علــى المكــشوف :
من بين الاشكالات المطروحة ( الآن ) في المشهد الثقافي المغربي، كيف يمكن فـرز وتصنيف منتوج تافه ومُكرس للتفاهة ومساهم فيها ؟ وبين منتوج يمتلك مواصفات إبداعية جادة ؟ ومسألة الإخوانيات وتبادل المصالح؛ في الشق التافه هَـي السائدة وعلى المكشوف ؛بحيث يتم تشويه اللغة في إملائيتها وتركيبها وأسلوبها؛ بشكل فظيع؛ بدون مطالعة أو مراجعة لما تتم تدوينه ؛ وبدون تهذيب أو تشذيب،. لبنات أفكاره؛ إن كانت بناته فعلا وليست مسروقة أو مختلسة ؟ وهاته مسؤولية المثقفين / القراء / النقاد / إذ المؤسف ! تخلى النقد الأدبي/ الفني/ الإبداعي/ عن مهامه ؛ ليلتحق البعض لجناح اللامبالاة؛ والبعض من بعض للصمت وترك الحبل على الغارب كما يقال ؛ وبعض البعض انخرط في سوق النخاسة، يمارس المساومة؛ ويمارس الشعبوية ... هَـذا حال ثقافتنا ، مما تضيع ولقد ضاعت العَـديد من الجهود والعطاءات؛ لمبدعِـين يعيشون في الظل؛ وليسوا من ذوي البهرجة والركض وراء المغـْريات وحب الظهور، وهنا فالمسؤولية كذلك يتحملها الإعلام بشقيه الورقي / الإلكتروني ؟ والنموذج عندنا في هذا التوضيح: الأستاذ - محمد محمد برادة - فهو من مؤسسي جمعية رواد الخشبة المكناسية سنة 1974 رفقة عبدالمجيد باقاسم وبلمبارك وعبد المجيد الدويري وعلي القروي وآخرون؛ بحيث كان نشيطا وفاعلا ضمن المجموعة ؛ فمارس التشخيص[ ممثلا ] رفقة رفاقه في الأعمال الأولى للجمعية؛ و اقتبس بعض الأعمال المسرحية من الأدب الإسباني...غادر الجمعية في نهاية 1978 ليلتحق بسلك التدريس (أستاذ اللغة الاسبانية) خارج مكناس. انقطعت بيني وبينه السبل؛ ولكن جمعتنا الصدف في ( فايس بوك) وتجمعنا الظروف جوانية هاته السطور؛ انطلاقا من إصداره:مجموعة قصصية [رجـل والورد و...مضايقات] (1) تتكون من 17 قصة . تقع في 72 صفحة من الحجم الصغير. فهي تتناول مواضيع متعددة وجريئة تستمد مادتها من نبع الواقع بشكل مباشر؛ ولكن عنده بمساءلة هوامشه وتهْـميشه ومُهمَّـشيه؛ وتركيب أحداثه اليومية التي لا ذنب للأفراد في صناعتها( إلى ذلك الحي الهامشي وأتسأل عن السبب الذي من أجله كنت أقف في مدخل المتجر المهترئة حيطانه (2) وفي نفس الوقت يتمرد على ذاك الواقع بأسلوبها الخاص وعبر العَـودة للذاكرة أحيانا؛ طبعا أسلوب ورؤية الكاتب ؛ الذي يكشف عن هويته المطابقة له في إحدى القصص ( لا أحد منهم يعْـرف هُـويتي ...جميعهم يظنونني أجنبيا ، لحية خفيفة شقراء ، وعينان يميل لونهما إلى الخضرة...(3) والملاحظ أنه يكشف نَـفـْسُه بنفـْسِه ؛ ولم يتخفى وراء ضمير الغائب أو الراوي أوغيره بل يشير(عندما جاءت أختي تناديني للغداء، طلبتُ منها أن تقول لهم إني نائم (4) (عندما التقيتُ العياشي.. كان يمشي حافيا...لم أنتبه إلا لصوته يناديني باسمي...منذ عَـرفتُ الرجل لم أعرفْ عنه شيئا قبيحا قط (5)
التــمَرد والامتداد:
بداهة أي إبدا ع في حد ذاته تمرد؛ باعتباره جنوح عن المعتاد، إما على قواعد الكتابة أو على سلبية الواقع وإشكالاته العميقة ؛ أوعلى الذات الكاتبة نفسها ؛ إذ نزعة التمرد أساسا تطعم الإبداع بأشكاله المتنوعة ؛ لتحقيق أبعاد جديدة إلى الحياة، لكن القاص- م برادة- مارس تمردا على العرف القصصي و سَـرد ه الذي يُغلب المتخيل على الواقع ويسعى جاهدا لإخفاء السارد؛ بحيث لم يظل سجين ما يعيشهُ ويشاهده فقط؛ بل استطاع أن يتمكن من تحويل ما اختبره في معترك الحياة إلى مادة في تَشكُّل ما يوازي التجربة الحياتية.( ما ألـذ التحرر.. ومَـا ألـذ التسكع ..و..ما ألذ أن يكون المرء لنفسه.... سرحت بخيالي في السنين الخوالي...سرحت في المقاهي الشعبية، حيث كان الزبناء يفترشون الحصير أو يحملون كأس قهوتهم أو شايهم إلى الخارج ، يجلسون على كراسي واطئة . ويضعون الكأس بين سيقانهم، يرقبون المارة في غير اكتراث....وكل مرة تسمع "تف" تطير على إثرها جمرة السبسي لتسقط فوق الحصير...(6) فهاته الأسطر تكشف عن الامتداد خارج ضيق المكان الذي التقط منه نصه / السردي ، لنهيم في فضاء آخر وصور أخرى تتقاطع تارة وتنفصل تارة أخرى مع الصور السابقة؛ وذلك محاولة من القارئ( المفترض) لإيجاد المعنى في المسافة الفاصلة بين الفضاءين؛ وذلك من خلال إطلاق العنان للمتخيل ؛ ومقارنته أو مقاربته بالتجارب المعاشة أو المشاهدة. وبالتالي فالتمرد هنا مرتبط عمليا بمقاومة ضيق المكان ومحـدودية الزمن؛ ويتجلى هَـذا أكثر في القصة (السيارات الثلاث )(هاهٌـم عادوا.. تسمعها وأنت تفطر او تتعشى أوتفعل أي شيء آخر...لقد عادوا فعلا.. وهـذه المرة ليست كالمرات السابقة... تلاحظ توافد الهنود يدخلون إلى ذلك البيت الذي لا يعُـمه الدفء إلا في تلك الفترة من السنة . يحملون هدايا فوق ظهر دابة أو فوق عربة يدوية .. يتكلمون بلا نظام. بطريقة لا تسمعها إلا في السوق الأسبوعي من أفواه هنود مثلهم...(7) فمثل هاته الصور؛ أغلبية العباد شاهدتها في المدن الصغرى وفي المناطق الهامشية ؛ حتى وإن كانت هي ثقافة ( المهاجرين) فهي معرضة للسخرية؛ نتيجة انفصام في شخصية هؤلاء ( الهنود) وهاته المفردة في حد ذاتها تفرض امتدادا للقارئ لكي يسبح خارج الفضاء الضيق عبر تساؤلات وربطها بالحَـدث مثل ( الوردة / صاحب الكلب/ الليلة الثانية بعد الألف/ الأشباح/ السروال/ خمس وثلاثون حيضة/البطاطيس/..../
التـمَـرد والتـذكـر:
من الطبيعي أن القصة في بنيتها العامة تذكرمَـروي/ محكي/ لأحداث مرت أمام السارد أم تخيلها أم عايشها ؛ مثل المقهى الشعبية ؛ وتحديدا مقاهي رواد ( الملحون) إحالة على مدينة ولادته وشبابه. وللإشارة؛ فإن القاص – محمد محمد برادة- لم يقدم عمله لأي أحد لكي يزكيه أو يقدم له صكوك الغفران: عبر تقديم/ مقدمة؛ وهذا في حد ذاته تمرد يَـنـّم أساسا على تموقف خاص. لكن حينما نسعى ربط هذا التموقف بأول قصة ينطلق منها؛ نستشف أنه يدين الرجولة بمعناها القويم/القيمي/ النضالي/ وليس (الجنسي( حيث) الرجولة تكمن في الفراش) كما ورد في(انطلق الجميع نحو الشاب يستفسرون: أين السروال ؟ لم تسعفه الكلمات ..ولم يقو على النطق. بحركة من يده ، فهموا أن المعركة كانت خاسرة.. تشابك أهل العريس مع أهل العروس في سيمفونية من السباب والكلام البذيء.. وتشابكت النساء بالأيادي.. وفي ذلك الخضم ،كانت أم العروس تلوح بالورقة شهادة الطبيب ؟ عنوانا لبراءة ابنتها (8) هكذا يؤطر العديد مفهوم ( الرجولة) على حساب موقع الذات الأنثوية داخل مجتمع تهيمن عليه تعاليم الذكورية وطقوسها الموروثة؛ لكن من زاوية التفاعل مع الأحداث ومحاولة تغيير ومقاومة ما يمكن تغييره؛ بداهة أمست الرجولة بدون رجولة التي تحولت إلى أكباش منبطحين/ مبعبعين/ متى ؟ وكيف قيل لهم ؟