سألني الصديق ياسر الذويب المقيم في كندا، بعد نشر مقالتي "هل نؤسس قسم "دراسات التخلف" في الجامعات العربية" صباح اليوم، قائلا: "هل يمكن تفسير ذلك دكتور بسطوة النموذج الفرنسي الذي استنسخ في المغرب و تونس، والذي هو بالأساس معادٍ جدا لحرية الابداع المعرفي و التفكير الحر خارج إطار منظومة الجامعة؟ تجد ان المثال الفرنسي عكس النموذج الانجلوسكسوني يتبرم كثيرا من حرية المؤسسة الجامعية."
فأجبتُ قائلا: "استنساخ النموذج الفرنسي في المغرب وتونس، والأكثر من هذا عدم الانتباه إلى أن جامعات ومعاهد باريس اكتشفت قصر كعبها أمام أمريكا وبريطانيا، وتسعى للخروج من سطوة الصيغة التقليدية و"عبادة" مفهوم التخصص spécialité في المنحى الضيق، من العوامل التي تستديم التخلف.
هناك أيضا بعض "الطقوس" الجامدة في المنهجية الفرنسية/الفرنكوفونية في الكتابة الأكاديمية.أضف إلى ذلك أن إدارة الجامعات الأنجلوساكسونية تتمسك بالحرية، بينما إدارة الجامعات الفرنسية تجاري الخط البيروقراطي.
لا ابتكار ولا إبداع بلا تحرر من القوالب المتجمدة منهجيا أو إداريا أو سياسيا."
عدتُ أنبش في مقالة كتبتها بعدما قضيت عشرة أيام في باريس للمشاركة في أيام دراسية في École Normale Supérieure، وأيضا ندوة في مقر مجلس الشيوخ الفرنسي، ونشرتها بعنوان "باريس: مدينة المزاجيْن والهُويّتيْن بما يقترب من سكيزوفرينيا ثقافية!" (عربي 21 في 6 يوليو 2019). وأقتبس منها بعض العبارات المتصلة بموضوعنا الآن:
أزور مدينة الأنوار مرّتين بفارق سبعة أشهر بين ديسمبر ويوليو، وتشدّ انتباهي أكثرُ من مفارقة سياسية وثقافية في مدينة تعتدّ بأنّها Francaise par excellence!
داخل قاعة الندوة حيث اجتمعنا في École Normale Supérieure إحدى المؤسّسات الأكاديمية العريقة التي بلورت فلسفة التنوير منذ تأسيسها عام 1794 عقب الثورة الفرنسية، تأخدك لحظة التأمّل بعيدا إلى حدّ تخيّل إيميل دوركايم وهو يفسّر الفرق بين "التضامن العضوي" و"التضامن الميكانيكي" في سوسيولوجيا المجموعة البشرية، أو جون بول سارتر وهو يستشفّ من دخان سيجارته نشوة التّرافع عن أحقّية الفكر الوجودي بين تيارات الفلسفة المعاصرة. وقد يصل إلى مسمعك صدى ميشيل فوكو وهو يجادل من أجل التمرّد على البنيوية وهدم أعمدة القوة وتمادي السّلطوية المؤسّساتية في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي، أو بيير بورديو وهو يتحدّث عن تفرّعات الرأسمال الاجتماعي إلى رأسمال ثقافي وآخر رمزي. وقد تتخيّل أيضا جاك ديريدا يحاضر حول أهمية التحليل السيميائي ووضع اللبنة الأساسية للنسق التفكيكي.
