وفي العام الثالث والعشرين من غياب الملك الحسن الثاني، سيرحل أحد أقطاب القمع وأعلامه الكبار في المغرب، وربما في افريقيا والعالم.
وهو يخبرني بموت قدور اليوسفي، لم يتردد أحد المناضلين اليساريين الذين اكتووا بجمر “سنوات الرصاص”، في استعمال لفظة “نفوق”، التي تقال عادة للحيوان، بدل لفظة “وفاة”، التي تقال للبشر. واستدرك: “إن الحيوان سيربأ بتشبيهه بمثل هذا المخلوق المحسوب على البشرية”.
بالرغم من أن الموت ليس مناسبة لتصفية الحسابات، أو للشماتة، فالذي مات لم تعد له القدرة على رد شماتة الشامتين. يقول آخر من ضحايا “سنوات الرصاص”: يجب عليك أن تعلم أن المعني لم يكن يقوى على رد الشماتة حتى وهو على قيد الحياة والتنفس. لقد عاش سنواته ذليلا خائفا مذعورا مشموتا، ولم يكن يداري كآبته إلا بالغرق في الكأس وإدمان المخدرات لعله ينسى، فصراخ من عذبهم ومن هلكهم، ظلت أصداؤه ولا شك تزوره وتنغص عليه هدأته ونومه.
منذ انتشار خبر وفاته، تبادل العديد من المناضلين والحقوقيين رسائل الخبر بالهاتف والوتساب، وجلهم ممن نالوا من “جلاد المملكة الأول” المسمى “قيد موت إنسانيته” بقدور اليوسفي، وترك بعضا من علامات القهر والتنكيل موشومة في الذاكرات والأرواح قبل الأجساد.
حقا، فاق المعني كل وحشية الحيوانات الضارية والمفترسة. إذ اقترنت سيرته بشكل قوي بعهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال حكم الملك الحسن الثاني. والتصق اسمه أكثر بالمعتقل السري “درب مولاي الشريف”، الكائن بأطراف الحي المحمدي بالدار البيضاء. وقد عرف قدور اليوسفي بـ”منتهى الإخلاص الفائق” والمزيد فيه، في مزاولة مهنته، فمهنة “الجلاد” في الأنظمة الاستبدادية، مهنة مطلوبة ومرغوب فيها من الدكتاتور، مثلها مثل مهنة السياف، بل إن السياف يطلق عليه أيضا لقب الجلاد.
كل من مروا بـ”الدرب” وعادوا منه أحياء، لا زالت داخل آذانهم رنة صوته الأجش، وإهاناته بكلماته البذيئة، واستعماله لجهاز الصعق الكهربائي أثناء استنطاق الموقوفين، وكان يحب أن يلهو به كلعبة أطفال، أما التعذيب الجسدي- كما يتذكر أحد الرفاق- فكان يتركه لمرؤوسيه.
وكل من مروا بـ”الدرب” حكوا عن أهوال أعمال قدور اليوسفي القذرة، وعن سطوته وصولاته وجولاته، وهو يقود زبانيته المختارين من بوليس غلاظ شداد، من أنذل ما خلق الله فوق الأرض. وكانوا ينادون بعضهم البعض باسم “الحاج”، ويطلبون من ضحاياهم نفس الأمر. هؤلاء “حجاج” من صنف آخر، ممن لم تكن تأخذهم رأفة ولا شفقة ولا رحمة إزاء بني البشر، ولم تكن عبادتهم وإيمانهم وإخلاصهم إلا لرؤسائهم في المستويات العليا من الهرم القمعي، يفاخرون بمنجزاتهم في التنكيل والتعذيب والقتل، ومن منهم يتفنن ويجيد في تعذيب المعتقلين.
معظم المحكيات والكتابات حول سنوات الرصاص تطرقت إلى الممارسات الوحشية لهذا الجلاد المفترس، وأشارت إليه بأوصاف لا إنسانية.