( قال السكير الثاني "إنهم أكباش !.." أمر السكير الآول الركاب " هيا أيها الأكباش ! قولوا باع...صرخت النساء في وجوه الرجال ووصفنهم بأبشع الأوصاف ...ونفين عنهم الرجولة (9)هَـذا واقع أمسينا نعيشه؛ ولا مفر من الإفصاح والاعتراف به ، لكن الصديق والفنان ولكن المبدع – برادة- لم يكتف بذكر فقدان [الرجولة = الشهامة واٌلإقدام ] ومواجهة المواقف الصعبة ؛ في هذا الباب بل يضيف للكباش نعتا آخر ( الفراريج) في باب آخر(الشاب الذي صرخ في وجوههم:" مالكم تنظرون إلي هكذا ؟ كالفراريج المذبوحة ! سأ... قال رجل في المقهى لرفيقه: " اضف هذه إلى ليلة باع...(10) إلا أن مضمر القصة في سؤالها المستهدف من المسؤول عن هذا التحول ؟ الإجابة تأتي عفوية من خلال التذكر : تذكر أبيه وصرامته وتلميحاته (عقب عليها أبي بسخرية وهو يتعمد أن يوصل كلامه إلى مسمعي. إيه.. مسكين ولدك ؟...أضاف أبي محاولا التلميح دون أن يتخلى عن اللهجة الساخرة: (11) وكذلك من خلال (استشاط الأب غيظا:" ليس على وجه الأرض من هو اكثـر غفلة منك...اسكت قبل أن يفور الدم في رأسي؛ عندها لن يعجبك حال..(12)أو من خلال( وأجهش بالبكاء؛ غضب الأب وضربه ضربا مبرحا؛ وهو يصرخ: ضع النقطة.. ضع النقطة...والولد يبكي ويصرخ (13) وقس على ذلك؛ بمعنى أن فقدان ( الرجولة) نتيجة فقدان القيم بأبعادها الشمولية ؛ وابتداع أنماط بديلة للعيش. وهناك فكرة رائعة في هذا السياق وشاملة لمضمر السؤال(فانفجر ضاحكا وقال: يربي كلبا ! تصوروا رجلا يربي كلبا !؟ (14) فهذا السؤال الكاريكاتوري؛ والحامل لعدة مفاهيم أقربها ( اللارجولة) هي سبب ذبول ( الوردة ) رغم محاولة بعض المتحزبين( ؟ ) للدفاع عنها وخلق مضايقة للرجال الأشاوس ؛ فـذبولها عمليا: مرتبط بفقدان ( الرجولة = النضال/ الإتحاد / الاستمرارية)بحيث في هَـذا النص الجامع لعنوان[القصص] يحضر الحوار بشكل عجيب ساهم بالتلاعب اللغوي، لتمويه وتضبيب دلالة الوردة (يالك من جاهل حقا ؛ إذا كانت الوردة ذابلة. فهي تستحق العناية أكثر من الوردة اليانعة؛ حتى يفوح عطرها ما أمكن.. الوردة رمز للحب... شعر الرجل وكأنها مؤامرة تحاك ضده.. تماسك أعصابه وقال: سأحاول أن أعتني بالورد الذابل.. (15) فهذا الحوار يحمل ابعادا إيديولوجية / سياسية/بين الذي كان وماهو كائن؛ والكائن تحسمه خاتمة القصص بالقول:( صرخة تزامنت مع نزول بضع قطرات وردية أغمي على شهرزاد تملكها إحساس : إنها أنثى (16)
وبناء على كل هذا؛ فطبيعي أن لكل مبدع نكهته وتصوره لمنجزه؛ طبقا لتجاربه وثقافته التي تنعكس على المُـنـْكتب والمقروئية؛ وبالتالي فهو الوحيد القادر في هذا العالم العبثي/ الفوضوي/ الأنثوي/ المبتذل ؛ العثور على البعْـد الجمالي وإعادة إنتاجه ، وذلك من خلال العملية الإبداعية التي هي صراع وجودي ومعاناة داخلية ؛ لمحاولة قلب بشاعة الواقع وبؤسه؛ إلى أفق أرحب. لكن حينما يُـقدم ويُعرض يصبح ملكا للأخر؛ وذاك الآخر( القارئ/ الفاعل ) = المفترض ، هُـو[ أس المعادلة] لتحقيق الانسجام والمعنى، للعالم الخارجي الذي كشفته القصص ؛ التي كلها من وحي الواقع؛ ومن معايشة " الكاتب" الذي غـيَّب التكثيف الذي هو أحد أسس السرد ؛ مستبدلا بالمتخيل لكي يقوم مقام الواقع وينصهر على أجنحة الخيال ؛ لكن الخطاب المباشر والألفاظ القدحية والنابية في عرف المجتمع ؛ كانت الإحالة المفصلية ؛ لما عاشه ؛ لتصبح كتابة مستفزة........
