احتل موضوع العلاقة ما بين الفن والأخلاق حيزاً لا بأس به في فضاء الاستطيقا، ولا يعنينا هنا أن نرصد هذه العلاقة على مرّ التاريخ الفكري، بل سوف نقف على عجالة على رأي فيلسوفين فيها، لهما شأن خطير لا في هذه المسألة وحسب، ولكن في حقل الفلسفة عموماً، هذان الفيلسوفان هما أفلاطون وهيجل.
وعقد مقارنة لمسألة الفن والأخلاق لدى هذين الفيلسوفين هو أمر ماتع، لأن المقارنة تحلو مع التقارب، كما تحلو مع الاختلاف، وهذا ينطبق على فيلسوفينا هنا، فإن جمعتْ بينهما الفلسفة المثالية (حتى أنهما يعتبران أهم أعلامها في تاريخ الفلسفة) إلا أن رؤاهما في الفن والأخلاق تتفاوتان كما يتفاوت اللون الأبيض عن الأسود...!
لعل أفلاطون هو أول من أشار إلى أهمية الأخلاق في الفن، على الأقل وفقاً لتاريخ الفلسفة المعلوم لدينا... ولاشك لديّ بأنه استمد هذه الرؤية من واقع الفكر اليوناني آنذاك الذي كان ينحوّ إلى توحيد القيم العقلية والفنية والأخلاقية في بوتقة واحدة، لقد كان شائعاً لدى الإغريق - على ما يبدو - فكرة مفادها بأن الخير والجمال والحق شيء واحد... ونلمّح هذا من خلال الحوار الذي أجراه أفلاطون على لسان سقراط وهيبياس في محاورة "هيبياس الأكبر"، لقد تحاورا عن حقيقة الجميل، فهل هو المتناسب المنسجم أو هو الخير العادل أو هو النافع الصالح؟ إلا أن سقراط خلص إلى أن من الصعب أن نبت في مسألة الجميل، لذا ختم المحاورة بمثال شائع يقول: "الأشياء الجميلة صعبة"، رغم أنه في محاورة "فيليبوس" بدا أنه يؤيد الرأي القائل بأن الجميل هو المتناسب المنسجم بوصفة درجة وسيطة بين الرزانة والحكمة[1]... "
غير أن نزعة أفلاطون الأخلاقية في الفن نجدها واضحة كل الوضوح في "الجمهورية" حيث أنه "رفض بشكل قاطع الفنون التي لا تحث على الفضيلة وتفسد العقول، لانها يجب أن تطبع بصورة الخير"[2] ، لذا لا غرابة أن يطرد الشعراء من مملكته الطوباوية، فإن لم يستقر أفلاطون من خلال رأي أستاذه على رأي ثابت في كنة الجمال إلا أن لديه رأياً راسخاً في العلاقة التي تربط الجميل بالأخلاقي! نلحظ هذا في الحوار الذي دار بين سقراط و غلوكون:
سقراط: إن معظم القصص المتداولة الآن يجب أن تنبذ.
غلوكون: أي نوع تعني؟
سقراط: فإذا أخذنا العظيمة منها، فإننا سنرى فيها نموذجاً للباقي التي لابد أن تكون من النمط نفسه ولها نفس الأثر
غلوكون: دون شك، ولكن ماذا تعني بالعظيمة منها؟
سقراط: القصص في هسيود وهوميروس والشعراء عموماً
غلوكون: أن نوع من القصص تعني، وما الخطأ الكامن فيها؟
سقراط: أسوأ الأخطاء فيها وبخاصة إذا كانت القصة قبيحة ولا أخلاقية فضلاً عن كونها زائقة – تشوه طبيعة الآلهة والأبطال كالرسام الذي لا تكون صورته شبيهة بالموضوع الذي يرسمه.
