حاتم سلامة - قراءة في كتاب (دنشواي.. أصل الحكاية والجلاد) للمستشار بهاء المري

المري يتألق بين الأدب والتاريخ
المري جعلنا نقرأ وكأننا نشاهد كل شيء بأجسامنا وأرواحنا وآلامنا
المري قدم عملا تاريخيا فضح فيه الغرب وذكره بجرائمه وتاريخه الدموي الغشوم.
كتاب المري حفي بتدريسه على طلبة المدارس والجامعات

بهاء المري
غادة صلاح الدين
صالون غادة صلاح الدين الثقافى


*******

معالي المستشار بهاء المري من هؤلاء الذين يبهروننا بمواهبهم وقدراتهم كل يوم، ويصر على أن يمنحنا صورا جديدة غير التي نعرفها عنه، فقد عرفناه قاضيا شهيرا نابغا، ثم عرفناه أديبا وكاتبا، واليوم نجده يتألق في ميدان البحث والتاريخ عبر هذا الكتاب القيم الفريد (دنشواي أصل الحكاية والجلاد).

تقييم الكتاب

*اللغة سهلة وجميلة وسلسة وعالية يستوعب معها القارئ الأحداث والمواقف بكل سهولة، وقد تأهل الكتاب بهذا أن يكون مقبولا لدى مختلف الشرائح بلا صعوبة أو وعورة، كما كان الأسلوب والتعبير بعيدا عن الشطح الزائد الذي يمكن أن يخل بالكتاب، وإنما كانت المباشرة عنوانه الجيد والملحوظ، كما لم يكن فيه ذلك الإسهاب الممل أو الإيجاز المخل.
* عنصر التشويق كان حاضرا وبقوة وربما يرجع هذا لقوة القضية لكن التفاصيل الدقيقة التي وضعها الكاتب كانت جعلت من عنصر التشويق هائلا خاصة أنها تفاصيل عن قضية وطنية ومحورية في حياة مصر.
* حجم الكتاب مهم. في زمن تقل فيه القراءة، فقد جاء الكتاب في الحجم المتوسط الجيد الطريق الخفيف.
*عنوان الكتاب فعلا اسم على مسمى فقد قرأنا ودرسنا حادثة دنشواي، ولكننا لم نكن ندر بكل هذه التفاصيل العميقة والدقيقة التي أظهرها لنا الكاتب.
*كثيرا من كتب التاريخ يتوه معها القارئ وتختلط في ذهنه الأحداث لكن المؤلف كان يتنقل بنا من فقرة إلى أخرى في وضوح وتواؤم.
* الكتاب منصف وهو في حالة فريدة من الإنصاف ذلك أن المؤلف قاضي ورجل قانون، وتعرض للقضاة الظلمة في محكمة دنشواي وكان يصف حالهم بقوله: ومما يؤسف له أن كاتب الصيغة أحمد فتحي زغلول بك أخو الزعيم سعد زغلول.
* جعلنا نعيش الواقعة ونتصورها في خيالنا وكأننا حضرنا وعايشنا وشاهدنا وتألمنا من كثرة التفاصيل الدقيقة التي ذكرها من أحوال الحادثة، كنا نقرأ وكأننا نشاهد كل شيء ونعاين كل شيء، بل صرنا وكأننا من هذا الزمن موجودون فيه بأجسامنا وأرواحنا وألمنا..
* المراجع: لا شك أن الكاتب تعب كثيرا في تحقيق طموح هذا الكتاب ووجوده عبر أكثر من 35 مرجعا في القضية وهو الزخم الذي أعطى الكتاب قوة وهيبة وتميزا في عالم التاريخ.

