سيلين هو اسم مستعار اتخذه الروائي الفرنسي لويس فرديناند ديستوش (1894 –1961) على اسم جدته. وهو من أشهر الروائيين في العالم وفي فرنسا خاصة، ويأتي في المرتبة الثانية بعد مارسيل بروست، صاحب رواية" البحث عن الزمن الضائع". وقد صنعت شهرته الأدبية مجموعة الروايات التي ابتدعها، وكانت مثار بحث في الدوائر الأكاديمية والجامعات، والتي ظهر فيها تميزه وتأثيره في كثير من الروائيين والكتاب. فسارتر تأثر في روايته "الغثيان " برواية سيلين" رحلة في أقاصي الليل"، ويصرح كنزابورو أوي الروائي الياباني المعروف بتأثره به، في حين ماريو بارغاس يوسا أشهر روائيي أمريكا اللاتينية يعلن أنه أحد أهم معلمي الرواية في القرن العشرين. أما الكاتب الأمريكي الكبير اليهودي فيليب روث رغم أنه لا يطيقه لمعاداته السامية فيعده نسخته الخاصة من بروست، وأنه يقرؤه بعيدًا عن ضميره اليهودي. كما أشار ليون تروتسكي الثوري الروسي المعروف إلى عبقريته في مقال له عن الرواية ذاتها بقوله: " يمضي فرديناند سيلين في طريقه إلى الأدب، أما الآخرون فيمضون إلى منازلهم"، في إشارة إلى ما أحدثته الرواية من ثورة في الأدب الفرنسي على مستوى الأسلوب. وكانت سببًا في شهرة صاحبها الواسعة.
حتى عام 1937 استمرت شهرة سيلين في التألق، وأعجب النقاد والقراء بكتاباته مع صدور روايتيه الكلاسيكيتين: "رحلة إلى أقاصي الليل" 1932، و"موت بالتقسيط" 1936، وأشادوا بأسلوبه الشاعري، والروح السريالية الثورية التي تسري في أدبه. لكن تغير الموقف بعد ذلك؛ ففي العامين:1937، و1938 نشر روايتين أخريين، هما: "لا شيء من أجل مجزرة"، و"مدرسة الجثث" هجا فيهما اليهود هجاء مرًا، بأنهم المسؤولون عن الشر في العالم، واتهمهم بالتطرف والنشاط المشبوه في فرنسا، ودعا إلى تحالف عسكري بين فرنسا وألمانيا النازية، لإنقاذ فرنسا منهم، ومن كوارث الحروب.
إثر معاداة سيلين لليهود غدا منبوذًا، وتخلى عنه الأصدقاء، منهم سارتر الذي كان معجبًا به كثيرًا. وبعد الإنزال الأمريكي في النورماندي وبداية نهاية الاحتلال النازي عام 1944 استطاع الهرب إلى ألمانيا، ثم إلى الدانمارك التي وصل إليها عام 1945. في هذه الأثناء سُحبت كتبه من البيع في فرنسا، وسرقت مخطوطاته الكثيرة من شقته في حي مونمارتر في باريس.
في الدانمارك اعتقل بناء على طلب الحكومة الفرنسية الجديدة وأودع السجن، ثم أطلق سراحه بعد سنتين، وبقي في الدانمارك دون أن تُسلّمه إلى فرنسا. وفي عام 1951م حاكمته السلطات الفرنسية بسبب نشاطه المعادي لوطنه، لكن محكمة عسكرية عفت عنه لكونه محاربًا قديمًا ومعاقًا لجروحه البليغة عندما كان متطوعًا في الحرب العالمية الأولى. فعاد إلى فرنسا في العام نفسه. ليعيش مع زوجته في عزلة مملة، ولينتج عن المنفى ورحلته إلى ألمانيا، ثلاث روايات:" من قلعة إلى أخرى" 1957م، و"شمال" 1960م، و"ريغودون" التي أتم مسودتها الثانية قبل وفاته بيوم واحد، ونشرت بعد ثماني سنوات من وفاته. لم تحظ هذه الروايات باهتمام كبير لا عند النقاد ولا الإعلاميين، لكنها أعادت الجدل حول نشاط سيلين أثناء الحرب العالمية الثانية.
استمرت شخصية هذا الروائي تترجح بين الإهمال والاهتمام في وطنه فرنسا؛ ففي عام 2011، في الذكرى الخمسين لوفاته أعلن وزير الثقافة والاتصال الفرنسي حذف سيلين بسبب كتاباته المعادية للسامية من القائمة التي احتوت خمسمئة شخص ليحتفى بهم ضمن الاحتفاء بالثقافة الفرنسية الوطنية.
