ديوان الغائبين نجاح سراج داود - العراق - 1962 - 1986

نجاح سراج داود
ولد في بغداد عام 1962م وتوفي مغيبا ومعدوما عام 1986م عن عمر لم يتجاوز 23 ربيعا، حيث اختفت اخباره بعد اعتقاله مباشرة، ولم يسلم جثمانه إلى ذويه.
أكمل الابتدائية في مدرسة التحرير والمتوسطة في الطليعة والإعدادية في ثانوية الجمهورية في مدينة المشتل.
درس الاقتصاد في كلية الإدارة والاقتصاد في بغداد ولم يكملها بسبب اعتقاله في الجامعة من قبل امن الكرخ حيث تعرض من قبل جلادي السلطة القمعية الى أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والتي انتهت به إلى قبر مجهول.
كان كثير القراءة، وسريع البديهية. فثقافته الموسوعية وقراءاته الفكرية والاقتصادية والسياسية واحاطته المعرفية بالثورات العالمية ورجالاتها، إضافة الى شاعريته وقلمه السردي أهلته أن يبني علاقات متشعبة وهادفة مع الكثير من الطلبة والتي امتدت الى الأقسام الأخرى رغم انه لم يشارك في المهرجانات الثقافية والأدبية لوزارة الثقافة والاعلام الموجهة، ولم يصعد منصات السلطة ويقف خلف ميكروفونات مدحها الذي لم يسلم منه إلا القلة.
كتب الشعر والقصة في مرحلة الإعدادية وتبلورت كتابته النقدية والسردية واخذ أسلوبه ينفرد عن سواه في مرحلة الكلية، ولم ينشر في صحافة السلطة لرؤيته المناهضة للدكتاتورية ومغامراتها العبثية في الحرب خارج وداخل البلد، والتي اعتقلت العشرات من أصدقائه في حملة ظالمة منتصف الثمانينيات وغيبت أجسادهم في مقابر سرية. كان حذرا وهو يعبر عن رؤيته المستقلة في تقييم السلطة ومثقفيها وأدوات قمعها الفكرية والثقافية وسط حركة مرعبة من التقارير الحزبية للاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي تحول إلى منظومة أمنية تنشط بمراقبة الطلاب المستقلين والتحرك لكسبهم أو وضعهم في دائرة الشبهات أو تغيبهم.
ترك كتاباته كمخطوطات مكتوبة بقلم الرصاص بين أوراقه الدراسية وبين رفوف مكتبته، وقد قام شقيقه بجمعها بانتظار نشرها في كتاب.


" المخلب"
..................................
بين مكانين ؛ مكان خرج منه ومكان بانتظاره ، كان ليل المدينة مخنوقا بالأنفاس ومتسربلا بوشاح العزاء، وبدا له في النقطة الخفية في تصوره لون مدينته كسرادق داكنة ، يزدحم بها المعزون وهم يجلسون ويتحاورون كالنمل الأسود ، وأخذته موجة غامضة إلى إحدى السرادق، لم تكن في داخله إضاءة سوى عيون فسفورية تنزّ بريقا يسيل على غشاء عينيه حتى شفتيه اليابستين وهما يمنعان حروفه من الانفلات ، لمح الحزن كغشاء اسود تثقبه هذه النقاط الفسفورية وهي تقطره على لسانه ويرشفه كمذاق القهوة المرة ، وهمس في داخله: هنا يتحول الحزن إلى لون القهوة ومذاقها.