غاية الكتاب

* يعد هذا الكتاب تجديد لتاريخ مصر الوطني في حقائق جديدة وغير معروفة فهو كتاب ينمي روح الوطنية في نفس من قرأه حينما يتعايش معه في محنة هذا الوطن وكفاحه المرير الطويل مع المستعمر البغيض.
* يعد الكتاب في هذا الوقت الحاضر، ضربة قوية أو تعرية فاضحة، للغرب الذي يدعي اليوم أن حضارتنا حضارة الإرهاب والفتوح الإسلامي فتوحات القتل والدماء، فيذكره المري وكتابه بعاره القديم توحشه ضد الإنسانية.
*قدم صورة جديدة للخونة الذين يبيعون أوطانهم، جدد ذكرهم حتى يلعنهم الناس الهلباوي واحمد فتحي زغلول وبطرش غالي باشا.

بصمات الكاتب

للكاتب بصمات رائعة وحضور في بعض المشاهد خاصة في رده على الهلباوي بك، فلم يكن مجرد في ناقل في كثير من فقرات الكتاب، وإنما كانت له تحليلاته وردوده وإسقاطاته المهم التي تشعر القارئ بيقظة هذا المؤرخ.
راجع رده على حجة الهلباوي حينما تحجج وادعى فيما بعد، أنه كان مجبرًا على الادعاء واتهام ضحايا دنشواي، فرد عليه المؤلف : كيف لمجبر أن يعمل عملا بكل هذه البلاغة والفصاحة والتفنن ومن طبيعة المجبر أن لا يكون كذلك، لكن صاحبنا كان متهيجا ومتحمسا ضد بني وطنه.
*بل تصدى المؤلف لدعوى الهلباوي في مذكراته حينما ذكر أن الجميع أخذ مكافأته من الإنجليز إلا هو، لكن المؤلف كشف الحقيقة حينما عين مستشارا قضائيا بمحكمة الاستئناف بأمر الإنجليز.
كنت أتمنى أن يرد عليه المؤلف عليه في دعواه كذلك بأنه نجى 15 واحد من المتهمين من حبل المشنقة، بما نقل في مرافعته بأنه حينما شعر أن عبد المطلب سينجو من الحكم، فوقف وقال: ألاحظ شبها كبيرا بين فتح الله الشاذلي وعبد المطلب في الملامح، وتنبه الضابط إلى ما يرمي إليه الهلباوي وأكده على ذلك. لكي تتلبس التهمة على عبد المطلب ، فلو كان فعلا يريد نجاة الناس لما كان بهذا التسلط.

من جديد الكتاب

كنت مندهشا من هذه الصور والمعلومات الجديدة التي لم تترك شيئا، وحكت تفاصيل خافية وقدمت صورة لبعض ملامح المجتمع المصري في هذا الوقت.
* استغلال الشعب للفرصة في غلاء المواصلات وحتى الحمير وهذه لا مبالاة كبيرة تعبر عن أن هناك قطاع استغلالي لا يكتوي بآلام الناس ولا يتفاعل كمدا مع مآسي الوطن، أجرة الحمير والفنادق والمأكولات والتذاكر.
* صراع العائلات والتي دفعت العمدة حقدا وحسدا على حسن محفوظ أن يجره للإعدام ، فقد كانت هناك خلافات بين العائلتين، فاستغل العمدة الفرصة ليتجرد من كل معاني الشرف والمروءة..
* الكتاب يشرح كيف تعلم المصريون الوطنية من حادث دنشواي حين صار الطلاب بعد الحادث يقرؤون الجرائد ويقبلون على الصحف، فدنشواي مدرسة الوطنية، دنشواي كانت نقطة تحول كبيرة في حياة مصر.
* كشف الكاتب والكتاب عن قدم تهمة التعصب الإسلامي، التي لا توجه إلى المجتمعات المسلمة في هذا الزمان فقط، وإنما كانت تهمة قديمة منذ عهد دنشواي وذلك حينما رددها الانجليز الذين ردوا على مصطفى كامل في الغرب، فجاءت وروعته في دحر هذه الفرية حينما قال: تعالوا شوفوا المسيحيين عايشين ازاي في مصر حتى تحكموا بأنفسكم حتى القضاة أكثرهم مسيحيين.؟
الكتاب جلعنا نشعر أن معركة الوطن لم تكن بين المصريين والإنجليز بقدر ما كانت بين شخص وشخص وهما الهلباوي ومصطفى كامل. خائن جدا ووطني جدا، ظالم جدا وعادل جدا.
* أظهر الكتاب كيف كانت المحاماة قديما من المهن المعيوبة في المجتمع المصري والارتجاع عن هذه المهنة بفضل الهلباوي.