ثم عاد الاهتمام بسيلين، وسرت الأنباء عام 2017 عن عزم مؤسسة غاليمارد إعادة نشر كتب سيلين المعادية للسامية، وبدت القوى الصهيونية والحكومة الفرنسية قلقة إزاء تلك الأنباء، وزاد القلق عام 2020م عندما أُعلن أن مخطوطات سيلين التي سُرقت من شقته في حيّ مونمارتر عام 1945 في عهدة الصحفي الثقافي الفرنسي جان بيار تيبودا. وتحتوي حوالى ستة آلاف ورقةٍ بخط يد الكاتب، منها عدة روايات لم تنشر من قبل. وكانت المفاجأة في هذا العام 2022 حين أعلنت مؤسسة غاليمار في باريس عن إصدارها رواية "حرب" في مئتين وخمسين ورقة من تلك المخطوطات.
لا شك أن صدور رواية" حرب" بعد أكثر من ستين عامًا من وفاة مؤلفها عن دار نشر معروفة حدث ثقافي مهم على المستوى الفرنسي والعالمي؛ فهي رواية تجمع بين السيرة الذاتية والخيال، وتدين الحرب التي تجرع مرارتها مؤلفها حين جرح في الحرب العالمية الأولى. وربما تكون مقدمة لإصدار رواياته وأعماله الأخرى من رسائل ووثائق، كما وعدت دار غاليمار بأن تُصدر في الخريف القادم لسيلين روايتين غير منشورتين: الأولى بعنوان" لندن" التي تحكي عن مجيء سيلين عام 1915 إلى العاصمة البريطانية، والثانية قصة من القرون الوسطى عنوانها "وصية الملك كروغولد". كما أن الرواية تمثل الميزات الفنية التي تتصف بها روايات سيلين الأخرى، وبخاصة رواية "رحلة في أقاصي الليل"، ومن هذه الميزات استخدام الجمل القصيرة، والألفاظ العامية، ونحت بعض الألفاظ، والأسلوب السوداوي الساخر والمتمرد، مع دقة في الوصف والحرص عل تدفق العاطفة. وهي ميزات جديدةٍ في الأدب الفرنسي حيث مهدت لمرحلة الحداثة، وأظهرت سيلين بأنه ذو موهبة أدبية عظيمة، وأهمية عالمية في عالم الرواية، وأنه من أهم الروائيين في القرن العشرين.
مع صدور رواية "حرب" تعود أسطورة سيلين إلى الظهور، وتبرز أهمية كتاباته ورواياته.
في النهاية نخلص إلى القول: إن سيلين عانى في حياته من جحود مجتمعه الشيء الكثير، وترجحت حياته بين الإهمال والاهتمام، الإهمال بسبب معاداته السامية، والاهتمام بسبب تميز رواياته ومساهمتها في تطوير الفن الروائي. أما بعد وفاته فقد خبا الجدل حول مواقفه السياسية، وعاد إليه الاعتبار حين بدت حتى مخطوطات رواياته التي اكتشفت مؤخرًا تحظى باهتمام النقاد والقراء والناشرين، لتغدو مثالًا ساطعًا على انتصار الأدب خاصة الرواية على محاولات السياسة التحكم به، وأن أي صراع بينه وبين السياسة سينتهي في صالح الأدب؛ لأنه أكثر صدقًا، وأقدر على حمل هموم الإنسان والتعبير عنها من غيره من الأجناس الفنية.
د. محمد عبدالله القواسمة
حتى عام 1937 استمرت شهرة سيلين في التألق، وأعجب النقاد والقراء بكتاباته مع صدور روايتيه الكلاسيكيتين: "رحلة إلى أقاصي الليل" 1932، و"موت بالتقسيط" 1936، وأشادوا بأسلوبه الشاعري، والروح السريالية الثورية التي تسري في أدبه. لكن تغير الموقف بعد ذلك؛ ففي العامين:1937، و1938 نشر روايتين أخريين، هما: "لا شيء من أجل مجزرة"، و"مدرسة الجثث" هجا فيهما اليهود هجاء مرًا، بأنهم المسؤولون عن الشر في العالم، واتهمهم بالتطرف والنشاط المشبوه في فرنسا، ودعا إلى تحالف عسكري بين فرنسا وألمانيا النازية، لإنقاذ فرنسا منهم، ومن كوارث الحروب.
إثر معاداة سيلين لليهود غدا منبوذًا، وتخلى عنه الأصدقاء، منهم سارتر الذي كان معجبًا به كثيرًا. وبعد الإنزال الأمريكي في النورماندي وبداية نهاية الاحتلال النازي عام 1944 استطاع الهرب إلى ألمانيا، ثم إلى الدانمارك التي وصل إليها عام 1945. في هذه الأثناء سُحبت كتبه من البيع في فرنسا، وسرقت مخطوطاته الكثيرة من شقته في حي مونمارتر في باريس.
