باسم أحمد القاسم - "احتضارُ الفرَس".. محنةُ الصفحِ والماضي الذي لا يمضي

الحكّام قد يقرؤون ولكنّ الأهمّ هو أن يُقرأ عليهم ، القتلة قد يقرؤون ولكنّ الأهمّ هو أن نقرأ عنهم ، والمحكومون وإلى جانبهمُ الضحايا قد يقرؤون ولكنّ الأهمّ هو أن نقرأ فيهم ،إنّ روايةً تدفعنا قراءتها للخروج بهذه الخلاصة السالفة ، حتماً ستستفزّ في العقل الناقد إمعان التأمّل والتساؤلعن السياق السببي المضمر الذي اعتمل في وجدان مؤلّفها خصوصاً وهو ينقّب روائيّاً وللمرّة الثالثة في تلافيف أحداثِ عشريّة سوداء عبرت بلادَهُ ، حكّاماً ومحكومين ، قتلةٌ وضحايا !
ونحن نطلّ عبر هذه التوطئة من شرفة النقد الثقافي على رواية " احتضار الفرس"الاصدار الروائيّ الجديد 2022، للكاتب والروائيّ السوريّ خليل صويلح ،وبالنظر إلى العتبة / العنوان والغلاف الذي يوحي بوضوح إلى عتبة نصيّة منوطة بالحرب السوريّة ،يمكننا القول بأنّهذا الاصدار يأتي كتناسلٍ للحكاية ، حكايةابتدأها صويلح في روايته " اختبار الندم "2017 ، وتابعها مع " عزلة الحلزون " اصداره الروائي الأخير 2019، ومع هذا الاصدار الجديد الذي يمكن أن نعتبره ثالثة الأثافيّ تحت قِدْر الكارثة السوريّة ، سنحاول أن نتداول تلك المُكنة الفنيّة والسرديّة التي من خلالها يعرض المؤلّف مارآهمُهمّاًويمكن أن يقدّمه كجديدٍ يبقينا على قيد الوعي بأنّه ثمة ما تبقى من مُمكنٍ وجوديّ ضروريّ لننجزه , و نحاول أن نقارب السياق السببيمع تلك الضرورة المصيريّة
سؤال المستحيل :
في فنّ تناسل الحكاية يبرز اعتبارٌ تقنيّ مهمّ كتحدٍّلحيويّة مخيال الروائي فضلاً عن قدراتهالسرديّة المخضرمة ، وهكذا تقدّم "احتضار الفرس" عرضاً روائيّاً يرتفع أعلى بكثير فوق مستوى ذلك الاعتبار ،إنّه اعتبارٌ منوط بتوليد جوٍّ من التعالق بين الرواية والقارئ عبر مايمارسه السارد من تقانة سرديّة متناغمة مع الاستعداد النفسي لدى المتلقّي ليدخل في شراكة مع الكاتب لمناقشة مصير أبطال الحكاية ويحقّق ذلك درجة الشغف الأسلوبي المتأجّج لدى الروائيّ لحظة الكتابة ليضع جمهورَه القارئ عند حافة القلق الوجوديّالذي يتسبب به سؤالٌ رهيبٌ في نهاية الحكاية،سؤالٌ يقول : وماذا بعد ؟
يؤسّس خليل صويلح لهذا التعالق وهو يدرك بأنّ الاجابة عن هذا السؤالهيالأكثر تسبّباً للقلق والحيرة والغموضعلى امتداد جغرافية الآلام السورية ، إنّها الاجابةعن سؤال المستحيلِ السوريّ " وماذا بعد ؟ " ...