المؤرخ الأديب

استطاع أن يتخلى المؤلف عن أسلوب الأديب، ويلتزم أسلوب الباحث وهذه براعة وقد يجد صعوبتها كثير من الكتاب الذين عهدوا نمطا واحدا من الكتابة ، لكن المؤلف متجدد متعدد مستفيض التنوع والتألق.
انظر لهذه اللمسات الأدبية التي يقول فيها:
"كانت السياط تََصب نارًا حامية على جلود المصريين، أولئك المستضعفين من بني الإنسان"
"وبعد أن هوى زهران، هوت معه قلوب النساء ولطمن الخدود، وتٌرك زهران معلقا على في الهواء تذروه الرياح يمينا وشمالا."
التعبير القرآني واضح جدا
ننظر كذلك في ص 33 في وصفه لهدوء القرية قبل مجيء الإنجليز إلى دنشواي، حيث صاغها في نص أدبي بارع جعلك تتصور وضع القرية، وكأنك حاضر فيها أو تشاهدها عبر صورة فتوغرافية مصورة.
ولعله في هذا كله يذكرني بابن الأثير في الكامل وهو يصف وحشية الصليبيين وسفكهم للدماء في احتلال بيت المقدس.. في قوله: "لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه [رجلا] وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا"

بطولات مجهولة

1- جولييت آدم وهي المرأة التي ساعدت مصطفى كامل وفتحت له صالونها الأدبية وأعجبت بحماسه لقضية بلاده، وترجمت له بعض المقالات وعرفته بالصحف والمجلات والأدباء والكتاب والسياسيين.
2- أحمد حلمي وهو الصحفي الذي نقل الحادثة ولم يكن مجرد مراسل صحفي يكتب بعض لتقارير الواردة أمامه، وإنما كان له قصة أخرى حينما كان أديبا يكتب بدمه وإحساسه قبل قلبه، فألهبت كتاباته الأدبية مشاعر مصر، وقيل إنه حتى من شكل عاطفة مصطفى كامل وأثار حماسته وأهاج مشاعره في قضية دنشواي
3- جاويش وهو الأديب والكاتب الوطني الكبير الذي لم يكن يخاف ولا يعبأ بالمخاطر التي تعود عليه من المحتل الغاصب والقانون الظالم المترصد له بالعقاب، ففي صبيحة الحكم نشر مقالا كالصاعقة أنت له كل مصر ونزل كالطامة الكبرى على رؤوس الاحتلال والقضاة الظالمين.

كتاب للألم

المستشار بهاء يظن أنه يكتب هذا الكتاب للحقيقة والتاريخ، ولكنني تبينت أنه أيضا كتبه للألم النفسي والإنساني وذلك في أقوال المهمين الذين حينما قرأت لهم، خيل إلي أنني أستمع إلى لوعاتهم وأساهم :-
* دفاع محمد عبد النبي عن نفسه وهو يصرخ ويقول: وكتاب الله يا سعادة الباشا أنا مسكت البندقية من الضابط علشان أسلمه للحكومة تاخدلي حقي منه وكتاب الله يا سعادة الباشا هوه ده اللي حصل" منتهى الشعور بالأسى من مظلوم يصرخ وبرئ يستغيث ولكن لا مجيب.
* وكذلك قول حسن محفوظ: وأنا أمري لله وهو حسبي ونعم الوكيل. وهو رجل في السبعين من عمره شاخ سنه ولم يرحموه لكبره وعجزه.
* أما الذي كان أكثر ألما وهو حينما جاء الشاب ابن علي محفوظ يريد أن يرى أباه للمرة الأخيرة في حياته قبل رحيله وإعدامه، وطلب من مستشار الداخلية الإذن في مقابلته، فكان جزاءه صفعة على قفاه لمجرد هذا الطلب، فما أبشع هذه الغلظة والظلم والجفاء.
* حتى كلمات المجلودين، نقلها المؤلف وهي مما نقرأ عنه لأول مرة، وهو وصف دقيق يحاول أن يجعلك تعيش في الصورة وتتخيل المشهد، حتى أن الصحفي أحمد حلمي فر ولم يستطع أن يشاهد المحنة وطلب من القراء أن يعذروه لهول المشهد.
ذكر المؤلف أن العقاد ويحيى حقي.. يبكيان حينما قرؤوا عن دنشواي.. حتى أن أحد أصدقاء العقاد قد أغمي عليه.