كان الجلاد قدور اليوسفي برتبة مدير للشرطة القضائية في الجهاز الأمني، ورئيسا للمعتقل السري الرهيب “درب مولاي الشريف”، بل إن مسكنه كان ملحقا فوق مبنى المعتقل، وكان مدمنا على استهلاك المخدرات والخمر، ولا يطرب وبنتشي إلا بسماع أردء ما غنت شيخات العيطة من مباذل. أما أفضل الأوقات لديه للانغمار في عمله الوحشي، فكانت بعد أن ينتصف الليل إلى مطلع الفجر… يا له من عابد متنسك زاهد يقيم الليل من آنائه إلى أطراف النهار. ونجح في مهمته حتى أصبح مرجعا لا يعلى عليه في مجاله، ولو كانت هناك درجة دكتوراه أو جوائز دولية في فنون التعذيب، لفاز بها قدور اليوسفي عن جدارة واستحقاق، طبعا باسم المغرب، الذي ستعلو حينها رايته خفاقة بين رايات الاستبداد.. فلم يكن اليوسفي فاتحا ورشة تعذيب يشتغل بها لحسابه الخاص…
في سنة 1995 عقد مؤتمر دولي ضد التعذيب، حضره وفد رسمي مغربي من أجل مناقشة التقرير الدولي حول التعذيب، والإجابة على أسئلة الخبراء في اللجنة، وكان من ضمن الوفد الخبير العالمي في “حقوق الإنسان” قدور اليوسفي.
لم يكن قدور ولا من أقحموه في الوفد، يعلمون أنهم بصدد ارتكاب فضيحة مدوية كبرى، فقد تواجد في المؤتمر الأممي معتقلون سياسيون سابقون، ممن سبق لقدور اليوسفي أن عذبهم شخصيا، ومن ضمن من تعرف عليه الراحل إدريس بن زكري، وجمال بن عمر، وكان الأخير حينها يشتغل في منظمة العفو الدولية في لندن، قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة كدبلوماسي.
الأمر الذي اثار ضجة أوقعت الوفد الرسمي المغربي في الإحراج الشديد، عندما قام المناضلون المغاربة باحتجاج قوي ضد وجود الجلاد قدور اليوسفي ضمن الوفد المغربي، وهو المسؤول المباشر على التعذيب، ومن كان يشرف على عمليات التعذيب والاستنطاق التي كان يخضع لها المعتقلون. هكذا حدثت أزمة بين السلطات المغربية والأمم المتحدة.
***
بعد إحالته على التقاعد هو وعدد من مرؤوسيه، بينهم عبد اللطيف بنغانم، الذي تعرف عليه المناضل اليساري مومن الشباري، عندما صادفه في متجر “ألفا 55″، وقد أصبح بنغانم يعمل في إدارة ذلك المبنى التجاري الكبير وسط الدار البيضاْء، بل إن “ألفا 55” كانت تعود لشقيقه رجل الأعمال محمد بنغانم.
وغير بعيد عن “ألفا 55” أصبح قدور اليوسفي دائم التواجد بمتجر ملابس رجالية ليهودي مغربي، كان مشهورا باسم “سام”. كان المتجر محاذيا لمقهى وحانة “مرس السلطان”، لكن الجلاد كان يخشى الظهور في الأماكن العامة، لذلك كان يلجأ إلى صديقه التاجر اليهودي ليحتسي الخمر داخل دكانه المعتم، الذي كان “سام” يحرص على رفع العلم الأمريكي بواجهته.
عندما شاهدت قدور اليوسفي من بعيد عند “سام”، كان معه الساخر حميد اكسيكسو. أخبرت حميد بأن من يجالسه هو وحش بوليسي متقاعد، اسمه قدور اليوسفي، ونصحته بالابتعاد عنه. لكن اكسيكسو رد علي بأنه وجده شخصا لطيفا ومحبا لسماع النكت التي كان يلقيها أمامه. ثم قال لي إنه لا يهمه ماضي قدور أو مهنته، ما دام يقضي وقتا طيبا معه ليكرع كؤوس الويسكي من النوع الفاخر ببلاش.
في السنوات الأخيرة أصبح قدور يستعمل كرسيا متحركا. وقد استقبل أحد ضحايا سنوات الرصاص، الاتحادي أحمد أقداف في مكتبه بالبنك العقاري والسياحي، الجلاد المتقاعد، وذلك من أجل إنجاز ملف شراء شقة لابنته التي كانت ترافقه، وكان أقداف مسؤولا آنذاك بإدارة بنك “السياش”. لما سألته كيف تعامل مع هذا الجلاد الخطير، رد علي انه عامله كما يعامل أي زبون. “نحن لسنا مثلهم، ولن نكون”.
طويت صفحة قدور اليوسفي منذ أعوام تقاعده، هو وعدد كبير من مرؤوسيه، لكن صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تطو بعد، بل إن التاريخ يعيد نفسه بعودة ممارسات “سنوات الرصاص” على شكل المهزلة.