هكذا يفتتحالمؤلّفُ الفصلَ الأوّل من روايته بالقصّ الفنّي البارع عن ذلك الوالد الذي وصل إليه جثمان ولده القتيل على إحدى جبهات الحرب السوريّة ليتفاجئ عند فتح التابوت سرّاً بعد أن رحل الضبّاط الذي شدّدوا على عدم فتح التابوت وبأن يدفن بتكتّمٍ وعلى عجل ، ليجدَ فيه جثةٌ بلارأس ،الذراع اليمنى مبتورة من الكتف ،و ثمّة ذراعٌ مبتورة موضوعة في التابوت ولكنّها لجهة واحدة (اليسرى) من الجسد ! ويتوالى إشباع هذه القصّة بمخيال كابوسيّ مع الأبّ الحائرالباحث عمّا يعزّيه أمام الملأ في حيثيّات هذه الفاجعة ((لم يعترف مرّة واحدة بحقيقة الجثةالمشوّهة التي استلمها في تلك الظهيرة المشؤومة، بالرغم من أنّه فكّرفي ساعات عزلته الطويلة تحت شجرة الزيتون التي احتضنت قبر ابنهبإجراء مبادلات سريّة مع أهالي آخرين للأعضاء الفائضةوترميم أسباب النقص لجثة أخرى، على أمل أن يعترف أحدهم بأنّه استلم جثمانًابرأسين أو بذراعٍ يمنى وصلته عن طريق الخطأ))
ثمّ يبلغ هذا المخيال ذروتهالقصصيّة حين يقرّر أنّ القتيل وفي إحدى زياراته لأبيه في المنام يبوح له بسرّ سلمى تلك الفتاة التي أقام معها علاقة جنسيّة قبل أن يلتحق بكتيبته ، هذا المنام الذي يدفع الأبّ في اليقظة ليرابط عند الأمكنة التي قد تمرّ بهاالفتاة ليتأكّد بعينيه هل حقّاً انتفخت بطن سلمى من الحبل !
هذا القصّ المحبوك في حكايةٍ تضعُما لايتوقّع في تطابق مع الواقع وتضع المنامات في درجة يقينية واحدة مع اليقظة وتضع كليهما في أتون هستيريا البحث عن الحلول ، يشكّل الانطلاقة لتتناسل الحكاية على طول الخطّ الزمني للرواية وبعد أن نجح السارد في صياغة طُعمٍتراجيديّ للقارئ ، هاهو يقطع عليه استغراقَه وبنقلة متقنة حين يقول : " ستطاردني وقائع هذه القصة التي وصلتني في البريد منذ أشهر،كما لو أنّها حدثت فعلًا، وسأشتبك مع شخوصها بأقصى حالات الألم،فوليمة الموت المتنقّلة لم تتوقّف يومًا عن تسديد الطعنات للجميع" ، إنّ هذه الافتتاحيّة تشيّد مع مايليها من الرواية جسراً يعبره المتلقّي باتجاه المتن الحكائي ببوصلة التعالق العاطفيّ ، وبحرفيّة فنيّة مخضرمة ولغةٍ تُمسك بزمام المبادرة السرديّة يفتتح بها المؤلّفهوامش واسعة الطيف للسياق السببيّ المضمر الذي يعتمل في وجدانه، ثمّيشرع ومباشرةً في نفس الفصل ببث الموجات الأولى من المتن الحكائي " أمس فقط ماتت أمي، ولم أتمكّن من حضور جنازتها، لبعد المسافة ووحشة الطريق، وكان عليّ أن أتدبّر وسيلةً لزيارة قبرها على بعد ألف كيلو متر من هنا "
فكرة الموت :
