لا شك أن الحياة لا تساوي بيننا كبشر، فلكلٍ مشكلاته المختلفة التي تشغله وربما تعذبه وقد تجعل البعض يعيش حالاتٍ مركبة على صعيد شخصي بعيداً عن ما اعتاد الناس عليه، مما يضطرهم لإخفاء قصتهم أو جزءٍ منها كي لا تتفاقم آلامهم بسبب نظرة الغير إليهم، وبطبيعة الحال فإن الكمال الإنساني غير موجود ولذا فإن لكلٍ منا ما ينقصه سواءاً كان ذلك بصورةٍ مادية أو معنوية أو مزيجٍ بين كليهما، وقد لا يصدق البعض أن قليلاً من الحب والإحتواء يستطيع تغيير الكثير خاصةً لمن فقد أو نشأ على فقد أهله..
فقد اعتاد الكثير منا سماعه لقصص من ذاقوا اليتم، ولكن تلك الحكايات تختلف في استقبالها من المجتمع عند وجود أحد الأبوين على قيد الحياة أو في ظل وجود بعض الأقارب، وبكل الأحوال فإن اليتم والشعور بالفقدان والوحدة منذ الطفولة هو أكثر المشاعر قسوةً وألماً، فليس من السهل أن نترك قلباً صغيراً لا يفهم من الدنيا شيئاً لوحده دون سندٍ يتكأ عليه ولم توجد بعد الكلمات التي يمكنها أن تصف تلك الحالة، ولكن ما يزيد الأمر سوءاً هو اضطرار العديد من الأطفال للعيش في دور الأيتام بعيداً عن أي شخصٍ قد يعرفونه سواءاً كان ذلك بسبب وفاة الأهل وانعدام الأقارب أو تخليهم عنهم كي لا يتحملوا مسؤوليتهم تحت ذرائع مختلفة..
وهنا ينشأ اليتيم في بيئةٍ قد لا تكون غالباً بالمناسبة أو الآمنة كما يتخيل البعض اعتقاداً منه أن هذه المؤسسات تستقبل (الكثير) من التبرعات أو تحظى بإهتمام المحسنين، فالطفل الذي اعتاد النشأة في هذه الأماكن (والتي نقدر ونثمن مجهودات القائمين عليها) هو طفلٌ اعتاد الإنكسار واعتاد على أنه ليس من حقه ما يحق للآخرين مهما أغدق عليه من (عطايا)، لأنها ستظل في نظره منحةً من شخصٍ ما قد تتوقف لأي سبب وليست حقه الذي يستحقه لمجرد ولادته في كنف عائلة أياً كانت نوعها، ولأن عليه دوماً أن يكون (ممتناً) حتى وإن لم ينل ما يحبه لأنه (محظوظ) إذا ما اهتم به شخص أو اهتمت به عائلة أو جهة ما، ولذلك يبقي هذا الطفل دوماً مشاعره وأفكاره وأحلامه حبيسة صدره ولا يصارح بها أحداً إلا فيما ندر، كونه دائم المقارنة والشعور بالفقدان والضعف والحاجة في قرارة نفسه والذي قد يجعله يفرط في حقوقه أو يشعر بأنه مجرد منها، وينبع كل ذلك من نقطةٍ بالغة الأهمية ألا وهي ملازمته للخوف والشعور بعدم الأمان في ظل غياب من يفترض أنهم مصدر الحماية بالنسبة له..
فهذه الدور المخصصة للأيتام وفاقدي الوالدين تشمل شرائح أخرى من الأطفال كالخارجين عن وصاية الأبوين لفقدانهم الأهلية لذلك بسبب سلوكهم الذي يتحول إلى خطر على الأبناء، كما تشمل الطفل ضحية المشاكل الأسرية أو سوء المعاملة أو الأوضاع المعيشية الصعبة، والقوانين في أغلب الدول تربط إقامة الطفل داخل الدار بالوصول إلى سن الثامنة عشرة من العمر، وهو ما يشكل خطراً كبيراً بالنسبة إلى أي طفلٍ يعيش في هذه الظروف حيث لا توجد لديه أي علاقاتٍ مع أي أشخاص خارج أسوار هذه الجمعية ولا يوجد لديه صورة فعلية أو حقيقية عن ماهية هذا العالم وما تعنيه الحياة، لذا يتحول الأمر إلى ما يشبه الكابوس بالنسبة إليه خوفاً من ما ينتظره بعد خروجه من الدار، أو من ناحية إمكانية مواصلته لدراسته الجامعية أو قبوله في وظيفة أو تكوين صداقاتٍ أو علاقاتٍ إجتماعية بشكلٍ طبيعي، أو حتى الإرتباط مستقبلاً حيث سيظل خائفاً من نظرة المجتمع تجاهه والتعامل معه بشفقة ودونية أو على أنه محل شك وعدم ثقة خاصةً إذا كان مدوناْ ضمن أوراقه الثبوتية أنه (مجهول النسب) وهو ما يتسبب في تدميره نفسياً، حيث قد يدفع الكثيرين لتجنب إقامة أي نوعٍ من العلاقات معه لاسيما وأن ثقافتنا لا ترحم أحداً وتحب الخوض في خصوصيات الآخرين..
