- 1 -
ماهية الحقائق العلمية
انه لخطأ كبير أن نظن الحقائق العلمية تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي نشاهدها كل يوم وهي إن امتازت بشيء فبسعة إحاطتها ومبلغ دقتها، أما من الوجهة العملية فالاختلاف عظيم الأهمية، ويجب أن لا ننسى في نفس الوقت أن قوة الملاحظة عند العالم مقصورة على ظواهر الأشياء وما يجري في الطبيعة، ولكنها لن تستطيع أن تنفذ إلى باطن المادة أو تعرف شيئا عن حقائق الأشياء؛ والعين التي تستعين بالمجهر ما تزال عينا إنسانية؛ نعم أنها أكثر إبصارا من العين المجردة، ولكنهما لا تختلفان في الوسيلة. وان العالم ليزيد من صلات الإنسان بالطبيعة ومعرفته بها، ولكن يستحيل عليه بأي حال أن يحدد الخواص الجوهرية لتلك العلاقات المتبادلة بين الأثنين، وهو يشاهد كيفية حدوث بعض الظواهر الطبيعية ولن سبب حدوثها بمثل هذه الكيفية يبقى عليه كما هو علينا سرا محجوبا وبابا مغلقا.
وإننا لنبوء بالخيبة اللاذعة حين نتطلب في العلم قانونا أخلاقيا، فقد كان الناس يعتقدون منذ ثلاثمائة سنة أن الأرض مركز الكون، ولكننا نعلم الآن أنها جزء من الشمس قد انفصل عنها وأن هذا الكون الذي نحن فيه كذرة التراب الهائمة إنما هو في حركة دائمة وعمل مستمر لا ينفك ينشأ ثم يبيد، وأن الأجرام السماوية لا تفتأ تموت ثم تولد. ولكن من أية ناحية قد تغيرت طبائعنا وأخلاقنا بهذه الاستكشافات العظيمة؟ أترى الأمهات قد تأثر حبهن لأطفالهن قوة وضعفا؟ أم ترى تقديرنا لجمال المرأة قد كثر أو قل؟ أم أن نبض قلب البطل المغوار في صدره قد اختلف عن ذي قبل؟ كلا! فلتكن الأرض كبيرة أو صغيرة فماذا يعني الناس من كل هذا؟ أن في سعتها ما يكفي ليجعل منها مسرحاً للألم والحب، فهما منبعان متلازمان لجمالها الذي لا ينفد، نعم الألم ما أجله وأقدسه! وما أجهلنا بقدره وقيمته! فنحن ندين له بكل ما هو حسن فينا وكل ما يجعل الحياة جديرة بالعيش فيها، ندين له بعاطفة الرحمة والشجاعة وسائر الفضائل، وما الأرض الا ذرة من الرمل في اللانهاية المج للعوالم التي تحيط بنا.
ولكن إذا كان على الأرض وحدها نقاس الخلائق المتعددة فهي أعظم قدراً من تلك العوالم بأجمعها، بل هي كل شيء والباقي لا شيء، فبدونها لن يكون للفضيلة ولا للعقل وجود. وما هو الذكاء إذا لم يكن فناً يقصد به إبعاد الألم؟ على إنني أعلم أن هناك عقولا كبيرة قد تطلعت إلى آمال أخرى غير هذا، فقد كان رينان يعلل نفسه في فرح الواثق بحلم هو انتظار قانون أخلاقي مؤسس على العلم إذ كان يثق به ثقة لا حد لها، وكان يعتقد أنه ما دام العلم قد استطاع أن يتخذ في الجبال نفقاً فلن يعجز عن تغيير العالم برمته في المستقبل، ولكنني لا أظن مثله أنه قادر على أن يجعل منا آلهة كاملة، والحق أقول أنني لا أريد ذلك ولا أرغب فيه، فإنني لا أحس في نفسي عناصر الألوهية بعد غض النظر عن بساطتي، فضعفي عزيز عليّ محبب ألي وهو نقص ولكنه أهم مميزات وجودي.
سذاجة العلماء
لقد عهدت العلماء كالأطفال في سذاجتهم وبعدهم عن الادعاء، وفي كل يوم نلقى أدعياء يتوهمون أنهم محور العالم، ومن المؤسف أن يعتبر كل منا نفسه مركز الكون. وهذا وهم شائع في جميع الناس لا يخلو منه الكناس العابر تنبئه به عيناه حين ينظر حوله فيرى قبة السماء تستدير به من كل الجهات، جاعلة إياه مركز السماء والأرض، وقد يتزعزع هذا الاعتقاد في نفس من يفكر تفكيراً عميقاً، فالتواضع وهو شيء نادر بين المتعلمين ما زال أندر منه بين الجاهلين!
ماهية الجهل
الجهل شرط ضروري لا بد منه لا للسعادة فحسب بل للحياة نفسها. فلو أحطنا بكل شيء علماً لما استطعنا احتمال الوجود ساعة واحدة، لأن الشعور الذي يحببه إلينا أو يجعله محتملا على الأقل إنما ينبع من الأباطيل ويتغذى بالأوهام، فلو استطاع إنسان أن يستحوذ كمالا له على الحق المطلق ثم يفلته من يديه لبادت الدنيا واختفى العالم كما يختفي الظل، فالحق الإلهي كيوم القيامة يسحق هذا الوجود سحقاً.
