وقفتُ حائراً وأنا أستعد لولوجِ بابِ قاعة زيارة الأهل، فتملكتني مشاعر التوتر وتأنيب الضمير إذ كنت لحظتها أقف بالضبط بين الباب المفضي إلى قاعة زيارة الأهل، وبين الباب الآخر المفضي إلى قاعة زيارة المحامين. فمنذ ساعات الصباح الأستاذ المحامي حسن عبادي ابن مدينة حيفا ينتظر زيارتي بينما كانت الساعة في هذه اللحظة تشير إلى الواحدة ظهراً.
تجاوزتُ السجان وخطوت خطوةً نحو قاعة زيارة المحامين، ألقيت نظرة من خلف زجاج نافذة الباب وكان قبالتي على بعد أكثر من عشرين متراً محامٍ لم يسبقَ لي أن رأيته، تملكني إحساسٌ أنه لا بد أن يكون هو الأستاذ حسن، التقت نظراتنا من بعيد، ابتسمتُ وأشرتُ له بيدي، ابتسم بدوره وأشار بيده، وهكذا كان تعارفنا عن بعدٍ. وما أراحني قليلاً أنه لم يبدُ عليه أي مظهرٍ يدلُ على التوترِ أو السأمِ بسبب الساعات التي أمضاها للزيارة.
قبل بضعة شهور حدثني شقيقي كمال عن الأستاذ حسن، وعن المقالة الأدبية التي دأب على كتابتها، وخَطّ روايتي بعددٍ من هذه المقالات، والتي كان آخرها مقال عن رواية الكبسولة. كان كمال يقرأ بعض هذه المقالات على الهاتف، فتتكشف لي شخصية هذا الأستاذ، بثقافته الواسعة، وشغفه بالأدب، كتاباته سلسة وانسيابية دافئة، تكتسي بمعانٍ إنسانيةٍ عميقةٍ، وكان لي شرف مشاركة الأستاذ حسن في إحدى الندوات المخصصة لمناقشة رواية الكبسولة قبل شهرين في جامعة النجاح، فضلاً عن بعض اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية، التي تحدث بها حسن عن أدب السجون، وخص رواياتي تحديداً في هذه اللقاءات.
شجعتني مقالاته ولقاءاته الصحافية للتعرف إليه، هاتفته من سجني، تحادثنا وتعارفنا، ووعدني بزيارةٍ قريبةٍ إلى السجنِ كي نتعارف عن قرب، ومن المصادفات أن إدارة السجن قد سمحت له بزيارتي في ذات اليوم المخصص لزيارة الأهل في الثالث من حزيران -يونيو، كنتُ على وشكٍ الاتصاٍل به كي أنصحه بإلغاء الزيارة أو تأجيلها حتى لا يتكبد عناء السفر الطويل، ويحدثُ أمرٌ طارئٌ يعيق هذه الزيارة، إلا أنني علمت أنه سيزورني عند الساعة العاشرة صباحاً، فيما زيارة الأهل ستكون عند الساعة الواحدة. وحدث ما توجستُ منه تماماً فها هو الأستاذ حسن ينتظرُ بعد أن أعاقته إجراءات السجن القاسية، وأرغمته على الانتظار ووقفت بين البابين حائراً بين زيارة شقيقي فؤاد الذي لم يزرني منذ عامين، وبين الأستاذ حسن في زيارته الأولى لي، ولو خيرت لحظتها لأثرت زيارة المحامي ولكن الإدارة أخرجتني مع فوج من الأسرى لزيارة الأهل. كانت تساورني تلك اللحظة مشاعر الخجل فكيف سيكون بوسعك أن تكون مرتاحاً في زيارة الأهل بينما يمضي رجلٌ ساعات عدة في قاعة الانتظار، بعد أن قطع تلك المساحة من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى جنوبها كي يزورك. فُتح باب قاعة الزيارة وسارعت للجلوس قبالة شقيقي فؤاد، تجتاحني عدد من المشاعر المتضاربة، أمضيتُ مدة الزيارة وكانت المرة الأولى التي تمنيت أن تنتهي سريعاً، ولاحظ فؤاد شرودي ومراقبتي للساعة أكثر من مرة، لكنه كان مقدراً لظرفي ومستوعباً لمأزقي.