في الدانمارك اعتقل بناء على طلب الحكومة الفرنسية الجديدة وأودع السجن، ثم أطلق سراحه بعد سنتين، وبقي في الدانمارك دون أن تُسلّمه إلى فرنسا. وفي عام 1951م حاكمته السلطات الفرنسية بسبب نشاطه المعادي لوطنه، لكن محكمة عسكرية عفت عنه لكونه محاربًا قديمًا ومعاقًا لجروحه البليغة عندما كان متطوعًا في الحرب العالمية الأولى. فعاد إلى فرنسا في العام نفسه. ليعيش مع زوجته في عزلة مملة، ولينتج عن المنفى ورحلته إلى ألمانيا، ثلاث روايات:" من قلعة إلى أخرى" 1957م، و"شمال" 1960م، و"ريغودون" التي أتم مسودتها الثانية قبل وفاته بيوم واحد، ونشرت بعد ثماني سنوات من وفاته. لم تحظ هذه الروايات باهتمام كبير لا عند النقاد ولا الإعلاميين، لكنها أعادت الجدل حول نشاط سيلين أثناء الحرب العالمية الثانية.
استمرت شخصية هذا الروائي تترجح بين الإهمال والاهتمام في وطنه فرنسا؛ ففي عام 2011، في الذكرى الخمسين لوفاته أعلن وزير الثقافة والاتصال الفرنسي حذف سيلين بسبب كتاباته المعادية للسامية من القائمة التي احتوت خمسمئة شخص ليحتفى بهم ضمن الاحتفاء بالثقافة الفرنسية الوطنية.
ثم عاد الاهتمام بسيلين، وسرت الأنباء عام 2017 عن عزم مؤسسة غاليمارد إعادة نشر كتب سيلين المعادية للسامية، وبدت القوى الصهيونية والحكومة الفرنسية قلقة إزاء تلك الأنباء، وزاد القلق عام 2020م عندما أُعلن أن مخطوطات سيلين التي سُرقت من شقته في حيّ مونمارتر عام 1945 في عهدة الصحفي الثقافي الفرنسي جان بيار تيبودا. وتحتوي حوالى ستة آلاف ورقةٍ بخط يد الكاتب، منها عدة روايات لم تنشر من قبل. وكانت المفاجأة في هذا العام 2022 حين أعلنت مؤسسة غاليمار في باريس عن إصدارها رواية "حرب" في مئتين وخمسين ورقة من تلك المخطوطات.
لا شك أن صدور رواية" حرب" بعد أكثر من ستين عامًا من وفاة مؤلفها عن دار نشر معروفة حدث ثقافي مهم على المستوى الفرنسي والعالمي؛ فهي رواية تجمع بين السيرة الذاتية والخيال، وتدين الحرب التي تجرع مرارتها مؤلفها حين جرح في الحرب العالمية الأولى. وربما تكون مقدمة لإصدار رواياته وأعماله الأخرى من رسائل ووثائق، كما وعدت دار غاليمار بأن تُصدر في الخريف القادم لسيلين روايتين غير منشورتين: الأولى بعنوان" لندن" التي تحكي عن مجيء سيلين عام 1915 إلى العاصمة البريطانية، والثانية قصة من القرون الوسطى عنوانها "وصية الملك كروغولد". كما أن الرواية تمثل الميزات الفنية التي تتصف بها روايات سيلين الأخرى، وبخاصة رواية "رحلة في أقاصي الليل"، ومن هذه الميزات استخدام الجمل القصيرة، والألفاظ العامية، ونحت بعض الألفاظ، والأسلوب السوداوي الساخر والمتمرد، مع دقة في الوصف والحرص عل تدفق العاطفة. وهي ميزات جديدةٍ في الأدب الفرنسي حيث مهدت لمرحلة الحداثة، وأظهرت سيلين بأنه ذو موهبة أدبية عظيمة، وأهمية عالمية في عالم الرواية، وأنه من أهم الروائيين في القرن العشرين.
مع صدور رواية "حرب" تعود أسطورة سيلين إلى الظهور، وتبرز أهمية كتاباته ورواياته.
في النهاية نخلص إلى القول: إن سيلين عانى في حياته من جحود مجتمعه الشيء الكثير، وترجحت حياته بين الإهمال والاهتمام، الإهمال بسبب معاداته السامية، والاهتمام بسبب تميز رواياته ومساهمتها في تطوير الفن الروائي. أما بعد وفاته فقد خبا الجدل حول مواقفه السياسية، وعاد إليه الاعتبار حين بدت حتى مخطوطات رواياته التي اكتشفت مؤخرًا تحظى باهتمام النقاد والقراء والناشرين، لتغدو مثالًا ساطعًا على انتصار الأدب خاصة الرواية على محاولات السياسة التحكم به، وأن أي صراع بينه وبين السياسة سينتهي في صالح الأدب؛ لأنه أكثر صدقًا، وأقدر على حمل هموم الإنسان والتعبير عنها من غيره من الأجناس الفنية.
د. محمد عبدالله القواسمة