يقف في بداية السردق ويبحث عن مكان للجلوس: الأجساد متلاصقة وهي تتقابل بخطين متوازيين على طول السردق، وبين الخطين كانت الفسحة مكتظة بكائنات صغيرة صامتة لم تشد عينيه إلى أجسادها الداكنة وهي تنعكس في عينيه المعصوبتين كتورمات على جلد الأرض، وفي نهاية السردق كشف الفحم المتوهج جسد رجل محدودب يبرك حول الدلال يلتقط فنجانا ودلة، ثم يمشي بصعوبة نحوه وهو يقفز على الأورام بحركة واثقة. كانت قهوته التي قدمها إليه تفوح منها رائحة شبيهة بتلك الرائحة التي غمرته في يوم لا يتذكره، أيوم الروح هو أم الجسد؟ وفي صباه رأت عيناه هذا الشخص مرة واحدة، وهذه المرة رآه خلف العصابة كشبح يتوالد وينشطر متوزعا على السرادق المبثوثة على وجه المدينة الشاحب، وخلف تصوراته والعصابة كانت بيوت المدينة تختفي تحت سردق كبير يدير قهوته هذا المحدودب ، وتمتلئ ساحتها وشوارعها بتلك الكائنات الغامضة ، ورأى كيف كانت تلك الكائنات تنصب مغزلا كبيرا على حدود المدينة ، وتدق أوتاده على الأرض بمطارق عملاقة ، ثم تجلب حبالا وبكرات خيطية كبيرة تمدها فوق المدينة التي سوف تبدو كسمكة تحت شبكة من تلك الخيوط ، وبعملها ليلا ونهارا تحيل تلك الخيوط إلى سردق كبير يطغي على تواريخ المدينة متحولا إلى ممحاة تمحو كل شيء ، باستثناء البيوت الواقفة كتماثيل أو نابتة كمسامير على خشبة القدر. وبعيدا عن مركز السردق ، في النقطة القريبة من المحدودب ، انكشفت الرؤيا له وهو ينظر في نهاية الفراغ الممتد حتى واجهة المدينة التي تقطع الأفق كجدار أزلي ؛ كان صامتا تترشح من سكونه رؤيتان ، رؤيا فائتة ورؤيا قادمة , كشفتا له بيوت المدينة وهي مفتوحة الأبواب ، عارية من النوافذ , أمام كل بيت مجموعة من تلك الكائنات تحوك بمغازل يدوية سردقا داكنا وهي تراقب النزل، لكل بيت سردق، وبتكاثر الناس في البيوت تتكاثر المغازل والكائنات الصغيرة، وبمرور الوقت والعمل أصبح لكل فرد سردق.
سلم على الحاضرين ولمرات عدة، لكنه لم يسمع ردا. كان الهمس يتشابك مع الصوت مولدا ضوضاء بين المعزين والكائنات الصغيرة، وحين دقق النظر، كانت الضوضاء تذوب في بريق العيون، عندها خمن ان وشوشتهم تخرج من عيونهم وان أفواههم مغلقة بخيوط الظلام وقد لاحوا له من خلاله كظلال جالسة رسمها المحدودب بمرارة القهوة، وخمن ان الكل يتجاهله ولا يريد التحدث إليه. كان فكاه يلوكان الكلام بحركة بطيئة، وهذا ما جعل حروفه تخرج كالزفير. اندفعت قدماه بقوة خفية تسربت إلى عظامه وقذفته داخل السردق، وحين قاوم تلك القوة، رأى مقاومته تتيه متحولة إلى خيوط ثلجية تذوب بين الدلال وملامح المحدودب وفحمه المتوهج، ودون أن يعرف كيف! بدأ ينتقل من وجه إلى وجه، وأمام كل وجه، وخلال العتمة، رأى عشرات من الأقنعة المخلبية تساقط عن الوجه وتتشكل من جديد؛ أقنعة عابسة تزيد من تصوراته المقلوبة والمعصوبة بهذا الحيز من العالم المتروك والمنسي والمتكور كالأجنة في ورم الأرض، ولم يستطع أن يقع على أي وجه أصلي ويفرزه من بين الأقنعة. كانت الوجوه والأقنعة والفضاء تنعكس على عينيه بلون واحد، لون يرشح من عينيه المنطفئتين خلف العصابة مذاقا مرا، لون يكتنز سجلات وأضابير ومسودات تحملها الأصابع المغزلية للكائنات الصغيرة والتي أخذت أجسادها تتضاءل وتنمط ثم تعيد أحجامها بحركات انسيابية تأخذ لحظة الرؤيا منه في مسار تصوري لم تخطه ذاكرته من قبل. أهو مسار سري يربطه بعالم ليس عالمه؟ نبش الذكرى علها تأخذه لوجه أو قناع أو كائن مر به مسبقا، لكنه اصطدم بآلاف الأبواب المغلقة والنوافذ الإسمنتية المثقبة بالرسوم وتسمرت قدماه في نقطة واحدة رغم انه يهرول باتجاه ثقوب النافذة الكاذبة، حتى وقع على الكائنات الصغيرة في وسط السردق. كانت برودة هذه الكائنات تنسل من بداية أصابعه خلال وخزات ابرية محيلة إياها إلى أنابيب ثلج، ونظر إلى المحدودب بتوسل الذي كان منكفئا على القهوة، وتمنى لو تتحول قدماه إلى عودي ثقاب يأخذهما المحدودب ويضعهما بدل الدلال، وأخذته موجة خفية للوجوه عله يجد يدا تعينه، وتاهت نظراته المصحوبة بقشعريرة جسده بين مسامات الأقنعة وتقوس ظهر المحدودب وبين لزوجة تلك الكائنات الصغيرة، وانكفأ إلى داخله، فرأى تلك الكائنات تبحث في أعماقه عن شيء، شيء يجهله تماما ... كانت تنسل في كريات دمه كالإبر، تخيط فتحات هواجسه المنشرخة وتمنع الرؤيا من الانفلات منها، وأجبرتها أن تأخذ حيز عالمها الداكن وهي تلف ذراتها بخيوط تشابه خيوط السردق الكبير، لكنها كانت خيوط نحيلة، وهذا ما جعله يفقد عالمه وهو ينظر من عدسة هذه الكائنات خلال طبقات من اليقظة المخدرة إلى البقعة التي ولد فيها وترعرع؛ كانت تلك الكائنات تجلس في المقاهي والدوائر والأبنية المغلقة عارضة فوق الطاولات الخشبية والأفرشة عملها اليومي، وتبقى إلى ساعات متأخرة تراجع سجلات المدينة:
يقتعدون بقع الحشائش المقذوفة من فرشة فنان سريالي في الميدان العام، وسط مختلف الأعمار والأفكار والرؤى. كانت أعينهم تدور ككرات بلاستيكية معلقة بخيوط وهمية على جباههم المعروقة، تتفحص حول المسار الدائري للميدان هواجس المدينة في المقاهي الضاجة بالأحاديث المنحنية نحو الأفخاذ والبطون وسط عياط يذوب في ضباب دخاني للسكائر وأبخرة الشاي السائلة من الأفواه الدبقة. إنهم يراقبون الجميع ويسجلون ملاحظاتهم، وبعد منتصف الليل يدخلون المقاهي المقفلة ويبدؤون جلساتهم. ولأنهم كانوا متأكدين وفق معلوماتهم أن هذه المدينة تتدحرج بسرعة إلى أحضانهم المظلمة، كانت جلساتهم تطول وتتكرر يوميا، وفي سجلاتهم لم يستثنوا أيا من الأعمار، لأنهم رأوا المدينة واقفة على رجل واحدة، رجل منحوتة في قالب من الخوف والدمع، ولأن السنين تتراكض كريح وتبين بعد عقود كالوهم، وقفوا مواجهة تنفيذ مهامهم الشاقة بصبر. كانت المدينة تسقط كنقطة من الدمع نحو أفواه رملية تشتعل بالنار، وفي سقوطها المستمر تواجهها ريح داكنة تجعلها في وضع مرتج وقلق بين جاذبيتين متعادلتين تشعان بشهوة الجوع، ولأنّ حركتها المتدلية تستغرق حسب إحصاءاتهم عقودا من الزمن، ينكسر العالم الداخلي لهذه النقطة متشظيا وفالتا من عقال استقراره المتوتر نحو مسامات الجاذبية الرملية الفاغرة الأفواه ؛ الأفواه الشاخصة كتماثيل لحمية قابضة على بوابات ممرات الرحيل، ولأن العمل المنتظر لتجميع أعماق المدينة المتشظية والراكزة على هاوية سحيقة يتطلب جهودا هائلة، دفع إلى استدعائهم أعدادا جديدة من سراياهم وكتائبهم وبدأوا منتشرين في نهايات الشوارع وأمام الأبنية، متعسكرين في الأماكن المضيئة والمظلمة، ولأن المخالب أحكمت سيطرتها على رأس المدينة وتسربت بين مسامات شعر الرأس ثم نفذت إلى أفكاره، وحين وجدتها خاملة ومريضة شرعت تشعل شعر الرأس بالشيخوخة، ثم تسربت عبر شرايين وأوردة المدينة إلى البيوت وغرف النوم والحكايات والأسرار، وصدأت أفكارها بطبقات من الرخام والطين والخوف، بدأوا بعد اكمال السجلات ببناء سردق كبير، سيضم جميع المعزين المزيفين . فكر أن يدقق تلك السجلات الكائنة في ارشيفات الكائنات الصغيرة، ولأن رؤيته كانت تخرج من هذه الكائنات، بدأت تنكشف له