انتهت الزيارة وغادرنا القاعدة، ولم يلبث أن قادنا السجانون إلى زيارة المحامي، تنفست الصعداء حينها حينما رأيت أنه لا يزال هادئاً في القاعة، سارعت الخطى عبر الممر الطويل، جلستُ قبالته وسارعتُ بمحادثته. كان لا يزالُ يبتسمُ ابتسامته الهادئه والمتزنة والواثقة، وهو ما ساعدني على إزاحة جبل جليدي من الخجل في داخلي، تحادثنا وتبادلنا عبارات المجاملة المألوفة، اعتذرتُ منه على هذا التأخير، بيد أنه لم يبالِ وأخبرني أنه اعتاد على مثل هكذا إجراءات. كان بملامحه الهادئة خلف نظارته وشعره المكتسي بالبياض يتفحصني بنظرات ودودة وطبيعية، لا تنمُ عن أي تظاهر أو زيف أو ملل، ملامحه تعكسُ إنسانيةً عميقةً وخبرةً في متاهات الحياة ومتاعبها والتواءاتها، كان رجلاً دمثاً وبوسعك أن تتدفق معه في الحديث بلا نقاط أو فواصل، كأنك تحادث صديقاً قديماً انقطع عنك مدةَ من الوقتِ، ولتوّه قد عاد إليك. تجادلنا لساعاتٍ من الوقت، في الأدب والثقافة والحياة والسجن والعائلة، وحدثني عن ابنتيه ديمة وشادن، وعن زوجته سميره، وفجأة تنبه قائلاً: "لقد أعدت لك سميرة كعكاً بيتياً وأرسلته معي كهديةٍ للعيد".
أثارت عبارته أحاسيساً مدفونةً في أعماقي، إذ كيف بمقدورك أن تشرح عن قيمة هذه اللفتة الرائعة وهي تنبض في الفؤاد، فطوال سنوات أسرك السبعة عشر لم يتذكرك أو يخصك أحد بهدية مماثلة، كان مألوفاً أن تصلك هدية على شاكلة ثياب أو كتاب يرسله الأهل أو أحد الأصدقاء. لكن أن يهديك أحدهم طعاماً أو حلوىً بيتية فهذا حدث استثنائي، إذ يفوق عبق الجدات والأمهات والصديقات والحبيبات، ومن أرسل هذه الهدية لا بد أنه يتمتع بوقار وذوق إنساني رفيع، لقد تركت هذه الهدية أثراً عميقاً في نفسي.
أما الوجه الآخر والأجمل لهذه الحكاية هو أن السيدة سميرة لا تعلم أنه من غير المسموح به إدخال مثل هذه الهدية إلى السجن، أما ما هو مسموح بإدخاله فيقتصر على الثياب والكتب بشرط إدخالها من خلال الأهل أثناء الزيارة. كان أول خاطر خطر فيه هي تلك العفوية التي تتحلى بها سميرة تخيلت عاطفة بعمر البراءة في يدها قطعة حلوى تضعها في فمك بكل تلقائية وبراءة وبلا أية حسابات، وعندها أيهما الأشهى قطعة الحلوى وهي تذوب في فمك أم شكل البراءة وهي تفيضُ جمالاً وألقاً وحباً. هكذا خيُل إليّ، كانت هدية سميرة أشبه بعفوية جميلة في يد طفلة صافية البراءة، فأحدثت لفتتها انفعالاً روحياً، وتدفق في أعماقي سيلٌ من السعادة، فنحن حين نصنع أشياءً بأيدينا عن طيب خاطر وبكامل التلقائية وسماحة النفس وندفعها بأيدينا كما تدفع الطفولة البريئة ما بيدها نحو الأفواه، كما تفعل الشمس حين تشرق كل يوم، وتدفع بأشعتها لأن من طبيعتها العطاء.
