تعرض يوسف القط لمحنة هزيمة الوطن في يونيو 1967 ككل أبناء جيله، وتداخل ذلك مع محنته الشخصية حين تعرض لمرض نفسي ، حيث تزايد في داخله الإحساس بالمطاردة ، والشعور بأن هناك قوى غامضة تريد الفتك به ، و تسلط قهرها عليه ، وهو ما انعكس في أغلب نصوصه القصصية التي نشرت طيلة الستينيات ، وفترة بسيطة في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
بعدها توقف تماما عن الكتابة ، فكان يحمل حقيبته السوداء ويجوب المدينة ـ مدينة دمياط ـ قد يجلس لتصفح كتاب قديم يضعه بعناية في حقيبته المهترئة ، ثم يصعد لشقة في الدور الرابع ، تطل بفسحة على ازرقاق السماء ، حجرة فقيرة ، لا يوجد بها أثاث سوى سرير واحد ، والسطح الذي تتناثر في أرضيته زجاجات الكينا. لم يكن قد تزوج وبقى وحيدا ، منكسرا.
يوسف القط تميز بمتانة السرد، وسطوع الدلالة ، فأغلب نصوصه تتضمن مشاهد منتزعة من قلب الحياة غير أنها مضمخة بعذابات إنسانية لا نهائية.
في نصه القصصي ” مايو قبل يوليو” ، تجري الأحداث المتلاحقة داخل الترام الأزرق بمدينة الإسكندرية ، والترام كمكان يحمل سمتين: فهو مكان مغلق بشكل نسبي ، ومفتوح ايضا بشكل ما. إنه يتحرك حاملا بشرا، لكل منهم أوهامه وأحلامه وقناعاته.
وهو مكان متحرك ، فهناك حركة دائبة لا تنقطع وبالتالي يحدث تغيير في المواقف ، منها على سبيل المثال : ظهور واختفاء الشخصيات ، وهناك إحساس عام بالنفور بين الركاب .
عدسة الكاتب تصطاد التناقضات وتجسمها بشيء من الوعي وتمام اليقظة ، الساعة تقترب من الثالثة ـ أي قرب العصر حيث تهدأ درجة الحرارة نسبيا ـ ويقفز إلى الترام أشخاص ويهبط آخرون .
هناك شيخ ملتح يحشر نفسه بين الناس وهو يطلق صرخة مدوية يطلب المدد من الله، وهناك أيضا شاب أسمر يشعر بقيظ الصيف ، وتهتز امرأة ثم تنزع الملاءة السوداء وتعلقها على كتفها . بارتجاج حركة المترو يتطوح الواقفون وتنتفض المرأة غضبا فيما يتهم الشاب الأسمر شخص آخر بالعماء. يرفع البائع المتجول صندوقه ، ويلكم الآخر في صدره .
المشهد يظهر ذلك القدر من العبث الذي يسود العلاقات بين الناس ، ويعبر في نفس الوقت عن الرغبات المكبوتة ، وربما يشير من طرف خفي إلى ذلك الصرح الذي هوى فأبان وجه البلاد بدون تجميل أو رتوش.
يوسف القط الذي وجد ميتا في حديقة عامة بعد نوبات من الانسحاب من الواقع كان وجها أدبيا معروفا في تلك الفترة. وقد قابلت عبدالرحمن الأبنودي سنة 1969 بشقته في الدور الاخير بعمارة باب اللوق ، فكان أول من سألني عنه هو يوسف القط.
كان معروفا بكتابة نصوص تجريبية. يجلس أغلب الوقت في معرض موبليات صديقه مصطفى الأسمر، أو محل حلاقة صديقه الشاعر محمد النبوي سلامة ـ صاحب أغنية عبداللطيف التلباني ” خد الجميل يا قصب ” ـ صدر في حياته كتاب” 9 قصص” ورفض حضور المناقشة وفضل الجلوس على المقهى، وكنت مكلفا بإحضاره المناقشة التي تمت على بعض أمتار من المقهى الذي جلس فيه..
بعد موته بسنوات أصدر الشاعر محمد علوش كتاب” تحت السقف” يضم 17 نصا قصصيا هي فقط القصص التي وجدت في حجرة الكاتب بعد رحيله.