لذا علينا كمجتمعات أن نكثف جهودنا لمساعدة هذه الفئات لمحاولة ايجاد مخرج آمن لهم وسبل لإحتوائهم ودمجهم تدريجياً بين الناس، وعدم تركهم بشكلٍ مفاجئ من خلال تأهيلهم نفسياً وتوظيفهم ليكون لديهم مصدر دخل ثابت يستطيعون من خلاله الإعتماد على أنفسهم ويغنيهم عن المساعدة بعد ترك المؤسسات التي عاشوا فيها ببلوغ الثامنة عشرة من العمر، وهذا العمل قد يزيد من ثقتهم بأنفسهم ويعزز انخراطهم في المجتمع وقد يكون بمثابة دفعة معنوية لهم قد تصنع منهم مبدعين في أي مجالٍ يبرعون فيه، كما يجب العمل على تغيير ثقافة الأفراد والتوعية بظروفهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ليتم قبولهم واستيعابهم كأي فئة لها الحق في العيش بكرامة، فيكفيهم ما مروا به من ألم وما ينتظرهم من خوف بشكل لا ارادي، فبعيداً عنهم تتسم علاقاتنا اليوم ببعضنا بالفوضى واللامبالاة التي تجنح إلى القسوة، فهل يستحق من عاش ماضياً من الوجع والحرمان أن نراكم معاناته ونفاقمها بسلوكياتنا ومعتقداتنا البالية.. وهل أصبح اليتم الذي عاشوه وكان من الممكن (لاقدر الله) لأي منا أن يعيشه أو يعيشه أبنائنا وصمة عار وجريمة تلاحق صاحبها ؟ أعتقد أن الدنيا كانت قاسيةً علينا جميعاً بغض النظر عن استحقاقنا لهذه القسوة من عدمها، وبمعزلٍ عن السؤال المستمر حول من الجاني ومن المجني عليه أو من هو الضحية ومن هو الجلاد فإن هؤلاء الأشخاص مبتوري الطفولة والأرواح يستحقون بعضاً من التعاطف والرحمة التي باتت شحيحةً في هذه الأيام، والتي إن كنا زهدنا فيها ولم نعد نعرف قيمتها فهناك من هو في أمس الحاجة إلى أقل القليل منها.. إلى شيءٍ من الأمان..
خالد جهاد..
فقد اعتاد الكثير منا سماعه لقصص من ذاقوا اليتم، ولكن تلك الحكايات تختلف في استقبالها من المجتمع عند وجود أحد الأبوين على قيد الحياة أو في ظل وجود بعض الأقارب، وبكل الأحوال فإن اليتم والشعور بالفقدان والوحدة منذ الطفولة هو أكثر المشاعر قسوةً وألماً، فليس من السهل أن نترك قلباً صغيراً لا يفهم من الدنيا شيئاً لوحده دون سندٍ يتكأ عليه ولم توجد بعد الكلمات التي يمكنها أن تصف تلك الحالة، ولكن ما يزيد الأمر سوءاً هو اضطرار العديد من الأطفال للعيش في دور الأيتام بعيداً عن أي شخصٍ قد يعرفونه سواءاً كان ذلك بسبب وفاة الأهل وانعدام الأقارب أو تخليهم عنهم كي لا يتحملوا مسؤوليتهم تحت ذرائع مختلفة..
وهنا ينشأ اليتيم في بيئةٍ قد لا تكون غالباً بالمناسبة أو الآمنة كما يتخيل البعض اعتقاداً منه أن هذه المؤسسات تستقبل (الكثير) من التبرعات أو تحظى بإهتمام المحسنين، فالطفل الذي اعتاد النشأة في هذه الأماكن (والتي نقدر ونثمن مجهودات القائمين عليها) هو طفلٌ اعتاد الإنكسار واعتاد على أنه ليس من حقه ما يحق للآخرين مهما أغدق عليه من (عطايا)، لأنها ستظل في نظره منحةً من شخصٍ ما قد تتوقف لأي سبب وليست حقه الذي يستحقه لمجرد ولادته في كنف عائلة أياً كانت نوعها، ولأن عليه دوماً أن يكون (ممتناً) حتى وإن لم ينل ما يحبه لأنه (محظوظ) إذا ما اهتم به شخص أو اهتمت به عائلة أو جهة ما، ولذلك يبقي هذا الطفل دوماً مشاعره وأفكاره وأحلامه حبيسة صدره ولا يصارح بها أحداً إلا فيما ندر، كونه دائم المقارنة والشعور بالفقدان والضعف والحاجة في قرارة نفسه والذي قد يجعله يفرط في حقوقه أو يشعر بأنه مجرد منها، وينبع كل ذلك من نقطةٍ بالغة الأهمية ألا وهي ملازمته للخوف والشعور بعدم الأمان في ظل غياب من يفترض أنهم مصدر الحماية بالنسبة له..