شكرت الأستاذ حسن ولكنني عاتبته بمودة: أنت محامٍ وأنت تعرف أن مثل هذه الهدايا لا يسمح بإدخالها إلى السجن، وكان يتعين عليك ألا تكلّف أم ديمه بهذا العناء. فأجاب حسن بهدوء: "وعدني الضابط أن يفحص إمكانية إدخالها مع المستشار القضائي، وبعد انتهائي من هذه الزيارة سأتلقى رداً بذلك". سألته بدهشة: "عن أيِ مستشارٍ قضائيٍ تتحدث؟ مستشار الحكومة؟ أم مستشار مصلحة السجون؟" فأجاب: "بل مستشار مصلحة السجون". صمت قليلاً وقلت له متأثراً: "إن سُمح بإدخال هذا الكعكات ستكون سابقةً وسيعد ذلك خرقاً لجدار المحظورات، فنحن يا صديقي لا يسمح لنا بتلقي مثل هذه الهدايا منذ أكثر من عشرين عاماً، وإذا قدر لها أن تدخل تكون أشبه بالمعجزة. على أيةِ حال أرجو أن تشكر زوجتكَ الرائعة على هديتها، ولتعتبر أن هديتها قد وصلت، سواء سمح بإدخالها أم لم يسمح".
لم أرغب في أن أثقل على حسن اقترحت عليه لإنهاء الزيارة، فالمسافةُ التي يتعين عليه قطعها طويلاً، ولكي يتمكن من الوصول قبل موعد الإفطار. ودعنا بعضنا البعض، وهممت عائداً إلى السجن واستلقيت فوق برشي، بينما بقيت الهدية ومعناها يداهمني، ويبعث بنفحة سعادة في داخلي. راقت لي الفكرة من إعدادها وإرسالها على هذا النحو، لم يدر بخلدي شكل الكعك أو طبيعته أو طعمه، مجرد فكرة إعدادها وإرسالها كان أروع وأعظم من الهدية، وأكثر دلالة وبلاغة. لم يساورني شك بإمكانية السماح بإدخالها لأن ذلك يعني تغييراً في الإجراءات والسياسات، الأمر الذي يحتاج إلى قرارات عليا، قد تصل إلى وزير الأمن الداخلي في ظل إجراءات جافة وطويلة وعنصرية، لا تفهم لغة المشاعر الإنسانية، ويصبح أفراد هذه الإجراءات العنصرية مجرد براغٍ في آلة صماء. عند الساعة السابعة مساءً هاتفت شقيقي كمال، أخبرني أن الأستاذ حسن اتصل به، وعبّر عن سروره بالزيارة، وأبلغه بأن إدارة السجن لم تسمح بإدخال الكعك، عندها تنبهت لمشاعر تلك السيدة النبيلة التي ستصاب بوخزة ألمٍ حين تعود إليها الهدية، ومن شأن ذلك أن يوجع وجدانها. فهذا الطراز من البشر لا يمكن له أن يكون حيادياً أو بارداً أو لا مبالياً. قررتُ أن أحادث حسن لعله قد يكون قد وصل إلى البيت فأشكره وأطمئن على وصوله، وأشكر تلك السيدة. رن الهاتف في الجهة الأخرى وكان ثمة صوت امرأة على الخط فكرت أن تكون سميرة فتساءلت: أم ديمه؟ أجابت: أجل. أتعرفين من أنا؟ ترددت قليلاً ثم هتفت: أنت صاحب الاسم الذي ظهر على شاشة الهاتف؟ ضحكتُ، وتبادلنا عبارات المجاملة، وشكرتها على هدية الكعك رغم عدم السماح بإدخالها. عندما أبدت أسفها وحزنها وقالت: "أنا غاضبة لعدم سماحهم بدخول الكعك، لقد طلبت من حسن عدم إعادتها إلى البيت، كانت الهدية لكم بالسجن ويؤسفني أنها قد عادت".