منذ الصعود على متن طائرة اليوشن العسكريّة التي ستقلّه إلى قريته الشمسانيّة في الريف الشمالي الشرقي السوريّ يتزايد عند السارد وباضطراد نزوعٌ قصصي قصير داخل الرواية ليبلغ ذروته القصوى أثناء مجريات رحلة العودة إلى دمشق ، وهذه المرحلة من الرواية والتي اشتملت على تسعة فصول تلوّنت فيها أجواء القصّ عبرَ شخصيّاتٍ عابرة في الرواية متعدّدة السيَر والاعتبارات الاجتماعيّة كضحايا أو ضحايا مؤجّلين ، وأيضاً عبرمعلومات صحفيّة وإعلاميّة يقدّمها السارد عن مدنٍ ومناطق بأحداثها المهولة ، هذه الأجواء يقوم السارد بتوليف معطياتها الصحفيّة والاعلاميّة مع الانعكاسات الذاتية للمؤلّف كعرضٍ أنيقٍ لـ " ماوراء القصّ "عبر جغرافيا محطّاتٍوضع لها مخطّطاً مشهديّاً نفّذته بسلاسة تواصليّة مع القارئ لغةُ السارد وهي مفعمة بطاقة تعبيريّة تراجيديّةتقترب في عدة مواضع من تخوم الشعريّة ((كنت أفكّر بظلال الأمّهات في الأسرّة الفارغة، بكبسولة الدواء تحتالمخدّة، ببقعة عصير ليمون جافة فوق الشرشف، بكيس النشوق،بعكاز معلّق على قضبان السرير، بسجّادة صلاة عتيقة، بسبحة العقيقمن الأماكن المقدّسة، برائحة رطوبة وهواء مخنوق وفقدان.)).
في هذه الفصول التسعة من الرواية يقدّم خليل صويلح توطئةً سرديّة متقنةً عن فكرة الموت فهو ينجو بـ الحكي من طورالتسجيليّة عنأرشيف عشريّة سوداء إلى طور الملحميّة السرديّة التي تستفزّ القارئ وتوقظ وعيهُ بأنّه يواجه ماضياًمن فداحة الموتعصيّاً على التقادم ، صحيحٌ أنّه ماضٍ طازجُ العبور بنا، ولكنّه ليس أيّ ماضٍ ، إنّه الماضي الذي لايمضي ، وبهذه التوطئة لايريد له خليل صويلح أن يمضي فلابدّ لنا أن نبقى قيدَ البحث عن إجابات ، هناك تحريضٌ إشاريّ وغير مباشر تنجزه هذه التوطئة ليسأل أحدنا باللاشعور : أيّ صفح يمكن أن نحاولهمع كلّ هذا القتل والاحتضار !ولأجل أن يكون هذا التحريض فعّالاً اتسمت ذاتيّة السارد بالنزاهة وعدم اصطفافها أو انحيازهاالايديولوجي أمام الأحدث وكذلك مخيالَهُ الحدَثيّ كان منضبطاًبإيقاعٍ واقعيّ ، ضمن هذا التوجّه في السرد تبرز تقنيّة وظّفها الساردلتحمل على عاتقها مهمّتان : الأولى تعويم فكرة الموت على سطح الذاكرة التي تطمح للتقادم والنسيان ، والثانية توضيب قائمة القلق على رفوف الذاكرة ،الأدبيّة منها والسيَريّة الذاتيّة ، فقد افتتح المؤلّف الباب واسعاً أمام المتعاليات النصّية المتعدّدة transtextualité وهي تقنيّة تعتني بكل ما يجعل نصّاً يتعالق مع نصوص أخرى، بطريقة مباشرة أو ضمنية ، فهاهو الشاعر الكردي حامد بدرخان بحذائه الممزق، ووجهه المتعب، يهتف : " الزيتون يركض حافياً " ، وقد سبقته لوحات فاتح المدرس التي احتضنت هذه الأشجار عندما حملها من قريته كفر جنة في جبال عفرين إلى مرسمه في دمشقألم يقل في احدى قصصه منذ سنوات بعيدة، قبل مجيء البرابرة بأعوام " مرّ هولاكو من هنا، تبسّم ثم ّ ولى الأدبار"؟