أوراق السجل الأول التي توشك أن تتهرأ بصفرتها الداكنة، وبدا شحوب كائن صغير يجره إلى باطنها، ووجدها كلها دونت بقلمه؛ رغم أن المدينة كانت ترسو على بحيرة النفط وتنام على بساط الفقر، ولم يطل الموت شبانها، لذا كان عمل هذا الكائن يقتصر على زيارة الشيوخ والمرضى وبعض الحالات العارضة لأشخاص غرقوا أو دهسوا تحت عجلات السيارات. وفي بحثه المستمر وهو يجوب المدينة بعينيه الجاحظتين، رأى في أحد أطرافها مخلبا نابتا في بركة آسنة، اقترب منه متفحصا لونه وتقوسه: مخلب صغير بحجم المحدودب، تعكس إضاءة الشمس سائلا اصفر يسيل من رأسه المدبب حتى قاعدته الغاطسة في المستنقع. فتح سجلا جديدا وجلس يراقب هذا المخلب بدقة، ودوّن أول ملاحظاته: ان طول المخلب وحجمه يختفيان في تلك البركة الطينية، وان العفونة ستدفعه إلى الأعلى في اللحظة الموبوءة، وان الذين يمرون بجانبه، كانوا يرونه نابتا على ارض متحركة، يعكسه النهار على عيونهم كسيف من التبر، وهذا ما حدا بالمنحرفين والمنبوذين بالاقتراب منه. كانت الأيدي تلمسه بالهواجس المترددة، وتكسوه بالنظرات الراكزة في بؤر الخيانات المتحفزة، وتشمه قيعان الأنفس السبخة، وهو يضاجع الهواء النقي للمدينة برأسه المدبب. وتحت سيل جارف من الإشاعات لذاكرة الجهل نحو المخلب، وانتشار الحكايات بأن العجائز تناقلنه عبر الأجيال في المساءات الدبقة، وان ظهوره سيجعل المدينة تأخذ لون التبر؛ لونه وبريقه، وتقفز على فقرها، لذا قرروا أن يسوروه ويحرسوه. كان الكائن الصغير يرى كيف تتحول الوجوه وهي تلامس المخلب بنظراتها إلى أشكال عنكبوتية تخيط في لحظات التوسل والتقرب إليه طبقات من الأقنعة الداكنة، وعلى الثلث الفوقي لكل قناع ترسم مخلبا اصفر، وهي توزعها على الوجوه الأخرى الساكنة في البيوت، وكيف اخذ تأثيره يطول الكلمات ويمنحها هلوسة تعري الأحاديث والحوارات عن ثيابها... وإن الوجوه التي انشطرت بسرعة في النقاط الأكثر قدسية في الروح والجسد إلى تلك الأقنعة راحت تدهن المخلب بدموعها وتغسله بدمائها، وهي تتجمع حوله بدوائر متراصة , لتمنحه النقطة الأكثر قوة ؛ نقطة المركز ... وحتى ساعات خارج زمن هذه الوجوه، وفوق الحبل الذي يربط زمن المدينة بأمكنتها، بدأت تلك الوجوه باستخراجه من الأرض، وهي تمنحه أخاديدها وتقوس أفواهها المحدبة في الحزن والمقعرة في الضحك. كانت قاعدة المخلب تتوسع في العمق كلما زاد الحفر من حولها، حتى وصلت وسائلها الأصفر الفاقع إلى الأماكن الأكثر سرية في المدينة. وحسب سجل هذا الكائن الصغير، ظلت تلك الوجوه ترفع المخلب وتنقله ببطيء حتى وضعته في قلب المدينة. كان عملاقا مقوسا تلتف حوله الوجوه الداكنة في المدينة الداكنة التي تحول يومها إلى ليل بلون قهوة المحدودب. وقد دون هذا الكائن الصغير ؛ يتقرب الوجه من المخلب, بحركات توسلية مذعنة وهواجس مترنحة في الخوف، ويمنحه وجوده، وفي الليالي الأكثر دكنة يأخذ منه سائلا اصفر ويخفيه، وحين يجد من يرفض شكل المخلب وبريقه في المدينة ، يقوم الوجه بتقديمه إليه بطريقة مواربة لم تمهله ساعة حتى يتحول إلى خشبة يابسة، عندها سيمنح المخلب قناعا للوجه، لكل مهمة قناع , وبتكرارها سيختفي الوجه بين الأقنعة، وهذا يتطلب استدعائي لكائن أخر، وبتزايد الأقنعة نتزايد، حتى أصبحت المدينة تزدحم بالوجوه والأقنعة وبنا، وحينما فكرنا بعمل سردق كبير، كان المخلب العملاق عمودا يرفع السردق في نقطة المركز؛ النقطة المعلقة كعين نافرة من وجه المدينة وهي تختزن كل تواريخها بهذا السردق الكبير الذي سيطفئها .