لكن علينا الحذر في فهم الأسباب التي دعت أفلاطون إلى التقليل من شأن الفن، فالأمر ليس مرده الأخلاق من حيث أنها أخلاق وحسب، ولكن للأمر أبعاد أكبر من ذلك، ذلك أن الفن يحرّف "الحقيقة" فهو لا ينقل لنا حقيقة الأشياء، وشعر المحاكاة بالتالي كما يقول سقراط: "يفسد عقول الذين يسمعونه، إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة"، وبحكم أن الفن محاكاة للمظهر، يخلص سقراط في نفس المحاورة على أن المحاكاة بعيدة عن الأصل، وبالتالي هي شبح للأشياء، أي تماماً كالأوهام... فجوهر الأمر إذن مرتبط بمفهوم "الحق" بالمعنى الكلي الذي يشتمل على المعرفة أيضاً، لذا عندما يتواجد الترياق الحامي، وهو المعرفة هنا، يتخذ أفلاطون موقفاً أقل تشدداً إزاء الفن، فعلينا أن نتذكر بأن أفلاطون لم يرفض الشعر على أطلاقه، فقد سمح بالشعر التعليمي، وهو أمر يدل على أن جوهر المسألة مرهون بخلط منظومة القيم مع بعضها البعض، كأن نعتقد بأن قيمة المعرفة هي ذاتها قيمة الجميل...!
تحفظ أفلاطون على الفن ينبغي أن يفهم من داخل فلسفته الميتافيزيقية ذاتها، فعالم المثل هو عالم كلي ومتكامل، والعالم المحسوس ليس إلا انعكاسا لهذا العالم، ومن ثم فإن عالم الحس محاكاة لعالم المثل، لذا يعتريه النقصان، وعندما يكون الفن هو محاكاة لهذا العالم الذي يعتبر بدوره محاكاة لعالم الحقيقة الكلية – عالم المثل، فالفن إذن هو تصوير ناقص لعالمٍ ناقصٍ... من هنا، فالرسالة التي يحاول الفن أن يوصلها لنا لابد أن تكون -وفقاً لهذه الرؤية- شديدة النقصان، وبالتالي مضلّله، وينبغي علينا إذن أن نلجم الفن بالحق، إن أرادنا أن نجعل منه عملاً نافعاً للمجتمع، ففلسفة أفلاطون المثالية هي التي أنزلت الفن هذا المنزل المتردي... !
في الطرف الآخر، نجد أن فلسفة هيجل المثالية هي التي سوف تعلي من شأو الفن علواً لم يعرف له مثيل في تاريخ الفلسفة قبل هيجل... ففلسفة هيجل -كما هو معلوم- هي فلسفة تقوم على منطق ديكالطيقي (جدلي) يمثل جوهر الوجود، المنطق على هذا الأساس هو مقولة الفكرة في ذاتها (وهي القضية)، وفلسفة الطبيعة هي الفكرة في الآخر أي في تخارجها إلى الموضوعات (وهي النقيض)، والقسم الأخير من الثالوث الهيجلي هو الروح المطلق، إذ أنها (المركب) الذي يتكون من القضية ونقيضها، وتتجلى الروح المطلقة فيه عن نفسها في العالم عائدةً إلى ذاتها بعد أن فارقتها في مرحلة النقيضة.
وطالما أن المنطق هو مقولة الفكرة في ذاتها، فإن الطبيعة هي الفكرة في الآخر، وهي تتلمس ذاتها في العالم الواقعي ، إذ أنها "تتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفسها وتستبطن في فكرة الإنسان"[3] في النهج الديكالطيقي، الطبيعة هي المرحلة الثانية، وهي نقيضة القضية الأولى (الفكرة/العقل)، على أنه لا ينبغي أن ننظر لمفهوم الطبيعة هنا على أنها خروج عن الفضاء الفكري والروحي، فالطبيعة ليست إلا الفكرة، ولكنها في تخارجها عن ذاتها.