في هذه القاعة يستمر النقاش لساعات بيننا، بين عشرة باحثين مدعوين من أمريكا وأوروبا والدول العربية، لمناقشة مشروع بحثي جديد "البحث المُراوِغ عن دولة حديثة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". نتبادل تصوّراتنا حول المنهجية الأفضل لتفكيك عوامل التحوّل العربي وتركيب رؤية استشرافية لمآل الانتفاضات العربية وتنافس التيارات الليبرالية والإسلاموية والسلطوية العسكرية. الجميع يتحدّث باللغة الانجليزية، ولا أحد يدافع عن أولوية الفرنسية حتى من قبل اثنين من المشاركين الباريسيين. وعلى رفّ المنشورات الجديدة خارج القاعة، نسخ انجليزية وفرنسية لدراسات جديدة تم إنجازها حول قضايا فرنسية ودولية. إحدى الورقات المعروضة بعنوان La France Malheureuse بقلم Mathieu Perona المدير التنفيذي لبرنامج l’Observatoire de Bien Être في المركز الفرنسي لأبحاث الاقتصاد وتطبيقاته.
في الفندق، تبادرك موظفة الاستقبال بالتحية، وعلى شفتيها مسافة قصيرة جدّا بين “Oui, Monsieur” و “Yes, Sir”. وحيثما جلست في مقهى أو مطعم مثل Coco في منطقة الأوبرا أو Le Bistrot des Campagnes في مونبراناس، يتوسّم النادل أو النادلة في محيّاك أنّك أجنبي، فيخاطبونك بالإنجليزية إلى أن تثبت أنّك تتقن الفرنسية.
خلال الجولة العابرة بين دور بيع الكتب فيBoulevard Saint-Michel، يستوقفك ازدياد عدد الكتب الصادرة بالإنجليزية إلى جانب التي تم نشرها بالفرنسية. هي مدينة لم تعد تتمسّك بلغتها وهويّتها الفرنسية الخالصة بقدر ما تريد أن تكون مدينة عالمية بروح أنجلوساكسونية. هنا يتكشف تراجع المدّ الفرنكفوني في الداخل قبل الخارج، ولم يعد الكتاب والمثقفون الفرنسيون يؤمنون أن النشر بالفرنسية وحدها هو الجسر الى العالمية. خلال الندوة، أبلغني Gilles Keppel أنه أنهى الترتيبات مع دار نشر جامعة برنستون الأمريكية لنشر الترجمة الانجليزية لكتابه الجديد Sortir du chaos: Les crises en Méditerranée et au Moyen Orient خلال أقلّ من عام. قبل خمس سنوات، لم ينتبه الباحثون والقراء في العالم لكتاب توماس بيكيتي "الرأسمال في القرن الحادي والعشرين" إلاّ بعد أن أصدرت دار نشر جامعة هارفارد النسخة الإنجليزية يوم 18 مارس 2014.
في عمق القارة الأوروبية، تراجعت الفرنسية لغة وثقافة أمام الإنجليزية والألمانية. وتُظهر بعض الاحصائيات الجديدة أن نسبة 41 في المائة من الاوروبيين يتحدثون الانجليزية مقابل 19 في المائة للفرنسية. غير أن المنظمة الدولية للفرنكفونية توصّلت في دراسة جديدة إلى أنّ الناطقين بالفرنسية وصل إلى 274 مليون شخص في العالم عام 2014 بزيادة نسبة 25 في المائة عما كان عليه الحال عام 2010.
خلال احتفالات اليوم الدولي للغة الفرنسية قبل عامين، نشرت مجلة The Localمقالا بعنوان صريح "ماهي الحالة الصحية للغة الفرنسية عام 2017؟". فقالت إن تلك الزيادة "خبر سارّ"، بيد أنّ مسيرة الفرنسية والفرنكفونية في انحدار ملحوظ داخل القارة الأوروبية، وأن نسبة الناطقين بها تبلغ 36 في المائة، فيما تظّل الأغلبية للإنجليزية بنسبة 54 في المائة. يقول ألكسندر وولف Alexandre Wolff من مرصد اللغة الفرنسية "ليس لدينا إحصائيات عن جميع الدول، لكنها ظاهرة تؤثر على وضع جميع اللغات الأجنبية في أوروبا باستثناء الإنجليزية."