اســتـئنــاس:
1) [ رجـل والورد و...مضايقات] لمحمد محمد برادة – مطابع الرباط نت/ 2017
2 قصة :خارج الزمان والمكان- ص52
3) قـصة: حينما تركتهم ينتظرونني - ص 22
4) قصة: حي ميت/ ميت حي - ص 64
5) قصة :خارج الزمان والمكان - ص 56
6) قصة :حينما تركتهم ينتظرونني - ص23/27
7) قصة :السيارات الثلاث - ص 8/9 -
8) نــفــسـهـــا - ص 10
9) قصة : الأكباش في الحافلة ... - ص 6 /
10) قصة : فراريج في المقهى - ص7
11) قصة :حي ميت/ ميت حي - ص 64
12) قصة : حكاية صاحب الكلب – ص 12
13) قصة : حرف الجيم جمل – ص 41
14) قصة : حكاية أهـل المكر وما جرى لروزا مع البهلوان: - ص 37
15) قصة : الرجل الورد ومضايقات - ص 31
16) حدث في الليلة الثانية بعد الألف ص- 71
من بين الاشكالات المطروحة ( الآن ) في المشهد الثقافي المغربي، كيف يمكن فـرز وتصنيف منتوج تافه ومُكرس للتفاهة ومساهم فيها ؟ وبين منتوج يمتلك مواصفات إبداعية جادة ؟ ومسألة الإخوانيات وتبادل المصالح؛ في الشق التافه هَـي السائدة وعلى المكشوف ؛بحيث يتم تشويه اللغة في إملائيتها وتركيبها وأسلوبها؛ بشكل فظيع؛ بدون مطالعة أو مراجعة لما تتم تدوينه ؛ وبدون تهذيب أو تشذيب،. لبنات أفكاره؛ إن كانت بناته فعلا وليست مسروقة أو مختلسة ؟ وهاته مسؤولية المثقفين / القراء / النقاد / إذ المؤسف ! تخلى النقد الأدبي/ الفني/ الإبداعي/ عن مهامه ؛ ليلتحق البعض لجناح اللامبالاة؛ والبعض من بعض للصمت وترك الحبل على الغارب كما يقال ؛ وبعض البعض انخرط في سوق النخاسة، يمارس المساومة؛ ويمارس الشعبوية ... هَـذا حال ثقافتنا ، مما تضيع ولقد ضاعت العَـديد من الجهود والعطاءات؛ لمبدعِـين يعيشون في الظل؛ وليسوا من ذوي البهرجة والركض وراء المغـْريات وحب الظهور، وهنا فالمسؤولية كذلك يتحملها الإعلام بشقيه الورقي / الإلكتروني ؟ والنموذج عندنا في هذا التوضيح: الأستاذ - محمد محمد برادة - فهو من مؤسسي جمعية رواد الخشبة المكناسية سنة 1974 رفقة عبدالمجيد باقاسم وبلمبارك وعبد المجيد الدويري وعلي القروي وآخرون؛ بحيث كان نشيطا وفاعلا ضمن المجموعة ؛ فمارس التشخيص[ ممثلا ] رفقة رفاقه في الأعمال الأولى للجمعية؛ و اقتبس بعض الأعمال المسرحية من الأدب الإسباني...غادر الجمعية في نهاية 1978 ليلتحق بسلك التدريس (أستاذ اللغة الاسبانية) خارج مكناس. انقطعت بيني وبينه السبل؛ ولكن جمعتنا الصدف في ( فايس بوك) وتجمعنا الظروف جوانية هاته السطور؛ انطلاقا من إصداره:مجموعة قصصية [رجـل والورد و...مضايقات] (1) تتكون من 17 قصة . تقع في 72 صفحة من الحجم الصغير. فهي تتناول مواضيع متعددة وجريئة تستمد مادتها من نبع الواقع بشكل مباشر؛ ولكن عنده بمساءلة هوامشه وتهْـميشه ومُهمَّـشيه؛ وتركيب أحداثه اليومية التي لا ذنب للأفراد في صناعتها( إلى ذلك الحي الهامشي وأتسأل عن السبب الذي من أجله كنت أقف في مدخل المتجر المهترئة حيطانه (2) وفي نفس الوقت يتمرد على ذاك الواقع بأسلوبها الخاص وعبر العَـودة للذاكرة أحيانا؛ طبعا أسلوب ورؤية الكاتب ؛ الذي يكشف عن هويته المطابقة له في إحدى القصص ( لا أحد منهم يعْـرف هُـويتي ...