حاولتُ التخفيف من وطأة حزنها وقلت: "اعتبريها قد وصلت، صدقيني أن مجرد أن يفكر أحد بإرسال مثل هذه الهدية من شأن ذلك أن يبعث السرور في داخلنا". احتجت لبضعة دقائق حتى راقت، وتبدد حزنها، تبادلنا مجدداً عبارات المجاملة والمعايدة، وتمنت من قلبها أن أتذوق الكعك من تحت يدها في حيفا العيد المقبل. تحادثت مع حسن قليلاً وما أن انتهت المكالمة حتى شعرت بالارتياح، عدت إلى صمتي بعدها ورحت أتأمل الماضي، كان الكعك يعيدني إلى الأسرة ومناسبة وأجواء العيد، كعك العائلة والأقارب والأصدقاء، ولحظات الدفء والعلاقات الإنسانية المترعة بالفرع، والنابضة بالأمل والحب والسعادة. فهذه الهدية التي لم تصل أيقظت الماضي بجماله وبساطته وفرحه. كانت هدية سميرة عابقةٌ بالفرح، تذكرك بعبق هدايا الأمهات والجدات والأخوات والقريبات والصديقات، فيهتف هاتف بداخلك: لا يزال هذا العالم بخير، ثمة جمال في هذا العالم، وهو يضم نساءً على طرازك يا امرأة، أعدي الكعك وهيئيه في كل عيد، فربما تتحقق معجزة حريتنا من بعد هذا الضباب الكثيف، وقد تكون رشوة لأقدار مخبئة في سديم الزمن، وتتحقق نبوءتك بأن نأكل الكعك ونحن نتأمل أمواج بحر حيفا. خبئي هذا الوعد، واتركيه مدفوناً في بستان قلبك، فربما ينمو ويأتي مثل هذا اليوم، وإن لم يأتِ أو يتأخر قليلاً أو كثيراً عندها يكفينا شرف المحاولة في الحلم وصناعة الفرح، فقد يكون الطريق إلى الحلم وهو ينطوي على هذا القدر من المتاعب.
والألم أجمل كثيراً من الحلمِ ذاته مثلما كانت سعادتك وأنتِ تعدين الكعك أكثر شهية من الكعك ذاته. ولكِ أن تتخيلي كم كانت سلة الكعك وهي تقف بإصرار وعناد على البوابة قد أربكت السجان، ولو سُمح بدخولها لتذوق طعم إنسانيته التي ما فتئت تموت، ولكنه فعل خيراً بعد أن أعادها إليكِ لأن طبيعته كسجان لا تسمح بولوجِ السعادةِ، ولأن وظيفته قائمة أصلاً على حجبها ولكي تظلي هديتك هدية لم تصل إطلاقاً، ولكِ أظل أذكر طعم الحرمان من طعم كعككِ الشهي. وصلت هديتك يا أم ديمه ووصلت الرسالة الكامنة من ورائها، وكان حظر دخولها قد سمح لتسلل معناها إلى القلب وكانت نكهة الحرمان منها أشهى منه. كانت لمسة طيبة منكِ تنمُ عن أصالة ولياقة وذوق رفيع، وكانت سلة الكعك رسالة احتجاج وتظاهرة على بوابة السجن أربكت السجان أكثر مما تربكه المدافع العربية، احتاج إلى أن يلجأ إلى مستشاره القضائي كي يمده بفتوى تسمح بدخول الفرح. سلمت يداكِ يا أم ديمة كانت نكهة وطعم المعنى الكامن من وراء فكرة الكعك شهياً حتى الامتلاء، شهياً حتى الشبع. ولم يتسنَ لي الوقت كي أقول لكِ إن حاسة السمع وأنا أصغي إليكِ قد اختصرت كل الحواجز فكان صوتك بتلقائيته وصفائه يشبه رائحة الياسمين وارتعاشة أغصانه مع نسائم ليلية في ضوء القمر. شكراً لكِ وسلمت يداكِ وكل عام وأنتِ وحسن والعائلة وعموم شعبنا بألف خير.