هل نسي الشعب ألمه؟

للأسف نسي الشعب ألمه وأحزننا هذا النسيان، ويبدو أننا كالأطفال نتمتع بذاكرة السمك وننسى حتى جلادينا
* يقول الكاتب الأديب يحيى حقي ما يستحق التعليق عليه : " ونسي الشعب كل من شارك من القضاة في حادثة دنشواي، ولكنه لم ينس قط جريرة الهلباوي.." وأنا أقول : لا يا سيادة الأديب لقد نسي الشعب كذلك جريرة الهلباوي وذلك فيما يلي:
* حيث انتخب الهلباوي نقيبا للمحامين سنة 1913 بالإجماع
* ثم يطول العار حزب الوفد حينما جعله عضو لجنته المركزية سنة 1919
* ثم يطول العار محافظة البحيرة حينما تقدم الهلباوي نائبا عن إحدى دوائرها عام 1923
رجل ظلم وطنه وتسبب في قتل الأبرياء ثم يتصدر المناصب والمراكز الوطنية والقانونية فيدل ذلك على اللامبالاة التي تمتع بها الكثيرون.

تلفيق الهلباوي

هذا الرجل كان ساحرا، ويمكن أن تقول بالتعبير العصري- حاوي- وهو مثال للمحامي المتملق اللعوب، الذي يقلب الحقائق فيحيلها باطلا ويقلب الباطل فيحيله حقا وواقعا.. مصحوبا بأسمى ما تكون فيه البلاغة الفصاحة رقيا وإبهارا.
* تلفيق الهلباوي في مرافعته حينما فسر حضور الجماهير والعيان والعمد بأنهم خجلون من الحادثة وجاؤوا ليثبتوا لحضراتكم أنهم أبرياء من هذه التهمة التي ارتكبها الرعاع..
ولعله يذكرني بهيكل حال النكسة حينما قال: إن الغرض هو كسر جمال ولكن جمال لن ينكسر وبالتالي فلم ننهزم.
* اتهم البوليس بأن فيه خونة حرضوا على ظلم الإنجليز
* وقف 3 ساعات يدافع عن عدو وطنه وهو المعروف بأنه يمكن أن يخرج المتهم في أقل وقت.
* أثبت كذلك أن جنود الاحتلال كانوا ضحايا ولم يكونوا جناه.
وقال: إن الاحتلال حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية
* نعت الأهالي بالسفلة وأدنياء النفوس والتاريخ ينعته الآن بالسافل الأكبر والخائن الأكبر لوطنه وشعبه.!

شخصيتان محيرتان

1- الهلباوي محير جدا حينما أخبرنا المؤلف أنه ربيب وتلميذ مدرسة الامام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني تلك المدرسة التي علمت المصريين معاني الوطنية والكفاح، فكيف يحدث هذا التحول لمثل هذا الرجل ليصير من مدرسة الوطنية إلى عالم الخيانة
2- أحمد لطفي السيد، وهو المفكر الكبير والذي توقعنا صولاته وجولاته في المرافعة عن المظلومين، لكنه للأسف ترافع في وقت قصير لم يكن له أي أثر يذكر، ولعله أحس بخطيئته في ذلك وتقصيره، وراح يترافع عن الشيخ جاويش الذي تعرض للحكم القضائي بسبب مقاله الذي هاجم فيه المستعمر والقضاء.