وفي فلسفة الروح، وهي المرحلة الأخيرة من الثالوث الهيجلي، نصل إلى مربط الفرس في فلسفة هيجل فيما يتعلق بموضوعنا هذا، لأن الروح المطلق تتمثل في الفن، وكذلك في الدين والفلسفة، وهذه هي ذات" فنومينولوجيا الروح التي يرينا فيها هيغل الوعي وهو يترقى رويداً رويداً من الإشكال الابتدائية للإحساس وصولاً إلى العلم، ثم المنطق حيث يتحدد التصور في ذاته، ثم فلسفة الطبيعة التي تشير إلى اللحظة التي يغدو فيها الروح غريباً عن نفسه، وأخيراً فلسفة الروح التي تبين عن عودة الروح إلى ذاتـه في القانون والأخلاق والدين والفلسفة، فالمذهب إذن ملحمة رحيبة للروح "[4].
وتنقسم فلسفة الروح أيضاً إلى ثلاث حلقات: (1) الروح الذاتية مضمونها هو العقل البشري منظوراً إليه نظرة ذاتية على أنه عقل الذات الفردية. أما في (2) الروح الموضوعية، فهي تبدأ بالخروج من ذاتها إلى الآخر في الخارج، هو عالم الموضوع، ولكنه ليس بالعالم المادي، بل هو العالم الروحي (الفكري) – أي عالم المؤسسات والتنظيمات: القانون والأخلاق والدولة. ويتحد الذاتي مع الموضوعي فيشكلان (3) الروح المطلق التي تمثل الروح البشري في تجلياتها في الفن والدين والفلسفة، وهذه المراحل لا ينبغي أن تفهم على أنها مراحل زمنية، ولكنها بالأحرى منطقية، إذ تُستنبط كل حلقة من الأخرى استنباطاً منطقياً.
من هذه اللمحة المختصرة لفلسفة هيجل في الميتافيزيقا نرى بأنها عكس فلسفة أفلاطون تضع الفن في أعلى سدّتها، فالفن تعبير عن أجلّ منازل الروح المطلق، ويقصر عن ذلك جميع العلوم الأخرى (باستثناء الدين والفلسفة)، فلا الأخلاق ولا القانون يوازيان منزلة الفن لدى هيجل...!!!
لذا الفن لدى هيجل هو تجسّد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، ومن هنا يشكل تمظهر من تمظهرات الروح المطلق، وهو تعيّن لها في العالم الحسي، من هنا نلحظ رابطة مهمة في فلسفة هيجل ، تربط ما بين الجمال الفني والروح المطلق، وهي رابطة الوعي بالحقيقة، فـ"أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم"[5]، وجمال الفن يتلاقى مع الروح المطلق بحكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة، فجمال الفن هنا بخلاف ما هو عليه لدى أفلاطون هو مثال الحقيقة، لأنه تعيين المطلق في الحسي، وهو تعبير عن الحقيقة في أعلى تجلياتها...!
وهذا ما دفع بهيجل إلى أن يذهب - مخالفاً السائد - إلى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة، يقول هيجل مؤكداً على هذا: " في وسعنا أن نؤكد على ما يخيّل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فأن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن".
وطالما أن جمال الفن هو جمال خالص يسمو على الأغراض والرغبات، فلابد - إذن - أن يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق، بل أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه، "فلئن لم يكن بد بأي ثمن من غزو هدف نهائي إلى الفن، فإن هذا الهدف يجب أن يكون من طبيعة يكفي معها نفسه بنفسه، وعليه، لا يمكن لغايته المفترضة إلا أن تكون غاية في ذاتها"[6]، ولا يرى هيجل بأن الفن خاوٍ من كل دلالة أخلاقية، ولكن يرفض أن يكون هو الغاية النهائية للفن، كما "لا يرى مانعاً أيضاً أن توجد الوصايا الأخلاقية في العمل الفني بشكل ضمني، بشرط ألا تظهر فيه بصورة جلية ولا تقدم لنا كواجب ينبغي العمل به"[7] .