كميل أبو حنيش
المصدر: الميادين نت
(الأسير في معتقل "رامون" كميل أبو حنيش حصل قبل مدة قصيرة على درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية وهو في الأسر، وقد أصدر أربع روايات هي الكبسولة ووجع بلا قرار وبشائر وخبر عاجل، ويعمل على إصدار رواية خامسة قريباً.)
تجاوزتُ السجان وخطوت خطوةً نحو قاعة زيارة المحامين، ألقيت نظرة من خلف زجاج نافذة الباب وكان قبالتي على بعد أكثر من عشرين متراً محامٍ لم يسبقَ لي أن رأيته، تملكني إحساسٌ أنه لا بد أن يكون هو الأستاذ حسن، التقت نظراتنا من بعيد، ابتسمتُ وأشرتُ له بيدي، ابتسم بدوره وأشار بيده، وهكذا كان تعارفنا عن بعدٍ. وما أراحني قليلاً أنه لم يبدُ عليه أي مظهرٍ يدلُ على التوترِ أو السأمِ بسبب الساعات التي أمضاها للزيارة.
قبل بضعة شهور حدثني شقيقي كمال عن الأستاذ حسن، وعن المقالة الأدبية التي دأب على كتابتها، وخَطّ روايتي بعددٍ من هذه المقالات، والتي كان آخرها مقال عن رواية الكبسولة. كان كمال يقرأ بعض هذه المقالات على الهاتف، فتتكشف لي شخصية هذا الأستاذ، بثقافته الواسعة، وشغفه بالأدب، كتاباته سلسة وانسيابية دافئة، تكتسي بمعانٍ إنسانيةٍ عميقةٍ، وكان لي شرف مشاركة الأستاذ حسن في إحدى الندوات المخصصة لمناقشة رواية الكبسولة قبل شهرين في جامعة النجاح، فضلاً عن بعض اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية، التي تحدث بها حسن عن أدب السجون، وخص رواياتي تحديداً في هذه اللقاءات.
شجعتني مقالاته ولقاءاته الصحافية للتعرف إليه، هاتفته من سجني، تحادثنا وتعارفنا، ووعدني بزيارةٍ قريبةٍ إلى السجنِ كي نتعارف عن قرب، ومن المصادفات أن إدارة السجن قد سمحت له بزيارتي في ذات اليوم المخصص لزيارة الأهل في الثالث من حزيران -يونيو، كنتُ على وشكٍ الاتصاٍل به كي أنصحه بإلغاء الزيارة أو تأجيلها حتى لا يتكبد عناء السفر الطويل، ويحدثُ أمرٌ طارئٌ يعيق هذه الزيارة، إلا أنني علمت أنه سيزورني عند الساعة العاشرة صباحاً، فيما زيارة الأهل ستكون عند الساعة الواحدة. وحدث ما توجستُ منه تماماً فها هو الأستاذ حسن ينتظرُ بعد أن أعاقته إجراءات السجن القاسية، وأرغمته على الانتظار ووقفت بين البابين حائراً بين زيارة شقيقي فؤاد الذي لم يزرني منذ عامين، وبين الأستاذ حسن في زيارته الأولى لي، ولو خيرت لحظتها لأثرت زيارة المحامي ولكن الإدارة أخرجتني مع فوج من الأسرى لزيارة الأهل. كانت تساورني تلك اللحظة مشاعر الخجل فكيف سيكون بوسعك أن تكون مرتاحاً في زيارة الأهل بينما يمضي رجلٌ ساعات عدة في قاعة الانتظار، بعد أن قطع تلك المساحة من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى جنوبها كي يزورك. فُتح باب قاعة الزيارة وسارعت للجلوس قبالة شقيقي فؤاد، تجتاحني عدد من المشاعر المتضاربة، أمضيتُ مدة الزيارة وكانت المرة الأولى التي تمنيت أن تنتهي سريعاً، ولاحظ فؤاد شرودي ومراقبتي للساعة أكثر من مرة، لكنه كان مقدراً لظرفي ومستوعباً لمأزقي.