نقاط في الكتاب

(المنوفية أرض البطولات) كنت أود من المؤلف أن يذكر تمهيدا يدلل فيه ومن خلاله عن بطولة شعب المنوفية وواقعة الخمسمائة شهيد التي ذكرها الجبرتي في تاريخه وتصدي أهلي بلدتي تتا وغمرين للفرق الفرنساوية وحدثت مجزرة رهيبة مات فيها 500 شهيد من الرجال والنساء، حتى أن الجبرتي وصف المجزرة بقوله: رُويت الأرض بدمائهم.
* ترى المؤلف في كتابه أنه امتهن حرفة المؤرخ، فتراه يعرض الأحداث دون تحامل على أحد.. اللهم إلا أوصاف في فقرات قليلة عن الاحتلال، أما بقية المصريين الخونة، فلم يجعلهم في مرمى عاطفته وسخطه، لأنه التزم المنهجية في العرض والتحليل.
الأدب في المحنة

****

*لم يذكر المؤلف فصلا عن دور الأدب في المحنة إلا في جانب الشعر فقط والذي أظهر له فصله الخاص، وأقصد في ذلك جهد الأدباء الكتاب لا الشعراء، فقد ذكر فصلا عن الشعراء.
لكني أريد القول: إن الأدب شارك في المحنة بقوة، وذكره المؤلف ولكن ليس تحت باب خاص، وفصل مستقل، وذلك ما أورده من مقالات احمد حلمي وعبد العزيز جاويش التي كانت تعلن عن أسلوب أدبي رهيب وفريد في عالم السرد، ولعلي هنا أقول: إنه كانت هناك صورتان للأدب شارك عبرهما في هذه المحنة بنوعية السلبي والإيجابي... كان حاضرا للنصرة، وكان حاضرًا في ذات الوقت للخذلان.
*السلبي والذي تمثل في بلاغة الهلباوي كأديب وبليغ
*الإيجابي بلاغة جاويش ومصطفى كامل وأحمد حلمي التي هزت وجدان المصريين
* نقل المؤلف ما قيل في وصف مقال مصطفى كامل بقوله: " وكان للمقال دوي هائل في أوروبا وفي انجلترا لبلاغتها وعباراتها المؤثرة ورددتها صحف العالم"
كتب جاويش يقول: "سلام على أولئك الذين كانوا في ديارهم آمنين مطمئنين، فنزل بهم جيش الشؤم والعدوان"
شوقي وإسماعيل صبري.
أتخيل أو يتخيل كل قارئ حينما ذكر المؤلف قصيدتي شوقي أمير الشعراء واسماعيل صبري، عن دنشواي، واكتوائهما بنار الألم، أنهما بهذا ينضمان إلى صفوف البطولة والعظاء الذين ناضلوا عن دنشواي، لكن الحقيقة كانت مختلفة.. فأما صبري فقد ذكر دنشواي بعد الحادثة بسنتين كما لفت إلى ذلك الكتاب، ولكن شعره عن دنشواي ولم يكن في قصيدة مستقلة وإنما أدرجها في قصيدته بتهنئة عماس حلمي بعيد الأضحى وكان يخاف بطش الانجليز، فيسقط من عالم البطولة والشجاعة.
أما شوقي فمصيبته أكبر من هذا حينما رثا دنشواي بعد سنة واحدة من الحادث، حينما جافى القصر وعاد لأحضان الشعب وقال القصيدة المشهورة في دنشواي
يا دنشواي عليك سلامُ ** ذهبت بأنس ربوعكِ الأيامُ
عشرون بيتا أقفرت وانتابها** بعد البشاشة وحشةٌُ وظلام
يا ليت شعري في البروج حمائمٌ ** أم في البروج منيةٌ وحِمام

****

* كما تلكأ كذلك في رثاء مصطفى كامل وهو صديقه والزعيم الوطني لمصر ثم ثاب إلى رشده وقال قصيدة مطلعها
المشرقان عليك ينتحبان ** قاصيهما في مأتم والداني
يا خادم الإسلام أجر مجاهد** في الله من خلد وفي رضوان
لما نعيت إلى الحجاز مشى الأسى** بين الزائرين وروع الحرمان
لقد كان لشوقي حسابات أخرى فوق الوطن ومشاعر الوطن وأحاسيس الوطن.

