محمد السلاموني - النقد المعاصر والأدب واللغة :

نحن نحيا فى الواقع ، لكن الواقع هلامى تماما أو مادة غير متعينة ، لذا يبذل الإنسان جهودا هائلة فى محاولة الإمساك به و تحديده ...
ومن هنا كانت العلوم المختلفة - هذا والعلوم الإجتماعية والإنسانية تتمحور حول الظواهر التى أنتجها الإنسان أو الناتجة عن علاقة الإنسان بالطبيعة ، كاللغة والمجتمع والإقتصاد والتاريخ ... إلخ ، و على الرغم من الأهداف العديدة التى تسعى إلى تحقيقها ، إلا أن (تحديد الواقع - أو الإجابة عن سؤال : ما الواقع ؟) هو شغلها الشاغل ...
هذا يعنى أن الواقع ليس هو (الأشياء والأحداث والوقائع ...إلخ) ، بقدر ما هو (ما نعيه أو ما نتمثله) منها ...
هذا ومنذ ألفى عام ، حتى عهد قريب لم تزل أصداؤه تتردد إلى الآن - مع ظهور الفلاسفة اليونانيين الكبار (سقراط وأفلاطون وأرسطو) - كان المشروع الحضارى البشرى يتمحور حول نظرية (المحاكاة) ؛ أى (التمثيل) : فالواقع يجنح نحو التمثيل ، أى نحو إنتاج صور (تمثله) ، أو (تنوب عنه فى الحضور) ، لذا فـ (اللغة) - كما كانوا يعتقدون - كانت نظاما مرتبطا بنظام الأشياء أى بنظام الطبيعة ، ومن هنا كان (اللوغوس) يعنى تطابق المنطق والنحو أو العقل واللغة ، فقواعد المنطق هى قواعد اللغة ، وهما معا (يمثلان) الطبيعة ..
وهذا هو نفسه ما تتأسس عليه الميتافيزيقا ...
منذ ظهور العالم اللغوى (دى سوسير) ، وقوله بإعتباطية العلامة اللغوية ، أى بعدم وجود علاقة (تمثيل) بين الكلمة والشئ ، أنفصل نظام اللغة عن نظام الإشياء ، أى أن اللغة لم تعد (تمثل) الواقع أو الطبيعة أو الموجودات ، وصارت (تدل) عليه فقط ..
التحول فى النظر إلى اللغة من (تمثل) إلى (تدل) ، كان يعنى الإطاحة بنظرية المحاكاة (نظرية التمثيل) - فاللغة لا تستحضر الواقع نفسه فى أذهاننا ، هى تستحضر دلالته فقط ، ومن هنا صارت (الدلالة أو المعنى) هى ما تتمحور حوله إشكاليات عصرنا ...
الوعى النقدى المعاصر - كما يتبدى لنا من خلال النظريات المختلفة (الشكليين الروس ، البنيوية ، علم النص ، علم السرد ، التداولية ، السيميولوجيا ، الأسلوبية ، التفكيكية ...إلخ) ، يحاول إعادة تأسيس النقد على (اللغة) ، والنظر إلى النصوص بماهى أبنية لغوية ، منفصلة أو مستقلة عن الواقع ، بما يعنى تجاوز نظرية المحاكاة و (مبدأ الإحالة إلى الواقع) الذى إنشغل به النقد طوال التاريخ ، هكذا فى تجاوز للثنائية القديمة (واقع / تمثيل أو مجاز) ..
لكننا نلاحظ أن تلك النظريات لم تفعل شيئا أكثر من أنها أجتهدت فى محاولة البحث عن (بدائل -هى معادِلات نصية) للواقع - فعلى سبيل المثال [(الراوى) صار هو (الأنا الثانية للمؤلف الحقيقى) ، و(المروى له أو عليه) ، صار هو البديل عن (القارئ الحقيقى) ، كما أن الراوى (من يتكلم) ، يختلف عن (من يرى) ... إلخ] ..
إذا أمعنا النظر جيدا فى مثل تلك البرامج السردية الجديدة ، التى تدعى الإنطلاق من الفرضية التى تقول بإنفصال نظام اللغة عن نظام الأشياء ، سنجد أنها لم تزل تعتمد على نظرية المحاكاة نفسها ، بعد التخلص منها (شكليا) فقط ، ذلك أن [الراوى - أو الأنا الثانية للمؤلف الحقيقى) لم يتخلص بعد من فكرة (التمثيل - أو الإنابة عن (المؤلف)] ، كما أن الفرق بين (من يرى ومن يتكلم) ، والذى هو مناط تحديد (وجهة النظر) ، يستلهم فكرة (الحديث المنقول - من إلى ... كما نراها فى الواقع) ، هكذا ، ولعل الأمر يبدو أكثر وضوحا إذا ما عدنا إلى (باختين) ، فكل ما قال به عن (الحواريات - وتعدد اللغات الإجتماعية) ، وعن (العلامة ؛ كحقل صراع عقائدى) ... إلخ ، لا يزيد عن (نقل) الظاهرة الإجتماعية ، الصراعية الأيديولوجية حول العلامة ، إلى حقل الأدب ؛ أى أن مشروعه كله لا يزيد عن (مبحث فى "التمثيلات الإجتماعية - للتعددية اللغوية والأيديولوجية - فى الأدب " ) ...
الخلاصة : الوعى النقدى المعاصر لم يتحرر بعد من نظرية المحاكاة ، بل لعل حضور تلك النظرية قد ازداد قوة ، بفضل الجهود النقدية اللغوية المعاصرة ، وهو ما يتناقض مع الوعد بالعمل وفقا لنظرية دى سوسير ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...