رحم الله القاص المجدد يوسف القط.
بقلم: سمير الفيل
sadazakera.wordpress.com
بعدها توقف تماما عن الكتابة ، فكان يحمل حقيبته السوداء ويجوب المدينة ـ مدينة دمياط ـ قد يجلس لتصفح كتاب قديم يضعه بعناية في حقيبته المهترئة ، ثم يصعد لشقة في الدور الرابع ، تطل بفسحة على ازرقاق السماء ، حجرة فقيرة ، لا يوجد بها أثاث سوى سرير واحد ، والسطح الذي تتناثر في أرضيته زجاجات الكينا. لم يكن قد تزوج وبقى وحيدا ، منكسرا.
يوسف القط تميز بمتانة السرد، وسطوع الدلالة ، فأغلب نصوصه تتضمن مشاهد منتزعة من قلب الحياة غير أنها مضمخة بعذابات إنسانية لا نهائية.
في نصه القصصي ” مايو قبل يوليو” ، تجري الأحداث المتلاحقة داخل الترام الأزرق بمدينة الإسكندرية ، والترام كمكان يحمل سمتين: فهو مكان مغلق بشكل نسبي ، ومفتوح ايضا بشكل ما. إنه يتحرك حاملا بشرا، لكل منهم أوهامه وأحلامه وقناعاته.
وهو مكان متحرك ، فهناك حركة دائبة لا تنقطع وبالتالي يحدث تغيير في المواقف ، منها على سبيل المثال : ظهور واختفاء الشخصيات ، وهناك إحساس عام بالنفور بين الركاب .
عدسة الكاتب تصطاد التناقضات وتجسمها بشيء من الوعي وتمام اليقظة ، الساعة تقترب من الثالثة ـ أي قرب العصر حيث تهدأ درجة الحرارة نسبيا ـ ويقفز إلى الترام أشخاص ويهبط آخرون .
هناك شيخ ملتح يحشر نفسه بين الناس وهو يطلق صرخة مدوية يطلب المدد من الله، وهناك أيضا شاب أسمر يشعر بقيظ الصيف ، وتهتز امرأة ثم تنزع الملاءة السوداء وتعلقها على كتفها . بارتجاج حركة المترو يتطوح الواقفون وتنتفض المرأة غضبا فيما يتهم الشاب الأسمر شخص آخر بالعماء. يرفع البائع المتجول صندوقه ، ويلكم الآخر في صدره .
المشهد يظهر ذلك القدر من العبث الذي يسود العلاقات بين الناس ، ويعبر في نفس الوقت عن الرغبات المكبوتة ، وربما يشير من طرف خفي إلى ذلك الصرح الذي هوى فأبان وجه البلاد بدون تجميل أو رتوش.
يوسف القط الذي وجد ميتا في حديقة عامة بعد نوبات من الانسحاب من الواقع كان وجها أدبيا معروفا في تلك الفترة. وقد قابلت عبدالرحمن الأبنودي سنة 1969 بشقته في الدور الاخير بعمارة باب اللوق ، فكان أول من سألني عنه هو يوسف القط.
كان معروفا بكتابة نصوص تجريبية. يجلس أغلب الوقت في معرض موبليات صديقه مصطفى الأسمر، أو محل حلاقة صديقه الشاعر محمد النبوي سلامة ـ صاحب أغنية عبداللطيف التلباني ” خد الجميل يا قصب ” ـ صدر في حياته كتاب” 9 قصص” ورفض حضور المناقشة وفضل الجلوس على المقهى، وكنت مكلفا بإحضاره المناقشة التي تمت على بعض أمتار من المقهى الذي جلس فيه..
بعد موته بسنوات أصدر الشاعر محمد علوش كتاب” تحت السقف” يضم 17 نصا قصصيا هي فقط القصص التي وجدت في حجرة الكاتب بعد رحيله.
رحم الله القاص المجدد يوسف القط.
بقلم: سمير الفيل
يوسف القط – صدى: (ذاكرة القصة المصرية )
مقالات عن يوسف القط كتبها thewriter1811