، ثمّ يُستدعى الشاعر رياض الصالح حسين ابن مدينة منبج ليهتف بصوته المبحوح وأوراقه المبعثرة : " يا سورية الجميلة السعيدة، كمدفأة في كانون/ يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب/ يا ّ سورية القاسية/ كمشرط في يد جرّاح/ نحن أبناؤك الطيبون الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبدا سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنشق أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سورية " ،ولن ينتهي الأمر قبل أن يتم استدعاء جداريّة محمودرويش " يا موت، يا ظلّي الذي سيقودني، يا ثالث الاثنين، يا لون التردد في الزمرّد والزبرجد. اجلس على الكرسي! ضع أدوات صيدك تحت نافذتي " ، إلّا أنّ المهيمن بحضوره هو ذلك التعالق الذي يعيشه السارد مع " خوان رولفو " الروائي المكسيكي وروايته " بيدرو بارامو " التي يعود فيها إلى قريته "كومالا" تنفيذاً لوصية أمه بضرورة أن يسأل عن أبيه الذي لا يعرفه بمجرد موتها، ليكتشف بأنه يجول في قرية أشباح ، وهذا التعالق يفردُ نتاجه السردي طوال فترة العودة إلى دمشق ، حيث يتموضع خليل صويلح داخل رواية "خوان رولفو " كاستدعاء تهكُّمي ساخر يقارب به فكرة الموت مع سائر مجريات الرحلة ويعطي الفكرة عموميّتها الفادحة :" كان خوان رولفو مسترخيًا في المقعد المجاور، كمن ينصت إلى أفكاري المشوّشة. قلتُ له لم يعدِ الموت ببسالة متاحاً لأحد، وليس لديّ رفاهية عباراتٍ كتلك التي استعملتها في روايتك " بيدرو بارامو " من طراز ( لقد أحبّها لدرجة أنه أمضى بقية سنوات حياته منهارًا على كرسي من الخيزران، ناظرًا إلى الطريق الذي حملوا سوزانيتا منه إلى المقبرة) أضفتُ بمرارة: الموتى الذين أعرفهم يا سيد خوان، دُفنوا على عجل في حديقة المنزل أو في حفرة قبر جماعيّ ...

القوس المفتوح :
بانتهاءرحلة العودة ، ومع الانغماس باليومي المعيش في العاصمةثمّة مشهديّاتٌ ينحتها السرد الوصفي بإزميل لغةٍ تجنح إلى الاستدلال الجنائزيّ بمايكتنف معالم دمشقيّة بارزة وروّادها وقاطنيها من مآلاتٍ سوداويّة على سبيل الاحتضار ، هذه اللغة وفي هذه المرحلة من الرواية تقدّم عرضاً تواصليّاً مع القارئ يأخذ بعين الاعتبار وبعناية واضحةخصوصيّةَ وحيثيات الساردكونه محرّراً صحفيّاً وله اشتغاله المفترض في حقل الثقافة والاعلام ،وهذا مايفتح الباب واسعاً أمام الحكي ليمتزج فيه صوت خليل صويلحالذي عاش وخبر عشريّة بلاده السوداء مع صوت الساردالمنهمك فنيّاًفي توضيب مشهديّات حياتيّة للعاصمة أثناء التنقلفي مجريات الأحداث بين أمكنة لها خصوصيّـتها الدمشقيّةوكذلك التنقّل الذهني بين أمكنةٍ تبرزها إلى المشهد تداعيات تيّار الوعي في خضمّ الاسترجاعات الداخليّة والخارجيّة " مقهى الروضة ، عشوائيّات