جميعهم يظنونني أجنبيا ، لحية خفيفة شقراء ، وعينان يميل لونهما إلى الخضرة...(3) والملاحظ أنه يكشف نَـفـْسُه بنفـْسِه ؛ ولم يتخفى وراء ضمير الغائب أو الراوي أوغيره بل يشير(عندما جاءت أختي تناديني للغداء، طلبتُ منها أن تقول لهم إني نائم (4) (عندما التقيتُ العياشي.. كان يمشي حافيا...لم أنتبه إلا لصوته يناديني باسمي...منذ عَـرفتُ الرجل لم أعرفْ عنه شيئا قبيحا قط (5)
التــمَرد والامتداد:
بداهة أي إبدا ع في حد ذاته تمرد؛ باعتباره جنوح عن المعتاد، إما على قواعد الكتابة أو على سلبية الواقع وإشكالاته العميقة ؛ أوعلى الذات الكاتبة نفسها ؛ إذ نزعة التمرد أساسا تطعم الإبداع بأشكاله المتنوعة ؛ لتحقيق أبعاد جديدة إلى الحياة، لكن القاص- م برادة- مارس تمردا على العرف القصصي و سَـرد ه الذي يُغلب المتخيل على الواقع ويسعى جاهدا لإخفاء السارد؛ بحيث لم يظل سجين ما يعيشهُ ويشاهده فقط؛ بل استطاع أن يتمكن من تحويل ما اختبره في معترك الحياة إلى مادة في تَشكُّل ما يوازي التجربة الحياتية.( ما ألـذ التحرر.. ومَـا ألـذ التسكع ..و..ما ألذ أن يكون المرء لنفسه.... سرحت بخيالي في السنين الخوالي...سرحت في المقاهي الشعبية، حيث كان الزبناء يفترشون الحصير أو يحملون كأس قهوتهم أو شايهم إلى الخارج ، يجلسون على كراسي واطئة . ويضعون الكأس بين سيقانهم، يرقبون المارة في غير اكتراث....وكل مرة تسمع "تف" تطير على إثرها جمرة السبسي لتسقط فوق الحصير...(6) فهاته الأسطر تكشف عن الامتداد خارج ضيق المكان الذي التقط منه نصه / السردي ، لنهيم في فضاء آخر وصور أخرى تتقاطع تارة وتنفصل تارة أخرى مع الصور السابقة؛ وذلك محاولة من القارئ( المفترض) لإيجاد المعنى في المسافة الفاصلة بين الفضاءين؛ وذلك من خلال إطلاق العنان للمتخيل ؛ ومقارنته أو مقاربته بالتجارب المعاشة أو المشاهدة. وبالتالي فالتمرد هنا مرتبط عمليا بمقاومة ضيق المكان ومحـدودية الزمن؛ ويتجلى هَـذا أكثر في القصة (السيارات الثلاث )(هاهٌـم عادوا.. تسمعها وأنت تفطر او تتعشى أوتفعل أي شيء آخر...لقد عادوا فعلا.. وهـذه المرة ليست كالمرات السابقة... تلاحظ توافد الهنود يدخلون إلى ذلك البيت الذي لا يعُـمه الدفء إلا في تلك الفترة من السنة . يحملون هدايا فوق ظهر دابة أو فوق عربة يدوية .. يتكلمون بلا نظام. بطريقة لا تسمعها إلا في السوق الأسبوعي من أفواه هنود مثلهم...(7) فمثل هاته الصور؛ أغلبية العباد شاهدتها في المدن الصغرى وفي المناطق الهامشية ؛ حتى وإن كانت هي ثقافة ( المهاجرين) فهي معرضة للسخرية؛ نتيجة انفصام في شخصية هؤلاء ( الهنود) وهاته المفردة في حد ذاتها تفرض امتدادا للقارئ لكي يسبح خارج الفضاء الضيق عبر تساؤلات وربطها بالحَـدث مثل ( الوردة / صاحب الكلب/ الليلة الثانية بعد الألف/ الأشباح/ السروال/ خمس وثلاثون حيضة/البطاطيس/..../