ويمكن أن نختزل الفارق بينهما فيما يلي:
· الفن لدى أفلاطون محكوم بالأخلاق بينما هو لدى هيجل منزه عن كل مآرب. (رغم أن هناك نقد له وجاهته حيال هذا، يقدمه لنا الدكتور نوكس، يقول: "هذا التصور يلقي ظلاً من الشك على جدية تأكيد هيجل في أن غاية الفن تقوم في ذاته، ولكن الحقيقة هي أن هذا الفصل بين المضمون والشكل إنما يرتب جملة نتائج هامة، هو يستكمل في تحديد هيجل للفن كرمز حسي لمضمون ميتافيزيقي"[8])
· موقف أفلاطون تجاه الفن مبرر من خلال المفهوم الذي يقدمه عن "الحقيقة"، إذ أنها متعالية عن "المادة"، ويشمل هذا الفن، بينما هو لدى هيجل تمثلات للحقيقة التي تتجلى من خلال أنطولوجية الفن.
· لذا يذهب هيجل إلى أن الفن أجمل من الطبيعة، لأن الفن تعبير عن الروح المطلق في مرحلة متقدمة ديكالطيقياً عن الطبيعة في نسق فلسفة هيجل، غير أنه لدى أفلاطون يكاد يكون تشويهاً للطبيعة الناقصة بدورها عن تمثل الحقيقة في عالم المثل.
· إذن الفن لدى أفلاطون "محرم" في المدينة الفاضلة، ولكن ليس كذلك في مدينة الواقع، وهذا أمر غالباً ما لا يلتف له عند بسط نظرية أفلاطون في الفن، فهو ليس ضد الفن، بقدر ما هو ضد مثالية الفن في عالمه الطوباوي، بينما هو لدى هيجل منسجم مع فلسفته المثالية التي تمزج جدلياً المجرد بالمجسد.
[1] أفلاطون، محاور هيبياس الأكبر – ص: 11
[2] جعفر الشكري، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال، ص: 16
[3] موسوعة الفلسفة، الدكتور عبدالرحمن بدوي – ص 587
[4] أميل برهييه، تاريخ الفلسفة – مجلد القرن 19 ص 199
[5] هيجل، المدخل إلى علم الجمال وفكرة الجمال – ص: 164
[6] المرجع السابق – ص: 53
[7] الدكتور جعفر الشكرجي، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال – ص: 89
[8] الدكتور أ نوكس، النظريات الجمالية – ص: 107
وعقد مقارنة لمسألة الفن والأخلاق لدى هذين الفيلسوفين هو أمر ماتع، لأن المقارنة تحلو مع التقارب، كما تحلو مع الاختلاف، وهذا ينطبق على فيلسوفينا هنا، فإن جمعتْ بينهما الفلسفة المثالية (حتى أنهما يعتبران أهم أعلامها في تاريخ الفلسفة) إلا أن رؤاهما في الفن والأخلاق تتفاوتان كما يتفاوت اللون الأبيض عن الأسود...!
لعل أفلاطون هو أول من أشار إلى أهمية الأخلاق في الفن، على الأقل وفقاً لتاريخ الفلسفة المعلوم لدينا... ولاشك لديّ بأنه استمد هذه الرؤية من واقع الفكر اليوناني آنذاك الذي كان ينحوّ إلى توحيد القيم العقلية والفنية والأخلاقية في بوتقة واحدة، لقد كان شائعاً لدى الإغريق - على ما يبدو - فكرة مفادها بأن الخير والجمال والحق شيء واحد... ونلمّح هذا من خلال الحوار الذي أجراه أفلاطون على لسان سقراط وهيبياس في محاورة "هيبياس الأكبر"، لقد تحاورا عن حقيقة الجميل، فهل هو المتناسب المنسجم أو هو الخير العادل أو هو النافع الصالح؟ إلا أن سقراط خلص إلى أن من الصعب أن نبت في مسألة الجميل، لذا ختم المحاورة بمثال شائع يقول: "الأشياء الجميلة صعبة"، رغم أنه في محاورة "فيليبوس" بدا أنه يؤيد الرأي القائل بأن الجميل هو المتناسب المنسجم بوصفة درجة وسيطة بين الرزانة والحكمة[1]... "
غير أن نزعة أفلاطون الأخلاقية في الفن نجدها واضحة كل الوضوح في "الجمهورية" حيث أنه "رفض بشكل قاطع الفنون التي لا تحث على الفضيلة وتفسد العقول، لانها يجب أن تطبع بصورة الخير"[2] ، لذا لا غرابة أن يطرد الشعراء من مملكته الطوباوية، فإن لم يستقر أفلاطون من خلال رأي أستاذه على رأي ثابت في كنة الجمال إلا أن لديه رأياً راسخاً في العلاقة التي تربط الجميل بالأخلاقي! نلحظ هذا في الحوار الذي دار بين سقراط و غلوكون:
سقراط: إن معظم القصص المتداولة الآن يجب أن تنبذ.