انتهت الزيارة وغادرنا القاعدة، ولم يلبث أن قادنا السجانون إلى زيارة المحامي، تنفست الصعداء حينها حينما رأيت أنه لا يزال هادئاً في القاعة، سارعت الخطى عبر الممر الطويل، جلستُ قبالته وسارعتُ بمحادثته. كان لا يزالُ يبتسمُ ابتسامته الهادئه والمتزنة والواثقة، وهو ما ساعدني على إزاحة جبل جليدي من الخجل في داخلي، تحادثنا وتبادلنا عبارات المجاملة المألوفة، اعتذرتُ منه على هذا التأخير، بيد أنه لم يبالِ وأخبرني أنه اعتاد على مثل هكذا إجراءات. كان بملامحه الهادئة خلف نظارته وشعره المكتسي بالبياض يتفحصني بنظرات ودودة وطبيعية، لا تنمُ عن أي تظاهر أو زيف أو ملل، ملامحه تعكسُ إنسانيةً عميقةً وخبرةً في متاهات الحياة ومتاعبها والتواءاتها، كان رجلاً دمثاً وبوسعك أن تتدفق معه في الحديث بلا نقاط أو فواصل، كأنك تحادث صديقاً قديماً انقطع عنك مدةَ من الوقتِ، ولتوّه قد عاد إليك. تجادلنا لساعاتٍ من الوقت، في الأدب والثقافة والحياة والسجن والعائلة، وحدثني عن ابنتيه ديمة وشادن، وعن زوجته سميره، وفجأة تنبه قائلاً: "لقد أعدت لك سميرة كعكاً بيتياً وأرسلته معي كهديةٍ للعيد".
أثارت عبارته أحاسيساً مدفونةً في أعماقي، إذ كيف بمقدورك أن تشرح عن قيمة هذه اللفتة الرائعة وهي تنبض في الفؤاد، فطوال سنوات أسرك السبعة عشر لم يتذكرك أو يخصك أحد بهدية مماثلة، كان مألوفاً أن تصلك هدية على شاكلة ثياب أو كتاب يرسله الأهل أو أحد الأصدقاء. لكن أن يهديك أحدهم طعاماً أو حلوىً بيتية فهذا حدث استثنائي، إذ يفوق عبق الجدات والأمهات والصديقات والحبيبات، ومن أرسل هذه الهدية لا بد أنه يتمتع بوقار وذوق إنساني رفيع، لقد تركت هذه الهدية أثراً عميقاً في نفسي.
أما الوجه الآخر والأجمل لهذه الحكاية هو أن السيدة سميرة لا تعلم أنه من غير المسموح به إدخال مثل هذه الهدية إلى السجن، أما ما هو مسموح بإدخاله فيقتصر على الثياب والكتب بشرط إدخالها من خلال الأهل أثناء الزيارة. كان أول خاطر خطر فيه هي تلك العفوية التي تتحلى بها سميرة تخيلت عاطفة بعمر البراءة في يدها قطعة حلوى تضعها في فمك بكل تلقائية وبراءة وبلا أية حسابات، وعندها أيهما الأشهى قطعة الحلوى وهي تذوب في فمك أم شكل البراءة وهي تفيضُ جمالاً وألقاً وحباً. هكذا خيُل إليّ، كانت هدية سميرة أشبه بعفوية جميلة في يد طفلة صافية البراءة، فأحدثت لفتتها انفعالاً روحياً، وتدفق في أعماقي سيلٌ من السعادة، فنحن حين نصنع أشياءً بأيدينا عن طيب خاطر وبكامل التلقائية وسماحة النفس وندفعها بأيدينا كما تدفع الطفولة البريئة ما بيدها نحو الأفواه، كما تفعل الشمس حين تشرق كل يوم، وتدفع بأشعتها لأن من طبيعتها العطاء.