****

شوقي صاحب مصلحة ويقول الشعر لمصلحته ومكاسبه، وإذا كنا نعيب عله أنه تلكأ في رثاء الزعيم كامل، وتأخر كثيرا عن نصرة دنشواي بشعره، فقد نعذره في كل هذا، لكن الذي لا يمكن أن نقبله أبدا، ذلك الرثاء الذي نظمه في رحيل بطرس غالي باشا جلاد دنشواي الكبر، وحينما تتبعنا سبب الرثاء تبين لنا أنه كان صديقا لشوقي وممن ساعده لدخول القصر والتقرب من الخديوي، فإذا به يقول فيه:
قبرَ الوزيرِ، تحيَّة ً وسَلاما ** الحلمُ والمعروفُ فيكَ أقاما
ومحاسنُ الأخلاقِ فيك تغيَّبتْ ** عاماً، وسوف تُغيّب الأَعواما
قد كنت صومعة ً فصرت كنيسةً ** في ظلِّها صلَّى المُطيفُ وصاما
ثم يقول ما هو أغرب:
اليَومَ يُغني عَنكَ لَوعَةُ بائِسٍ** وَعَزاءُ أَرمَلَةٍ وَحُزنُ يَتامى
وَالرَأيُ لِلتاريخِ فيكَ فَفي غَدٍ ** يَزِنُ الرِجالَ وَيَنطِقُ الأَحكاما
فأي تاريخ هذا يا أمير الشعراء؟ اللهم إلا أن يكون ذلك التاريخ الذي يلعنه ، ويتذكر خيانته لوطتنه.. وإسهامه في ظلم الأبرياء.
بعض المتعصبين لشوقي والمحبين لشعره وأدبه، وكلنا نحبه ونعتز به.. يعز عليهم تقبل هذا المعنى الذي أقوله من وحي الواقع، ومحاولة نعته بالجبن والتخاذل.. لكنها الحقيقة، فشوقي لم يكن معصوما، ولم يكن نبيا، وإن شئت فراجع سقطاته وزلاته التي رصدها العالم والناقد الكبير الدكتور (شوقي ضيف) في كتابه
(شوقي شاعر العصر الحديث.)
كان تأخر شوقي عن رثاء دنشواي خطيئة تاريخية، ولعل المؤلف في كتابه الذي ألفه على النمط التاريخي، ليس مؤخذا على هذه النقطة، لأنه كتاب تاريخ لا كتاب أدب.. لكن كل خوفي أن يظن القارئ أن شوقي بطل من الأبطال.
لقد تخاذل الرجل عن محنة بلاده، تزلفا للقصر وخوفا من الانجليز.
يقول معالي المستشار المري: ولكن تبقى كلماته، نعم تبقى كلماته كأعظم ما تكون تعبيرا وإجلالا عن حادثة دنشواي ، لكنه ليس من فرسانها والمنافحين عنها، وقتما كانت الملحمة على أشدها وتنادي بيانه وشعره أن ينصر المظلومين المكلمومين .. ولكن لا مجيب، وقد أزيد المعترضين قولا وتوقعا جديدا بقولي: يمكن جدا أن يكون شوقي قد كتب هذه الأبيات وقت المحنة متعاطفا مع جراحها، لكنه لم ينشهرها، وإذا كانت كلماته قد بقيت، فكذلك تخاذله قد بقي.

خاتمة

*اسمح لي أيها المؤلف الكريم أن أشكرك على ما علمتني في كتابك مما كنت أجهله.
*واسمح لي أن أشكرك لأنك نميت في قلبي مشاعر حبي لوطني، بهذا العمل الذي قبل أن يكون عملا ثقافيا فهو عمل وطني من الطراز الأول.
*واسمح أيها المؤلف الكريم أن أقول لك: إن هذا الكتاب لا مكافأة له في نظري إلا أنه يدرس في المدارس والجامعات ليتعرفوا على نضال شعبهم وبطولاته.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...