غلوكون: أي نوع تعني؟
سقراط: فإذا أخذنا العظيمة منها، فإننا سنرى فيها نموذجاً للباقي التي لابد أن تكون من النمط نفسه ولها نفس الأثر
غلوكون: دون شك، ولكن ماذا تعني بالعظيمة منها؟
سقراط: القصص في هسيود وهوميروس والشعراء عموماً
غلوكون: أن نوع من القصص تعني، وما الخطأ الكامن فيها؟
سقراط: أسوأ الأخطاء فيها وبخاصة إذا كانت القصة قبيحة ولا أخلاقية فضلاً عن كونها زائقة – تشوه طبيعة الآلهة والأبطال كالرسام الذي لا تكون صورته شبيهة بالموضوع الذي يرسمه.
لكن علينا الحذر في فهم الأسباب التي دعت أفلاطون إلى التقليل من شأن الفن، فالأمر ليس مرده الأخلاق من حيث أنها أخلاق وحسب، ولكن للأمر أبعاد أكبر من ذلك، ذلك أن الفن يحرّف "الحقيقة" فهو لا ينقل لنا حقيقة الأشياء، وشعر المحاكاة بالتالي كما يقول سقراط: "يفسد عقول الذين يسمعونه، إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة"، وبحكم أن الفن محاكاة للمظهر، يخلص سقراط في نفس المحاورة على أن المحاكاة بعيدة عن الأصل، وبالتالي هي شبح للأشياء، أي تماماً كالأوهام... فجوهر الأمر إذن مرتبط بمفهوم "الحق" بالمعنى الكلي الذي يشتمل على المعرفة أيضاً، لذا عندما يتواجد الترياق الحامي، وهو المعرفة هنا، يتخذ أفلاطون موقفاً أقل تشدداً إزاء الفن، فعلينا أن نتذكر بأن أفلاطون لم يرفض الشعر على أطلاقه، فقد سمح بالشعر التعليمي، وهو أمر يدل على أن جوهر المسألة مرهون بخلط منظومة القيم مع بعضها البعض، كأن نعتقد بأن قيمة المعرفة هي ذاتها قيمة الجميل...!
تحفظ أفلاطون على الفن ينبغي أن يفهم من داخل فلسفته الميتافيزيقية ذاتها، فعالم المثل هو عالم كلي ومتكامل، والعالم المحسوس ليس إلا انعكاسا لهذا العالم، ومن ثم فإن عالم الحس محاكاة لعالم المثل، لذا يعتريه النقصان، وعندما يكون الفن هو محاكاة لهذا العالم الذي يعتبر بدوره محاكاة لعالم الحقيقة الكلية – عالم المثل، فالفن إذن هو تصوير ناقص لعالمٍ ناقصٍ... من هنا، فالرسالة التي يحاول الفن أن يوصلها لنا لابد أن تكون -وفقاً لهذه الرؤية- شديدة النقصان، وبالتالي مضلّله، وينبغي علينا إذن أن نلجم الفن بالحق، إن أرادنا أن نجعل منه عملاً نافعاً للمجتمع، ففلسفة أفلاطون المثالية هي التي أنزلت الفن هذا المنزل المتردي... !