جرمانا ،آروما كافيه ، فناء الجامع الأموي ،مكتبة نوبل ، ساحة النجمة ، المرجة ، الصالحيّة ، ساحة عرنوس ، خمّارة فريدي..." أضف إلى ذلك توضيب مشهديّات عوالمه الداخليّة وعلاقاته الشخصيّة ، ذلك المزج يمنح هذه المرحلة من الرواية سمةً تأليفيّةرفيعةً بمستواها على الصعيد الفنّي ومجهودها الروائي وهي : القصّ على القصّ والحكي في الحكي والسردُ على السرد،هذه السمة اشتغلت على شخصيّات في الرواية وعلى الأمكنة والأحداث ومنها القصّ على قصّة شعراء وفنانين سوريين اختطفتهم يد الموت ،" نوح شعبان "ووفق حيثيّات هذه الشخصيّة فهي تمثّل الشاعرالراحل بندر عبد الحميد،" يوسف سرّاج " الشخصيّة التي تمثل الشاعر الراحل ابراهيم الجرادي " لستُ محظوظًا لكي أغفو على وترٍ وناي"، الشاعرة الراحلة دعد حدّاد " ثلاثةُ أطفالٍ، يحفرونَ قبري في الثلج: الوحدةُ والحزنُوالحريّة " ، المخرج المسرحي الراحل فوّاز الساجر "الذي انطفأ باكرًا مثل نيزك " ، وهناك تفعيلٌ لدراما تداخل الأحداث يتم عبر الحكي على حكاية " جابر عرابي " الفوتوغرافي صاحب استديو "ملوحي"الذي بعد موته سيَستولى على بيته ويتحوّل إلى ماخور، حكاية الشاعر رمضان الجفّال القاطن في خزان ماء ضخم ومهجور بعد أن دفن كتبه في حديقةٍ قبل أن يفرّمن الرقّة ، الفنانة التشكيليّة سلوى ابراهيم التي سيصل خبر انتحارها بعد لقاءٍ عابرٍ مع السارد ، وثمّة تخصيصٌ تأريخيّ مقصود يشتغل على إعادة تدوير الألم يلف هذه المنطقة من أرجاء الرواية عبر السرد على سرديّاتٍ ينتقيها خليل صويلح بعنايةٍ ، تتناغم مع دراماتيكيّة تتالي الأحداث ومنها : بيان حسني الزعيم إبان اوّل انقلاب عسكريّ يقوم به عام 1949 بعد الاستقلال ، سرديّة اعدام جمال باشا السفاح لشهداء الاستقلال في ساحة المرجة ، سردية أيام الطاعون الأعظم في دمشق التي وثّقها ابن بطوطة سنة 749 هـ .
واقعيّاً وكتوصيف لارتدادات القراءة التي سيعيشها القارئ مع " احتضار الفرس" فإنّنا لسنا بإزاء سوداويّة ما وجنائزيّة تلفّ هذه الأجواءوحسب ، إنّما نحن أمام بانوراما سرديّة عن فكرة الموت غرضهامنح القارئ قوساً مفتوحاً لإطلاق شحنةٍ من السخط والصراخ والاحتجاجأمام هذه الفكرة ،ولهُ أن يعزفها على نوتاتٍ متعدّدة ومتلوّنة وهو يتنقل من ساحلٍ مشهديّ واقعيٍّ إلى آخر ، يحرّضه مايمكن أن نعتبره مرافعةً وجوديّة يؤدّيها خليل صويلح في مواجهة فكرة الموت نيابةً عن إنسانيّةٍ تحتضر ناظرةً من طرفٍ خفيّ إلى الصفح المستحيل (( كان الجميع يغوصون في الرمال المتحرّكة، في محاولة لتثبيت تضاريس خرائط ما بعد زلزال العشرية السوداء التي ألقت حممها الداكنة بلا توقّف فأعمت الجميع، العشرية التي تتهيأ لاحتضان عشريةٍ أخرى، من دون محاكمة، أو ندم!))