وهو يخبرني بموت قدور اليوسفي، لم يتردد أحد المناضلين اليساريين الذين اكتووا بجمر “سنوات الرصاص”، في استعمال لفظة “نفوق”، التي تقال عادة للحيوان، بدل لفظة “وفاة”، التي تقال للبشر. واستدرك: “إن الحيوان سيربأ بتشبيهه بمثل هذا المخلوق المحسوب على البشرية”.
بالرغم من أن الموت ليس مناسبة لتصفية الحسابات، أو للشماتة، فالذي مات لم تعد له القدرة على رد شماتة الشامتين. يقول آخر من ضحايا “سنوات الرصاص”: يجب عليك أن تعلم أن المعني لم يكن يقوى على رد الشماتة حتى وهو على قيد الحياة والتنفس. لقد عاش سنواته ذليلا خائفا مذعورا مشموتا، ولم يكن يداري كآبته إلا بالغرق في الكأس وإدمان المخدرات لعله ينسى، فصراخ من عذبهم ومن هلكهم، ظلت أصداؤه ولا شك تزوره وتنغص عليه هدأته ونومه.
منذ انتشار خبر وفاته، تبادل العديد من المناضلين والحقوقيين رسائل الخبر بالهاتف والوتساب، وجلهم ممن نالوا من “جلاد المملكة الأول” المسمى “قيد موت إنسانيته” بقدور اليوسفي، وترك بعضا من علامات القهر والتنكيل موشومة في الذاكرات والأرواح قبل الأجساد.
حقا، فاق المعني كل وحشية الحيوانات الضارية والمفترسة. إذ اقترنت سيرته بشكل قوي بعهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال حكم الملك الحسن الثاني. والتصق اسمه أكثر بالمعتقل السري “درب مولاي الشريف”، الكائن بأطراف الحي المحمدي بالدار البيضاء. وقد عرف قدور اليوسفي بـ”منتهى الإخلاص الفائق” والمزيد فيه، في مزاولة مهنته، فمهنة “الجلاد” في الأنظمة الاستبدادية، مهنة مطلوبة ومرغوب فيها من الدكتاتور، مثلها مثل مهنة السياف، بل إن السياف يطلق عليه أيضا لقب الجلاد.
كل من مروا بـ”الدرب” وعادوا منه أحياء، لا زالت داخل آذانهم رنة صوته الأجش، وإهاناته بكلماته البذيئة، واستعماله لجهاز الصعق الكهربائي أثناء استنطاق الموقوفين، وكان يحب أن يلهو به كلعبة أطفال، أما التعذيب الجسدي- كما يتذكر أحد الرفاق- فكان يتركه لمرؤوسيه.
وكل من مروا بـ”الدرب” حكوا عن أهوال أعمال قدور اليوسفي القذرة، وعن سطوته وصولاته وجولاته، وهو يقود زبانيته المختارين من بوليس غلاظ شداد، من أنذل ما خلق الله فوق الأرض. وكانوا ينادون بعضهم البعض باسم “الحاج”، ويطلبون من ضحاياهم نفس الأمر. هؤلاء “حجاج” من صنف آخر، ممن لم تكن تأخذهم رأفة ولا شفقة ولا رحمة إزاء بني البشر، ولم تكن عبادتهم وإيمانهم وإخلاصهم إلا لرؤسائهم في المستويات العليا من الهرم القمعي، يفاخرون بمنجزاتهم في التنكيل والتعذيب والقتل، ومن منهم يتفنن ويجيد في تعذيب المعتقلين.
معظم المحكيات والكتابات حول سنوات الرصاص تطرقت إلى الممارسات الوحشية لهذا الجلاد المفترس، وأشارت إليه بأوصاف لا إنسانية.