في الطرف الآخر، نجد أن فلسفة هيجل المثالية هي التي سوف تعلي من شأو الفن علواً لم يعرف له مثيل في تاريخ الفلسفة قبل هيجل... ففلسفة هيجل -كما هو معلوم- هي فلسفة تقوم على منطق ديكالطيقي (جدلي) يمثل جوهر الوجود، المنطق على هذا الأساس هو مقولة الفكرة في ذاتها (وهي القضية)، وفلسفة الطبيعة هي الفكرة في الآخر أي في تخارجها إلى الموضوعات (وهي النقيض)، والقسم الأخير من الثالوث الهيجلي هو الروح المطلق، إذ أنها (المركب) الذي يتكون من القضية ونقيضها، وتتجلى الروح المطلقة فيه عن نفسها في العالم عائدةً إلى ذاتها بعد أن فارقتها في مرحلة النقيضة.
وطالما أن المنطق هو مقولة الفكرة في ذاتها، فإن الطبيعة هي الفكرة في الآخر، وهي تتلمس ذاتها في العالم الواقعي ، إذ أنها "تتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفسها وتستبطن في فكرة الإنسان"[3] في النهج الديكالطيقي، الطبيعة هي المرحلة الثانية، وهي نقيضة القضية الأولى (الفكرة/العقل)، على أنه لا ينبغي أن ننظر لمفهوم الطبيعة هنا على أنها خروج عن الفضاء الفكري والروحي، فالطبيعة ليست إلا الفكرة، ولكنها في تخارجها عن ذاتها.
وفي فلسفة الروح، وهي المرحلة الأخيرة من الثالوث الهيجلي، نصل إلى مربط الفرس في فلسفة هيجل فيما يتعلق بموضوعنا هذا، لأن الروح المطلق تتمثل في الفن، وكذلك في الدين والفلسفة، وهذه هي ذات" فنومينولوجيا الروح التي يرينا فيها هيغل الوعي وهو يترقى رويداً رويداً من الإشكال الابتدائية للإحساس وصولاً إلى العلم، ثم المنطق حيث يتحدد التصور في ذاته، ثم فلسفة الطبيعة التي تشير إلى اللحظة التي يغدو فيها الروح غريباً عن نفسه، وأخيراً فلسفة الروح التي تبين عن عودة الروح إلى ذاتـه في القانون والأخلاق والدين والفلسفة، فالمذهب إذن ملحمة رحيبة للروح "[4].
وتنقسم فلسفة الروح أيضاً إلى ثلاث حلقات: (1) الروح الذاتية مضمونها هو العقل البشري منظوراً إليه نظرة ذاتية على أنه عقل الذات الفردية. أما في (2) الروح الموضوعية، فهي تبدأ بالخروج من ذاتها إلى الآخر في الخارج، هو عالم الموضوع، ولكنه ليس بالعالم المادي، بل هو العالم الروحي (الفكري) – أي عالم المؤسسات والتنظيمات: القانون والأخلاق والدولة. ويتحد الذاتي مع الموضوعي فيشكلان (3) الروح المطلق التي تمثل الروح البشري في تجلياتها في الفن والدين والفلسفة، وهذه المراحل لا ينبغي أن تفهم على أنها مراحل زمنية، ولكنها بالأحرى منطقية، إذ تُستنبط كل حلقة من الأخرى استنباطاً منطقياً.
من هذه اللمحة المختصرة لفلسفة هيجل في الميتافيزيقا نرى بأنها عكس فلسفة أفلاطون تضع الفن في أعلى سدّتها، فالفن تعبير عن أجلّ منازل الروح المطلق، ويقصر عن ذلك جميع العلوم الأخرى (باستثناء الدين والفلسفة)، فلا الأخلاق ولا القانون يوازيان منزلة الفن لدى هيجل...!!!