ظلت تلك الكائنات تحفر في جسمه بمجساتها الثلجية وتغزل في داخله سردقا من أوردته وشرايينه وهو يلاحظها بنظراته السائلة حتى سويداء قلبه الذي تحول في تصوره إلى قطعة منخرة يصفر فيها عالم الوجوه والاقنعة. ورأى في السجلات كيف كانت الهواجس النقية للمدينة تتساقط على تقوسات ظهر المحدودب، وتُنحر بسكاكين الكلمات الصلبة، وتومض الإضاءة المخنوقة من الغرف الواطئة بتأوهات الأعمار المحنطة في توابيت الزمن الساكن، ويتوالد صرير الأقفال في فضاء الأصوات الغاصة بالأمل والمنقوعة بآلام الجروح المنسكبة فوق بلاط الأفكار الهائجة والمنشغلة برحلة الأرواح وتجثيثها في توابيت الصمت، وخلف العصابة تهاوت زقورات الحنين، وتهدمت جسور الأهل، وتوضأت النظرات بدمع المجاهيل المنتظرة، وتحولت صور الأحبة داخل حصار المدينة إلى لوحات تجريدية، يثقبها الجوع بالمصائر المعلقة والمترنحة في الفضاءات المضغوطة بأكف الحفلات وجدرانها وأعراس المخالب ورائحة جيفها وقاذورات سائلها الأصفر، واختفت النوافذ وانطفأت الورود، وتكسرت سيقان الأجساد وتساقطت رؤوسها وغزت ثمارها ديدان الوجوه القاضمة الأمل بالرؤوس المدببة للمخالب وهي تقطر آخر نبضات المقذوفين في جبّ بلا قميص أو خيط يحيك أمل العودة . وعندما تتحول المدينة إلى كابوس يمد آلاف الرؤوس المخلبية إلى كريات الأوردة والأعمار والهواجس والالتفاتات والكلمات , سيشعر أن المكان الآخر خلاص لابد أن يمنحه اسما ورسما ومعنى ويحوله من كونه تحول بين مكانين إلى تحول بين ولادتين ؛ بين ولادة قطع هذا الكابوس حبلها السري وحوله إلى انشوطة تتحرك فوقه وترفع رأسه الموشوم منذ ولادته بحتمية الفصل عن جسده حسب التاريخ المدون في سجل الكابوس عند الولادة ، وبين ولادة لعالم جاءه متأخرا بعمر وخرائب وجدران مدنه النفسية المهدمة، ولهذا سيواجه ذاكرة كابوسية تطارده في نومه وخيالاته وتخدعه بالحنين والعودة المستحيلة , العودة إلى بطن الكابوس ومنحه رقبته حبا للانتماء الكاذب . ورأى كيف تطارد الأقنعة الوجوه الرافضة بالسائل الأصفر للمخلب، وكيف تضيق مساحة وجودها حتى توصلها إلى نقطة في قبر. وبعيدا عن آلامه الناخرة مسامات عظامه وهو ينظر في السجلات كان يحلم بمدينته وهي خالية من تلك الأقنعة المخلبية؛ مدينة ترفضهم من رحمها وهم ينشطبون جماعات وفرادى ويختفون. وفي بعض تقاويم المدينة الغارقة في تلك السجلات يرى موجات من تلك الأقنعة وهي تقود الوجوه غير المدنسة إلى خارج حدود المدينة لنقل السائل الأصفر إلى المدن الأخرى، لأنه حسب السجلات عم ولم يستثن أحدا، وان تدفقه المستمر من المخلب جعل الأقنعة تبني له سدودا لتغذية الولادات الجديدة، وحين أوشكت تلك السدود أن تفيض، قرروا أن ينقلوه خارج الحدود. كانت المساعدات تمتد من النقاط القصية في العالم المخلبي كشبكة من الشرايين الدموية وتمر خلال الأجساد العطنة دون عوائق حتى تلتحم بالمخلب الذي انتفخ باطنه وامتدت قامته المنحنية وهو يرش محيطه بسائله المتدفق بغزارة على حزم الوجوه والأقنعة وهي تبين