى الوردة ثائرة ومعلمة ملهمة، ووعدا بميلاد جديد... والوردة في عزلتها تخرج ويتسلطن في المحبرة صوتها... يقول جبران خليل جبران: "وإن جاءكم المغنون والراقصون والعازفون، فاشتروا من عطاياهم ولا ترفضوهم". والورد حكيم في ضعفه/مجتمعه، هو النهر وهو القصيدة المستباحة من الجهل وقد تحول إلى خنجر في خاصرة/غرناطة... إن حكاية "وردة" في "رقصة الطائر البحري" أيقونة شعرية وقوة سردية فاعلة، إنها فاكهة الديوان بمعنى ما ولذته في خفاء وتجلي المعاني: "اللذة أنشودة الحرية ولكنها ليست الحرية بذاتها اللذة زهرة رغباتكم ولكنها ليست ثمرة لها.."(9)، إنه شعر راقص، طائر، بحري.. يدعونا إلى التفكير: "أن نفكر هو أن نتأمل بقلوبنا"(10). وفي الأخير تتوارى وردة في قصيدة "مدينتي"(ص49): آه/ مدينتي/ أترك خلفي ظلك/ وأسكن القصيده

هوامش:
  1. مسار، (حوارات)، عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، 2018. ص: 23
  2. رقصة الطائر البحري (شعر)، المعتمد الخراز، منشورات بيت الشعر في المغرب، ط1، 2017.
  3. المرجع السابق، تقديم محمد الشيخي، ص: 7
  4. مسار، عبد الفتاح كيليطو، ص:34.
  5. المرجع السابق، ص: 137.
  6. النبي، جبران خليل جبران، منشورات عالم الشباب، بيروت. ص: 64.
  7. في فنون الشعر وشجونه، محمد المسعودي، منشورات إخوان السليكي، طنجة، ط1، 2016. ص: 8.
  8. مسار، عبد الفتاح كيليطو، ص: 138.
  9. النبي، جبران خليل جبران، ص: 83.
  10. الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب، بيروت، ط2، 1989. ص: 71.

محمد لغويبي
قاص من المغرب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...