لذا الفن لدى هيجل هو تجسّد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، ومن هنا يشكل تمظهر من تمظهرات الروح المطلق، وهو تعيّن لها في العالم الحسي، من هنا نلحظ رابطة مهمة في فلسفة هيجل ، تربط ما بين الجمال الفني والروح المطلق، وهي رابطة الوعي بالحقيقة، فـ"أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم"[5]، وجمال الفن يتلاقى مع الروح المطلق بحكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة، فجمال الفن هنا بخلاف ما هو عليه لدى أفلاطون هو مثال الحقيقة، لأنه تعيين المطلق في الحسي، وهو تعبير عن الحقيقة في أعلى تجلياتها...!
وهذا ما دفع بهيجل إلى أن يذهب - مخالفاً السائد - إلى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة، يقول هيجل مؤكداً على هذا: " في وسعنا أن نؤكد على ما يخيّل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فأن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن".
وطالما أن جمال الفن هو جمال خالص يسمو على الأغراض والرغبات، فلابد - إذن - أن يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق، بل أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه، "فلئن لم يكن بد بأي ثمن من غزو هدف نهائي إلى الفن، فإن هذا الهدف يجب أن يكون من طبيعة يكفي معها نفسه بنفسه، وعليه، لا يمكن لغايته المفترضة إلا أن تكون غاية في ذاتها"[6]، ولا يرى هيجل بأن الفن خاوٍ من كل دلالة أخلاقية، ولكن يرفض أن يكون هو الغاية النهائية للفن، كما "لا يرى مانعاً أيضاً أن توجد الوصايا الأخلاقية في العمل الفني بشكل ضمني، بشرط ألا تظهر فيه بصورة جلية ولا تقدم لنا كواجب ينبغي العمل به"[7] .
ويمكن أن نختزل الفارق بينهما فيما يلي:
· الفن لدى أفلاطون محكوم بالأخلاق بينما هو لدى هيجل منزه عن كل مآرب. (رغم أن هناك نقد له وجاهته حيال هذا، يقدمه لنا الدكتور نوكس، يقول: "هذا التصور يلقي ظلاً من الشك على جدية تأكيد هيجل في أن غاية الفن تقوم في ذاته، ولكن الحقيقة هي أن هذا الفصل بين المضمون والشكل إنما يرتب جملة نتائج هامة، هو يستكمل في تحديد هيجل للفن كرمز حسي لمضمون ميتافيزيقي"[8])
· موقف أفلاطون تجاه الفن مبرر من خلال المفهوم الذي يقدمه عن "الحقيقة"، إذ أنها متعالية عن "المادة"، ويشمل هذا الفن، بينما هو لدى هيجل تمثلات للحقيقة التي تتجلى من خلال أنطولوجية الفن.
· لذا يذهب هيجل إلى أن الفن أجمل من الطبيعة، لأن الفن تعبير عن الروح المطلق في مرحلة متقدمة ديكالطيقياً عن الطبيعة في نسق فلسفة هيجل، غير أنه لدى أفلاطون يكاد يكون تشويهاً للطبيعة الناقصة بدورها عن تمثل الحقيقة في عالم المثل.
· إذن الفن لدى أفلاطون "محرم" في المدينة الفاضلة، ولكن ليس كذلك في مدينة الواقع، وهذا أمر غالباً ما لا يلتف له عند بسط نظرية أفلاطون في الفن، فهو ليس ضد الفن، بقدر ما هو ضد مثالية الفن في عالمه الطوباوي، بينما هو لدى هيجل منسجم مع فلسفته المثالية التي تمزج جدلياً المجرد بالمجسد.
[1] أفلاطون، محاور هيبياس الأكبر – ص: 11
[2] جعفر الشكري، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال، ص: 16
[3] موسوعة الفلسفة، الدكتور عبدالرحمن بدوي – ص 587
[4] أميل برهييه، تاريخ الفلسفة – مجلد القرن 19 ص 199
[5] هيجل، المدخل إلى علم الجمال وفكرة الجمال – ص: 164
[6] المرجع السابق – ص: 53
[7] الدكتور جعفر الشكرجي، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال – ص: 89
[8] الدكتور أ نوكس، النظريات الجمالية – ص: 107