في محيطه كالأقزام. وهذا ما جعل الكائنات الصغيرة تستدعي كتائبها بشكل متسارع؛ كتائب ذات عضلات صلبة، ظلت في حركاتها الصاعدة والنازلة تحمل أرواح الوجوه غير المدنسة التي توزعت أجسادها مقطعة في العراء خارج حدود المدينة والمنافي ... وتعفنت في القاعات الرطبة والغرف القملية، وتكدست جامدة في الحفر المجهولة، وفي داخله تكدست سجلات تلك الكائنات التي سبحت في محيط قلبه، وهو يراها كيف تحاول فصل روحه عن جسده، وفوق حركاتها كانت كرتا عينيه تتدليان كرأسين معلقين، وبحركتيهما المتوترة وقعتا على غلاف إحدى السجلات وقرأتا على صفرته المتهرئة تاريخ ميلاده ووفاته، وبين التاريخين انكشفت لهما أوراق السجل، وحين همتا لقراءة الأسطر الباهتة تفاجأتا باختفائها، ليندلق منها كائن صغير، اخذ ينتقل من كلمة مختفية إلى أخرى، كان صوته مشوشا يخرج من تلك الكلمات ممتزجا بأنين يخرج من الأعماق مصطدما بالسردق الذي حاكته الكائنات الصغيرة فـي داخله . لم تكن هناك أقنعة أو وجوه في داخل السردق سوى تلك الكائنات الصغيرة وهي تصطف بخطين متوازيين ومتقابلين على طوله، ومن الطرف الآخر له، تحرك المحدودب وهو يحمل فنجانا ودلة إليه، ولأول مرة يحتسي القهوة وهو ينتقل إلى المكان الذي كان داكنا بلونها.


******


"متى تستريح"

متى تســــتريح وتلقى مـــــــناكا
وســـير السنين يلفُّ خطــاكــا
وكيـــف تزول همومــــك يوما
وأنت أســيرٌ بحــزنٍ حـــــواكــا
وأيـــن تفــرُّ إذا مـــا تســـــارع
خطب المنــــون وشــــاء لقاكـا
وأنى تنــــالُ بها مـــــا تريــــــد
وهذي القيودُ تشـــلّ يـــــداكـــا
أأنت الذي قد دعـــوت شـقـــاك
لهــــا أم تــــراه لــــه قد دعاكـا؟
فما أنت إلا وميـــضٌ بنــــــأي
إذا مــــا برقتَ تلاشــــى سراكـا
فكم من همـــومٍ أدرت رحـــاها
فجاءت بليــــل أدار رحــــــاكـا
وكم مــــرة كنت تطلب عيشــــا
بدا من خيال فكــــان شــــراكـا
وكم مــــرة قد رسـمت الجمــال
فســـــاد الظلام وغطى رؤاكــا
وكم مـرة قد ركبت أمـــــــــاني
المحـــال ولكـــن هويت دراكـا
فهـل أنت إلا بقايـــــا حنيـــــــنٍ
يغوصُ بحلمٍ مضى في صداكا
وهــــــل أنت إلا تمنٍّ ووهـــــم
تناءى بســـرّ اغتـــراب رداكـا
فيا قلب صبـــــرا فإني وجــدت
الحياة ســــــرابا تلاشــى هناكـا
وإني وجدت شبــــابي رهيــــن
القيــود وعيشـــــي ســقيم بذاكا
وأقسى صنوف العذاب اغترابٌ
يعيش بروحك يطـــوي مـــداكا
وأنك ترجو الصديــــــــــق فلا
تلتقيــــه فيطمع فيك عـــــــداكا
فمهــــــلا فإني سأحمـلُ روحي
على غربتي لأســــــير خطـاكا
فلستُ أبالي بســــقم الهمــــــوم
ولســت أبالي بظلــــم طـــواكا
فمن سار في حالكات الخطوب
لقصـــــد أذلّ الظلام عــــراكا
ومن قال لا للخنــــــوع تسامى
لبـــذل الحيــــاة وموت دعاكـا
فيا قلب صبرا إذا ما ركبـــــتً
الخطوب فخيرُ المنى ما شفاكـا


منقول عن مجموعة (أدباء عراقيون راحلون)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...