ومما يزيد في انفتاح ذلك القوس ويجعله متاحاً لجميع الآفاق بما فيها آفاق القارئ النوعيّ وبذلك يكون عصيّاً على الاغلاق ، ثمّة اشتباكٌ ثقافيٌّ دراماتيكيّ حول فكرة الموت باعتبارها شكللاً من أشكال الوحدة والعزلة ،يختارله مزامنةً في الرواية مع دخول دمشق حظراً صحيّاً في موجة الجائحة كوفيد19 ، هو اشتباكٌ في أحداث متوهَّمة تجري بين السارد وأعلامٍ متعدّدي المشارب الثقافيّة فيه تحريضٌ للقارئ ليفكّر بإمكانية تجاوز فكرة الموت على سبيل الاستمراريّة في الحياة ((كان پيسوا قد غادر الغرفة، في أثناء ذهابي إلى المطبخ، كعادتهفي التواري، لكنني سأجد رسالةً عند عتبة الباب بتوقيع كافكا مكتوبةًبخطّ نزقٍ موجهةً إلى حبيبته فيليس باور يحذّرها من الارتباط به..... كنتُ أقلّبُ أفكار كافكا في رأسي حين قاطعني أوكتاڨيو باثقائلًا بصرامة :" نحن محكومون بالعيش في عزلة، إلّا أنّنا محكومون أيضًا بتجاوز عزلتنا واستعادة الصِلات التي كانت تربطنا بالحياة في ماضٍ فردوسيّ " كانت حيرتي تترجّح بين عزلتين: سوداوية كافكا وتفاؤل أوكتاڨيو باث))وتتسع دائرة هذا الاشتباك لتصل إلى تخوم الأمل ((كان خادم ابن رشد ينتحب بحرقة وهو يرى النيران تلتهمالمخطوطات النفيسة، فلطالما سهر الليالي برفقة سيّده وهو منهمكبتدوين أفكاره. ربّت الفيلسوف كتف تابعه قائلًا" إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أنّ بحار العالم لن تكفيك دموعًا، أما إذا كنتتبكي الكتب المحروقة، فاعلم أنّ للأفكار أجنحةً وهي تطير". ما أطفأ وهج النيران المنبعثة من مقبرة كتب ابن رشد، هطول مطرغزير، كان ينقر نافذتي بعنف )) ،ولم يكن وحده هذا الاشتباك الثقافي يصل بالقارئ إلى تخوم الأمل ، ثمّة اشتباكٌ عاطفيّ حميمي يتّخذ مساراً موازياً لهذه التخوم، الحبيبةُ التي ضلّلتها الحرب إلى حضن أحد سفّاحيها مغادرةً حياة السارد ، دلال شاكر ، المُنتظَرة ، المتوهّم عودتها بلاطائل ..
ختاماً :
خليل صويلح في هذه الرواية يضع الضحايا مع جلّاديهم وجهاً لوجه، بمخيالٍ تفصيليّ وأسلوبيّة مميّزة تُضاف إلى كاريزما قلمه ، وبأقصى حدٍّ من اتساع حدقة الرؤيا ،يعقدُ مع قرّائه شراكةً نفسيّة لنختبرَ فينا محنة الصفح .، هكذا حين يقفز أمامنا وجهُ بول ريكور وهو يدمدم قائلاً " " يقتضي الصفح أن تبقى الذاكرة يقظة ومتيقّظة ، تستحضر الماضي وتعيش الحاضر بصورة الماضي ، ولأجل الصفح لابد للذاكرة أن تعمل وتشتغل " فيحضرُ غابرييل غارسيا ماركيز موافقاً ويقول " ليست الرواية أن تكتب عن حياةٍ تعيشها بل أن تكتب عن ماعلٌّق في ذاكرتك من تلك الحياة " ، ثم يستميحهما عذراً جاك دريدا ليفسح لصوته مكاناً ويشرح ماهيّة ذلك الصفح المنشود قائلاً : " يتوجّب على الصفح أن يبقى استثنائيّاً وخارقاً للعادة، في احتكاك دائمٍ مع المستحيل ذاته "فهلثمّة سوى هاجس الصفح ، تُلبِسه الرواية وجه المستحيل ، فما الذي يتبقّى في ساعات الاحتضار إلّا طلب الصفح !
ـــــــــــــــــــــــــ

باسم أحمد القاسم
سوريّة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...