لا يقف التأثير الإنجليزي عند هذا الحدّ، بل شعر كثير من الفرنسيين بالدهشة والانزعاج عندما تبيّن أن شعار الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها باريس عام 2024 سيكون باللغة الإنجليزية. ومما يخفّف ضجر القوميين اللغويين في فرنسا ما ترمي إليه بعض الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية عن احتمال أن يصل عدد الناطقين بالفرنسية في دول الصحراء الأفريقية إلى 750 مليون نسمة عام 2050. ويقول ألكسندر وولف "نحن أكثر تفاؤلا بذلك، ويكمن التحدّي الآن في إيجاد نظام تعليمي فعّال في الدول الفرنكفونية قادر على استيعاب مزيد من الأطفال في المدارس. وثمّة تحدّ ثان هو ضمان أن تبقى الفرنسية لغة التدريس في تلك الدول."
غير أن أرجحية كفة الإنجليزية على كفة الفرنسية في السنوات العشرين الماضية لم يكن بفعل الصدفة أو لتفضيل جمالي بين اللغتين أوالثقافتين، بقدر ما يرتبط أيضا ببعض مقوّمات الاقتصاد السياسي. مثال ذلك أن ميزانية منظمة الفرنكفونية عام 2008 وصلت إلى ستة ملايين يورو، بينما ازدادات ميزانية المجلس البريطاني إلى 150 مليون يورو لتمويل جهود نشر الإنجليزية.
ربّما قد حان الوقت لأن يعيد المغاربيون النّظر في بداية حقبة أخرى يتحتّم أن نحسم فيها جوابا ذاتيا على سؤال المرحلة: هل نحن جزء من حقبة ما بعد الفرنكفونية أم أنّ ولاءنا التاريخي لباريس موليير يحتّم علينا البقاء داخل دائرة ضيقة قد نصل فيها إلى حدّ الاختناق الثقافي بين أنجلوفونيات العالم؟
أين السّبيل إلى تقويم عروبة لغوية وثقافية مقتنعة بالذات ومنفتحة على العصر؟!
www.facebook.com
فأجبتُ قائلا: "استنساخ النموذج الفرنسي في المغرب وتونس، والأكثر من هذا عدم الانتباه إلى أن جامعات ومعاهد باريس اكتشفت قصر كعبها أمام أمريكا وبريطانيا، وتسعى للخروج من سطوة الصيغة التقليدية و"عبادة" مفهوم التخصص spécialité في المنحى الضيق، من العوامل التي تستديم التخلف.
هناك أيضا بعض "الطقوس" الجامدة في المنهجية الفرنسية/الفرنكوفونية في الكتابة الأكاديمية.أضف إلى ذلك أن إدارة الجامعات الأنجلوساكسونية تتمسك بالحرية، بينما إدارة الجامعات الفرنسية تجاري الخط البيروقراطي.
لا ابتكار ولا إبداع بلا تحرر من القوالب المتجمدة منهجيا أو إداريا أو سياسيا."
عدتُ أنبش في مقالة كتبتها بعدما قضيت عشرة أيام في باريس للمشاركة في أيام دراسية في École Normale Supérieure، وأيضا ندوة في مقر مجلس الشيوخ الفرنسي، ونشرتها بعنوان "باريس: مدينة المزاجيْن والهُويّتيْن بما يقترب من سكيزوفرينيا ثقافية!" (عربي 21 في 6 يوليو 2019). وأقتبس منها بعض العبارات المتصلة بموضوعنا الآن:
أزور مدينة الأنوار مرّتين بفارق سبعة أشهر بين ديسمبر ويوليو، وتشدّ انتباهي أكثرُ من مفارقة سياسية وثقافية في مدينة تعتدّ بأنّها Francaise par excellence!
في هذه القاعة يستمر النقاش لساعات بيننا، بين عشرة باحثين مدعوين من أمريكا وأوروبا والدول العربية، لمناقشة مشروع بحثي جديد "البحث المُراوِغ عن دولة حديثة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". نتبادل تصوّراتنا حول المنهجية الأفضل لتفكيك عوامل التحوّل العربي وتركيب رؤية استشرافية لمآل الانتفاضات العربية وتنافس التيارات الليبرالية والإسلاموية والسلطوية العسكرية. الجميع يتحدّث باللغة الانجليزية، ولا أحد يدافع عن أولوية الفرنسية حتى من قبل اثنين من المشاركين الباريسيين. وعلى رفّ المنشورات الجديدة خارج القاعة، نسخ انجليزية وفرنسية لدراسات جديدة تم إنجازها حول قضايا فرنسية ودولية. إحدى الورقات المعروضة بعنوان La France Malheureuse بقلم Mathieu Perona المدير التنفيذي لبرنامج l’Observatoire de Bien Être في المركز الفرنسي لأبحاث الاقتصاد وتطبيقاته.