التـمَـرد والتـذكـر:
من الطبيعي أن القصة في بنيتها العامة تذكرمَـروي/ محكي/ لأحداث مرت أمام السارد أم تخيلها أم عايشها ؛ مثل المقهى الشعبية ؛ وتحديدا مقاهي رواد ( الملحون) إحالة على مدينة ولادته وشبابه. وللإشارة؛ فإن القاص – محمد محمد برادة- لم يقدم عمله لأي أحد لكي يزكيه أو يقدم له صكوك الغفران: عبر تقديم/ مقدمة؛ وهذا في حد ذاته تمرد يَـنـّم أساسا على تموقف خاص. لكن حينما نسعى ربط هذا التموقف بأول قصة ينطلق منها؛ نستشف أنه يدين الرجولة بمعناها القويم/القيمي/ النضالي/ وليس (الجنسي( حيث) الرجولة تكمن في الفراش) كما ورد في(انطلق الجميع نحو الشاب يستفسرون: أين السروال ؟ لم تسعفه الكلمات ..ولم يقو على النطق. بحركة من يده ، فهموا أن المعركة كانت خاسرة.. تشابك أهل العريس مع أهل العروس في سيمفونية من السباب والكلام البذيء.. وتشابكت النساء بالأيادي.. وفي ذلك الخضم ،كانت أم العروس تلوح بالورقة شهادة الطبيب ؟ عنوانا لبراءة ابنتها (8) هكذا يؤطر العديد مفهوم ( الرجولة) على حساب موقع الذات الأنثوية داخل مجتمع تهيمن عليه تعاليم الذكورية وطقوسها الموروثة؛ لكن من زاوية التفاعل مع الأحداث ومحاولة تغيير ومقاومة ما يمكن تغييره؛ بداهة أمست الرجولة بدون رجولة التي تحولت إلى أكباش منبطحين/ مبعبعين/ متى ؟ وكيف قيل لهم ؟( قال السكير الثاني "إنهم أكباش !.." أمر السكير الآول الركاب " هيا أيها الأكباش ! قولوا باع...صرخت النساء في وجوه الرجال ووصفنهم بأبشع الأوصاف ...ونفين عنهم الرجولة (9)هَـذا واقع أمسينا نعيشه؛ ولا مفر من الإفصاح والاعتراف به ، لكن الصديق والفنان ولكن المبدع – برادة- لم يكتف بذكر فقدان [الرجولة = الشهامة واٌلإقدام ] ومواجهة المواقف الصعبة ؛ في هذا الباب بل يضيف للكباش نعتا آخر ( الفراريج) في باب آخر(الشاب الذي صرخ في وجوههم:" مالكم تنظرون إلي هكذا ؟ كالفراريج المذبوحة ! سأ... قال رجل في المقهى لرفيقه: " اضف هذه إلى ليلة باع...(10) إلا أن مضمر القصة في سؤالها المستهدف من المسؤول عن هذا التحول ؟ الإجابة تأتي عفوية من خلال التذكر : تذكر أبيه وصرامته وتلميحاته (عقب عليها أبي بسخرية وهو يتعمد أن يوصل كلامه إلى مسمعي. إيه.. مسكين ولدك ؟...أضاف أبي محاولا التلميح دون أن يتخلى عن اللهجة الساخرة: (11) وكذلك من خلال (استشاط الأب غيظا:" ليس على وجه الأرض من هو اكثـر غفلة منك...اسكت قبل أن يفور الدم في رأسي؛ عندها لن يعجبك حال..(12)أو من خلال( وأجهش بالبكاء؛ غضب الأب وضربه ضربا مبرحا؛ وهو يصرخ: ضع النقطة.. ضع النقطة...