فهذه الدور المخصصة للأيتام وفاقدي الوالدين تشمل شرائح أخرى من الأطفال كالخارجين عن وصاية الأبوين لفقدانهم الأهلية لذلك بسبب سلوكهم الذي يتحول إلى خطر على الأبناء، كما تشمل الطفل ضحية المشاكل الأسرية أو سوء المعاملة أو الأوضاع المعيشية الصعبة، والقوانين في أغلب الدول تربط إقامة الطفل داخل الدار بالوصول إلى سن الثامنة عشرة من العمر، وهو ما يشكل خطراً كبيراً بالنسبة إلى أي طفلٍ يعيش في هذه الظروف حيث لا توجد لديه أي علاقاتٍ مع أي أشخاص خارج أسوار هذه الجمعية ولا يوجد لديه صورة فعلية أو حقيقية عن ماهية هذا العالم وما تعنيه الحياة، لذا يتحول الأمر إلى ما يشبه الكابوس بالنسبة إليه خوفاً من ما ينتظره بعد خروجه من الدار، أو من ناحية إمكانية مواصلته لدراسته الجامعية أو قبوله في وظيفة أو تكوين صداقاتٍ أو علاقاتٍ إجتماعية بشكلٍ طبيعي، أو حتى الإرتباط مستقبلاً حيث سيظل خائفاً من نظرة المجتمع تجاهه والتعامل معه بشفقة ودونية أو على أنه محل شك وعدم ثقة خاصةً إذا كان مدوناْ ضمن أوراقه الثبوتية أنه (مجهول النسب) وهو ما يتسبب في تدميره نفسياً، حيث قد يدفع الكثيرين لتجنب إقامة أي نوعٍ من العلاقات معه لاسيما وأن ثقافتنا لا ترحم أحداً وتحب الخوض في خصوصيات الآخرين..
لذا علينا كمجتمعات أن نكثف جهودنا لمساعدة هذه الفئات لمحاولة ايجاد مخرج آمن لهم وسبل لإحتوائهم ودمجهم تدريجياً بين الناس، وعدم تركهم بشكلٍ مفاجئ من خلال تأهيلهم نفسياً وتوظيفهم ليكون لديهم مصدر دخل ثابت يستطيعون من خلاله الإعتماد على أنفسهم ويغنيهم عن المساعدة بعد ترك المؤسسات التي عاشوا فيها ببلوغ الثامنة عشرة من العمر، وهذا العمل قد يزيد من ثقتهم بأنفسهم ويعزز انخراطهم في المجتمع وقد يكون بمثابة دفعة معنوية لهم قد تصنع منهم مبدعين في أي مجالٍ يبرعون فيه، كما يجب العمل على تغيير ثقافة الأفراد والتوعية بظروفهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ليتم قبولهم واستيعابهم كأي فئة لها الحق في العيش بكرامة، فيكفيهم ما مروا به من ألم وما ينتظرهم من خوف بشكل لا ارادي، فبعيداً عنهم تتسم علاقاتنا اليوم ببعضنا بالفوضى واللامبالاة التي تجنح إلى القسوة، فهل يستحق من عاش ماضياً من الوجع والحرمان أن نراكم معاناته ونفاقمها بسلوكياتنا ومعتقداتنا البالية.. وهل أصبح اليتم الذي عاشوه وكان من الممكن (لاقدر الله) لأي منا أن يعيشه أو يعيشه أبنائنا وصمة عار وجريمة تلاحق صاحبها ؟ أعتقد أن الدنيا كانت قاسيةً علينا جميعاً بغض النظر عن استحقاقنا لهذه القسوة من عدمها، وبمعزلٍ عن السؤال المستمر حول من الجاني ومن المجني عليه أو من هو الضحية ومن هو الجلاد فإن هؤلاء الأشخاص مبتوري الطفولة والأرواح يستحقون بعضاً من التعاطف والرحمة التي باتت شحيحةً في هذه الأيام، والتي إن كنا زهدنا فيها ولم نعد نعرف قيمتها فهناك من هو في أمس الحاجة إلى أقل القليل منها.. إلى شيءٍ من الأمان..
خالد جهاد..