شكرت الأستاذ حسن ولكنني عاتبته بمودة: أنت محامٍ وأنت تعرف أن مثل هذه الهدايا لا يسمح بإدخالها إلى السجن، وكان يتعين عليك ألا تكلّف أم ديمه بهذا العناء. فأجاب حسن بهدوء: "وعدني الضابط أن يفحص إمكانية إدخالها مع المستشار القضائي، وبعد انتهائي من هذه الزيارة سأتلقى رداً بذلك". سألته بدهشة: "عن أيِ مستشارٍ قضائيٍ تتحدث؟ مستشار الحكومة؟ أم مستشار مصلحة السجون؟" فأجاب: "بل مستشار مصلحة السجون". صمت قليلاً وقلت له متأثراً: "إن سُمح بإدخال هذا الكعكات ستكون سابقةً وسيعد ذلك خرقاً لجدار المحظورات، فنحن يا صديقي لا يسمح لنا بتلقي مثل هذه الهدايا منذ أكثر من عشرين عاماً، وإذا قدر لها أن تدخل تكون أشبه بالمعجزة. على أيةِ حال أرجو أن تشكر زوجتكَ الرائعة على هديتها، ولتعتبر أن هديتها قد وصلت، سواء سمح بإدخالها أم لم يسمح".
لم أرغب في أن أثقل على حسن اقترحت عليه لإنهاء الزيارة، فالمسافةُ التي يتعين عليه قطعها طويلاً، ولكي يتمكن من الوصول قبل موعد الإفطار. ودعنا بعضنا البعض، وهممت عائداً إلى السجن واستلقيت فوق برشي، بينما بقيت الهدية ومعناها يداهمني، ويبعث بنفحة سعادة في داخلي. راقت لي الفكرة من إعدادها وإرسالها على هذا النحو، لم يدر بخلدي شكل الكعك أو طبيعته أو طعمه، مجرد فكرة إعدادها وإرسالها كان أروع وأعظم من الهدية، وأكثر دلالة وبلاغة. لم يساورني شك بإمكانية السماح بإدخالها لأن ذلك يعني تغييراً في الإجراءات والسياسات، الأمر الذي يحتاج إلى قرارات عليا، قد تصل إلى وزير الأمن الداخلي في ظل إجراءات جافة وطويلة وعنصرية، لا تفهم لغة المشاعر الإنسانية، ويصبح أفراد هذه الإجراءات العنصرية مجرد براغٍ في آلة صماء. عند الساعة السابعة مساءً هاتفت شقيقي كمال، أخبرني أن الأستاذ حسن اتصل به، وعبّر عن سروره بالزيارة، وأبلغه بأن إدارة السجن لم تسمح بإدخال الكعك، عندها تنبهت لمشاعر تلك السيدة النبيلة التي ستصاب بوخزة ألمٍ حين تعود إليها الهدية، ومن شأن ذلك أن يوجع وجدانها. فهذا الطراز من البشر لا يمكن له أن يكون حيادياً أو بارداً أو لا مبالياً. قررتُ أن أحادث حسن لعله قد يكون قد وصل إلى البيت فأشكره وأطمئن على وصوله، وأشكر تلك السيدة. رن الهاتف في الجهة الأخرى وكان ثمة صوت امرأة على الخط فكرت أن تكون سميرة فتساءلت: أم ديمه؟ أجابت: أجل. أتعرفين من أنا؟ ترددت قليلاً ثم هتفت: أنت صاحب الاسم الذي ظهر على شاشة الهاتف؟ ضحكتُ، وتبادلنا عبارات المجاملة، وشكرتها على هدية الكعك رغم عدم السماح بإدخالها. عندما أبدت أسفها وحزنها وقالت: "أنا غاضبة لعدم سماحهم بدخول الكعك، لقد طلبت من حسن عدم إعادتها إلى البيت، كانت الهدية لكم بالسجن ويؤسفني أنها قد عادت".