في عمق القارة الأوروبية، تراجعت الفرنسية لغة وثقافة أمام الإنجليزية والألمانية. وتُظهر بعض الاحصائيات الجديدة أن نسبة 41 في المائة من الاوروبيين يتحدثون الانجليزية مقابل 19 في المائة للفرنسية. غير أن المنظمة الدولية للفرنكفونية توصّلت في دراسة جديدة إلى أنّ الناطقين بالفرنسية وصل إلى 274 مليون شخص في العالم عام 2014 بزيادة نسبة 25 في المائة عما كان عليه الحال عام 2010.
خلال احتفالات اليوم الدولي للغة الفرنسية قبل عامين، نشرت مجلة The Localمقالا بعنوان صريح "ماهي الحالة الصحية للغة الفرنسية عام 2017؟". فقالت إن تلك الزيادة "خبر سارّ"، بيد أنّ مسيرة الفرنسية والفرنكفونية في انحدار ملحوظ داخل القارة الأوروبية، وأن نسبة الناطقين بها تبلغ 36 في المائة، فيما تظّل الأغلبية للإنجليزية بنسبة 54 في المائة. يقول ألكسندر وولف Alexandre Wolff من مرصد اللغة الفرنسية "ليس لدينا إحصائيات عن جميع الدول، لكنها ظاهرة تؤثر على وضع جميع اللغات الأجنبية في أوروبا باستثناء الإنجليزية."
لا يقف التأثير الإنجليزي عند هذا الحدّ، بل شعر كثير من الفرنسيين بالدهشة والانزعاج عندما تبيّن أن شعار الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها باريس عام 2024 سيكون باللغة الإنجليزية. ومما يخفّف ضجر القوميين اللغويين في فرنسا ما ترمي إليه بعض الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية عن احتمال أن يصل عدد الناطقين بالفرنسية في دول الصحراء الأفريقية إلى 750 مليون نسمة عام 2050. ويقول ألكسندر وولف "نحن أكثر تفاؤلا بذلك، ويكمن التحدّي الآن في إيجاد نظام تعليمي فعّال في الدول الفرنكفونية قادر على استيعاب مزيد من الأطفال في المدارس. وثمّة تحدّ ثان هو ضمان أن تبقى الفرنسية لغة التدريس في تلك الدول."
غير أن أرجحية كفة الإنجليزية على كفة الفرنسية في السنوات العشرين الماضية لم يكن بفعل الصدفة أو لتفضيل جمالي بين اللغتين أوالثقافتين، بقدر ما يرتبط أيضا ببعض مقوّمات الاقتصاد السياسي. مثال ذلك أن ميزانية منظمة الفرنكفونية عام 2008 وصلت إلى ستة ملايين يورو، بينما ازدادات ميزانية المجلس البريطاني إلى 150 مليون يورو لتمويل جهود نشر الإنجليزية.
ربّما قد حان الوقت لأن يعيد المغاربيون النّظر في بداية حقبة أخرى يتحتّم أن نحسم فيها جوابا ذاتيا على سؤال المرحلة: هل نحن جزء من حقبة ما بعد الفرنكفونية أم أنّ ولاءنا التاريخي لباريس موليير يحتّم علينا البقاء داخل دائرة ضيقة قد نصل فيها إلى حدّ الاختناق الثقافي بين أنجلوفونيات العالم؟
أين السّبيل إلى تقويم عروبة لغوية وثقافية مقتنعة بالذات ومنفتحة على العصر؟!
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.