كان الجلاد قدور اليوسفي برتبة مدير للشرطة القضائية في الجهاز الأمني، ورئيسا للمعتقل السري الرهيب “درب مولاي الشريف”، بل إن مسكنه كان ملحقا فوق مبنى المعتقل، وكان مدمنا على استهلاك المخدرات والخمر، ولا يطرب وبنتشي إلا بسماع أردء ما غنت شيخات العيطة من مباذل. أما أفضل الأوقات لديه للانغمار في عمله الوحشي، فكانت بعد أن ينتصف الليل إلى مطلع الفجر… يا له من عابد متنسك زاهد يقيم الليل من آنائه إلى أطراف النهار. ونجح في مهمته حتى أصبح مرجعا لا يعلى عليه في مجاله، ولو كانت هناك درجة دكتوراه أو جوائز دولية في فنون التعذيب، لفاز بها قدور اليوسفي عن جدارة واستحقاق، طبعا باسم المغرب، الذي ستعلو حينها رايته خفاقة بين رايات الاستبداد.. فلم يكن اليوسفي فاتحا ورشة تعذيب يشتغل بها لحسابه الخاص…
في سنة 1995 عقد مؤتمر دولي ضد التعذيب، حضره وفد رسمي مغربي من أجل مناقشة التقرير الدولي حول التعذيب، والإجابة على أسئلة الخبراء في اللجنة، وكان من ضمن الوفد الخبير العالمي في “حقوق الإنسان” قدور اليوسفي.
لم يكن قدور ولا من أقحموه في الوفد، يعلمون أنهم بصدد ارتكاب فضيحة مدوية كبرى، فقد تواجد في المؤتمر الأممي معتقلون سياسيون سابقون، ممن سبق لقدور اليوسفي أن عذبهم شخصيا، ومن ضمن من تعرف عليه الراحل إدريس بن زكري، وجمال بن عمر، وكان الأخير حينها يشتغل في منظمة العفو الدولية في لندن، قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة كدبلوماسي.
الأمر الذي اثار ضجة أوقعت الوفد الرسمي المغربي في الإحراج الشديد، عندما قام المناضلون المغاربة باحتجاج قوي ضد وجود الجلاد قدور اليوسفي ضمن الوفد المغربي، وهو المسؤول المباشر على التعذيب، ومن كان يشرف على عمليات التعذيب والاستنطاق التي كان يخضع لها المعتقلون. هكذا حدثت أزمة بين السلطات المغربية والأمم المتحدة.
***
بعد إحالته على التقاعد هو وعدد من مرؤوسيه، بينهم عبد اللطيف بنغانم، الذي تعرف عليه المناضل اليساري مومن الشباري، عندما صادفه في متجر “ألفا 55″، وقد أصبح بنغانم يعمل في إدارة ذلك المبنى التجاري الكبير وسط الدار البيضاْء، بل إن “ألفا 55” كانت تعود لشقيقه رجل الأعمال محمد بنغانم.
وغير بعيد عن “ألفا 55” أصبح قدور اليوسفي دائم التواجد بمتجر ملابس رجالية ليهودي مغربي، كان مشهورا باسم “سام”. كان المتجر محاذيا لمقهى وحانة “مرس السلطان”، لكن الجلاد كان يخشى الظهور في الأماكن العامة، لذلك كان يلجأ إلى صديقه التاجر اليهودي ليحتسي الخمر داخل دكانه المعتم، الذي كان “سام” يحرص على رفع العلم الأمريكي بواجهته.
عندما شاهدت قدور اليوسفي من بعيد عند “سام”، كان معه الساخر حميد اكسيكسو. أخبرت حميد بأن من يجالسه هو وحش بوليسي متقاعد، اسمه قدور اليوسفي، ونصحته بالابتعاد عنه. لكن اكسيكسو رد علي بأنه وجده شخصا لطيفا ومحبا لسماع النكت التي كان يلقيها أمامه. ثم قال لي إنه لا يهمه ماضي قدور أو مهنته، ما دام يقضي وقتا طيبا معه ليكرع كؤوس الويسكي من النوع الفاخر ببلاش.
في السنوات الأخيرة أصبح قدور يستعمل كرسيا متحركا. وقد استقبل أحد ضحايا سنوات الرصاص، الاتحادي أحمد أقداف في مكتبه بالبنك العقاري والسياحي، الجلاد المتقاعد، وذلك من أجل إنجاز ملف شراء شقة لابنته التي كانت ترافقه، وكان أقداف مسؤولا آنذاك بإدارة بنك “السياش”. لما سألته كيف تعامل مع هذا الجلاد الخطير، رد علي انه عامله كما يعامل أي زبون. “نحن لسنا مثلهم، ولن نكون”.
طويت صفحة قدور اليوسفي منذ أعوام تقاعده، هو وعدد كبير من مرؤوسيه، لكن صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تطو بعد، بل إن التاريخ يعيد نفسه بعودة ممارسات “سنوات الرصاص” على شكل المهزلة.