حاولتُ التخفيف من وطأة حزنها وقلت: "اعتبريها قد وصلت، صدقيني أن مجرد أن يفكر أحد بإرسال مثل هذه الهدية من شأن ذلك أن يبعث السرور في داخلنا". احتجت لبضعة دقائق حتى راقت، وتبدد حزنها، تبادلنا مجدداً عبارات المجاملة والمعايدة، وتمنت من قلبها أن أتذوق الكعك من تحت يدها في حيفا العيد المقبل. تحادثت مع حسن قليلاً وما أن انتهت المكالمة حتى شعرت بالارتياح، عدت إلى صمتي بعدها ورحت أتأمل الماضي، كان الكعك يعيدني إلى الأسرة ومناسبة وأجواء العيد، كعك العائلة والأقارب والأصدقاء، ولحظات الدفء والعلاقات الإنسانية المترعة بالفرع، والنابضة بالأمل والحب والسعادة. فهذه الهدية التي لم تصل أيقظت الماضي بجماله وبساطته وفرحه. كانت هدية سميرة عابقةٌ بالفرح، تذكرك بعبق هدايا الأمهات والجدات والأخوات والقريبات والصديقات، فيهتف هاتف بداخلك: لا يزال هذا العالم بخير، ثمة جمال في هذا العالم، وهو يضم نساءً على طرازك يا امرأة، أعدي الكعك وهيئيه في كل عيد، فربما تتحقق معجزة حريتنا من بعد هذا الضباب الكثيف، وقد تكون رشوة لأقدار مخبئة في سديم الزمن، وتتحقق نبوءتك بأن نأكل الكعك ونحن نتأمل أمواج بحر حيفا. خبئي هذا الوعد، واتركيه مدفوناً في بستان قلبك، فربما ينمو ويأتي مثل هذا اليوم، وإن لم يأتِ أو يتأخر قليلاً أو كثيراً عندها يكفينا شرف المحاولة في الحلم وصناعة الفرح، فقد يكون الطريق إلى الحلم وهو ينطوي على هذا القدر من المتاعب.
والألم أجمل كثيراً من الحلمِ ذاته مثلما كانت سعادتك وأنتِ تعدين الكعك أكثر شهية من الكعك ذاته. ولكِ أن تتخيلي كم كانت سلة الكعك وهي تقف بإصرار وعناد على البوابة قد أربكت السجان، ولو سُمح بدخولها لتذوق طعم إنسانيته التي ما فتئت تموت، ولكنه فعل خيراً بعد أن أعادها إليكِ لأن طبيعته كسجان لا تسمح بولوجِ السعادةِ، ولأن وظيفته قائمة أصلاً على حجبها ولكي تظلي هديتك هدية لم تصل إطلاقاً، ولكِ أظل أذكر طعم الحرمان من طعم كعككِ الشهي. وصلت هديتك يا أم ديمه ووصلت الرسالة الكامنة من ورائها، وكان حظر دخولها قد سمح لتسلل معناها إلى القلب وكانت نكهة الحرمان منها أشهى منه. كانت لمسة طيبة منكِ تنمُ عن أصالة ولياقة وذوق رفيع، وكانت سلة الكعك رسالة احتجاج وتظاهرة على بوابة السجن أربكت السجان أكثر مما تربكه المدافع العربية، احتاج إلى أن يلجأ إلى مستشاره القضائي كي يمده بفتوى تسمح بدخول الفرح. سلمت يداكِ يا أم ديمة كانت نكهة وطعم المعنى الكامن من وراء فكرة الكعك شهياً حتى الامتلاء، شهياً حتى الشبع. ولم يتسنَ لي الوقت كي أقول لكِ إن حاسة السمع وأنا أصغي إليكِ قد اختصرت كل الحواجز فكان صوتك بتلقائيته وصفائه يشبه رائحة الياسمين وارتعاشة أغصانه مع نسائم ليلية في ضوء القمر. شكراً لكِ وسلمت يداكِ وكل عام وأنتِ وحسن والعائلة وعموم شعبنا بألف خير.
كميل أبو حنيش
المصدر: الميادين نت
(الأسير في معتقل "رامون" كميل أبو حنيش حصل قبل مدة قصيرة على درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية وهو في الأسر، وقد أصدر أربع روايات هي الكبسولة ووجع بلا قرار وبشائر وخبر عاجل، ويعمل على إصدار رواية خامسة قريباً.)