والولد يبكي ويصرخ (13) وقس على ذلك؛ بمعنى أن فقدان ( الرجولة) نتيجة فقدان القيم بأبعادها الشمولية ؛ وابتداع أنماط بديلة للعيش. وهناك فكرة رائعة في هذا السياق وشاملة لمضمر السؤال(فانفجر ضاحكا وقال: يربي كلبا ! تصوروا رجلا يربي كلبا !؟ (14) فهذا السؤال الكاريكاتوري؛ والحامل لعدة مفاهيم أقربها ( اللارجولة) هي سبب ذبول ( الوردة ) رغم محاولة بعض المتحزبين( ؟ ) للدفاع عنها وخلق مضايقة للرجال الأشاوس ؛ فـذبولها عمليا: مرتبط بفقدان ( الرجولة = النضال/ الإتحاد / الاستمرارية)بحيث في هَـذا النص الجامع لعنوان[القصص] يحضر الحوار بشكل عجيب ساهم بالتلاعب اللغوي، لتمويه وتضبيب دلالة الوردة (يالك من جاهل حقا ؛ إذا كانت الوردة ذابلة. فهي تستحق العناية أكثر من الوردة اليانعة؛ حتى يفوح عطرها ما أمكن.. الوردة رمز للحب... شعر الرجل وكأنها مؤامرة تحاك ضده.. تماسك أعصابه وقال: سأحاول أن أعتني بالورد الذابل.. (15) فهذا الحوار يحمل ابعادا إيديولوجية / سياسية/بين الذي كان وماهو كائن؛ والكائن تحسمه خاتمة القصص بالقول:( صرخة تزامنت مع نزول بضع قطرات وردية أغمي على شهرزاد تملكها إحساس : إنها أنثى (16)
وبناء على كل هذا؛ فطبيعي أن لكل مبدع نكهته وتصوره لمنجزه؛ طبقا لتجاربه وثقافته التي تنعكس على المُـنـْكتب والمقروئية؛ وبالتالي فهو الوحيد القادر في هذا العالم العبثي/ الفوضوي/ الأنثوي/ المبتذل ؛ العثور على البعْـد الجمالي وإعادة إنتاجه ، وذلك من خلال العملية الإبداعية التي هي صراع وجودي ومعاناة داخلية ؛ لمحاولة قلب بشاعة الواقع وبؤسه؛ إلى أفق أرحب. لكن حينما يُـقدم ويُعرض يصبح ملكا للأخر؛ وذاك الآخر( القارئ/ الفاعل ) = المفترض ، هُـو[ أس المعادلة] لتحقيق الانسجام والمعنى، للعالم الخارجي الذي كشفته القصص ؛ التي كلها من وحي الواقع؛ ومن معايشة " الكاتب" الذي غـيَّب التكثيف الذي هو أحد أسس السرد ؛ مستبدلا بالمتخيل لكي يقوم مقام الواقع وينصهر على أجنحة الخيال ؛ لكن الخطاب المباشر والألفاظ القدحية والنابية في عرف المجتمع ؛ كانت الإحالة المفصلية ؛ لما عاشه ؛ لتصبح كتابة مستفزة........
اســتـئنــاس:
1) [ رجـل والورد و...مضايقات] لمحمد محمد برادة – مطابع الرباط نت/ 2017
2 قصة :خارج الزمان والمكان- ص52
3) قـصة: حينما تركتهم ينتظرونني - ص 22
4) قصة: حي ميت/ ميت حي - ص 64
5) قصة :خارج الزمان والمكان - ص 56
6) قصة :حينما تركتهم ينتظرونني - ص23/27
7) قصة :السيارات الثلاث - ص 8/9 -
8) نــفــسـهـــا - ص 10
9) قصة : الأكباش في الحافلة ... - ص 6 /
10) قصة : فراريج في المقهى - ص7
11) قصة :حي ميت/ ميت حي - ص 64
12) قصة : حكاية صاحب الكلب – ص 12
13) قصة : حرف الجيم جمل – ص 41
14) قصة : حكاية أهـل المكر وما جرى لروزا مع البهلوان: - ص 37
15) قصة : الرجل الورد ومضايقات - ص 31
16) حدث في الليلة الثانية بعد الألف ص- 71