مجلة الرسالة - العدد 6
بتاريخ: 01 - 04 - 1933
ماهية الحقائق العلمية
انه لخطأ كبير أن نظن الحقائق العلمية تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي نشاهدها كل يوم وهي إن امتازت بشيء فبسعة إحاطتها ومبلغ دقتها، أما من الوجهة العملية فالاختلاف عظيم الأهمية، ويجب أن لا ننسى في نفس الوقت أن قوة الملاحظة عند العالم مقصورة على ظواهر الأشياء وما يجري في الطبيعة، ولكنها لن تستطيع أن تنفذ إلى باطن المادة أو تعرف شيئا عن حقائق الأشياء؛ والعين التي تستعين بالمجهر ما تزال عينا إنسانية؛ نعم أنها أكثر إبصارا من العين المجردة، ولكنهما لا تختلفان في الوسيلة. وان العالم ليزيد من صلات الإنسان بالطبيعة ومعرفته بها، ولكن يستحيل عليه بأي حال أن يحدد الخواص الجوهرية لتلك العلاقات المتبادلة بين الأثنين، وهو يشاهد كيفية حدوث بعض الظواهر الطبيعية ولن سبب حدوثها بمثل هذه الكيفية يبقى عليه كما هو علينا سرا محجوبا وبابا مغلقا.
وإننا لنبوء بالخيبة اللاذعة حين نتطلب في العلم قانونا أخلاقيا، فقد كان الناس يعتقدون منذ ثلاثمائة سنة أن الأرض مركز الكون، ولكننا نعلم الآن أنها جزء من الشمس قد انفصل عنها وأن هذا الكون الذي نحن فيه كذرة التراب الهائمة إنما هو في حركة دائمة وعمل مستمر لا ينفك ينشأ ثم يبيد، وأن الأجرام السماوية لا تفتأ تموت ثم تولد. ولكن من أية ناحية قد تغيرت طبائعنا وأخلاقنا بهذه الاستكشافات العظيمة؟ أترى الأمهات قد تأثر حبهن لأطفالهن قوة وضعفا؟ أم ترى تقديرنا لجمال المرأة قد كثر أو قل؟ أم أن نبض قلب البطل المغوار في صدره قد اختلف عن ذي قبل؟ كلا! فلتكن الأرض كبيرة أو صغيرة فماذا يعني الناس من كل هذا؟ أن في سعتها ما يكفي ليجعل منها مسرحاً للألم والحب، فهما منبعان متلازمان لجمالها الذي لا ينفد، نعم الألم ما أجله وأقدسه! وما أجهلنا بقدره وقيمته! فنحن ندين له بكل ما هو حسن فينا وكل ما يجعل الحياة جديرة بالعيش فيها، ندين له بعاطفة الرحمة والشجاعة وسائر الفضائل، وما الأرض الا ذرة من الرمل في اللانهاية المج للعوالم التي تحيط بنا.
ولكن إذا كان على الأرض وحدها نقاس الخلائق المتعددة فهي أعظم قدراً من تلك العوالم بأجمعها، بل هي كل شيء والباقي لا شيء، فبدونها لن يكون للفضيلة ولا للعقل وجود. وما هو الذكاء إذا لم يكن فناً يقصد به إبعاد الألم؟ على إنني أعلم أن هناك عقولا كبيرة قد تطلعت إلى آمال أخرى غير هذا، فقد كان رينان يعلل نفسه في فرح الواثق بحلم هو انتظار قانون أخلاقي مؤسس على العلم إذ كان يثق به ثقة لا حد لها، وكان يعتقد أنه ما دام العلم قد استطاع أن يتخذ في الجبال نفقاً فلن يعجز عن تغيير العالم برمته في المستقبل، ولكنني لا أظن مثله أنه قادر على أن يجعل منا آلهة كاملة، والحق أقول أنني لا أريد ذلك ولا أرغب فيه، فإنني لا أحس في نفسي عناصر الألوهية بعد غض النظر عن بساطتي، فضعفي عزيز عليّ محبب ألي وهو نقص ولكنه أهم مميزات وجودي.
سذاجة العلماء
لقد عهدت العلماء كالأطفال في سذاجتهم وبعدهم عن الادعاء، وفي كل يوم نلقى أدعياء يتوهمون أنهم محور العالم، ومن المؤسف أن يعتبر كل منا نفسه مركز الكون. وهذا وهم شائع في جميع الناس لا يخلو منه الكناس العابر تنبئه به عيناه حين ينظر حوله فيرى قبة السماء تستدير به من كل الجهات، جاعلة إياه مركز السماء والأرض، وقد يتزعزع هذا الاعتقاد في نفس من يفكر تفكيراً عميقاً، فالتواضع وهو شيء نادر بين المتعلمين ما زال أندر منه بين الجاهلين!
ماهية الجهل
الجهل شرط ضروري لا بد منه لا للسعادة فحسب بل للحياة نفسها. فلو أحطنا بكل شيء علماً لما استطعنا احتمال الوجود ساعة واحدة، لأن الشعور الذي يحببه إلينا أو يجعله محتملا على الأقل إنما ينبع من الأباطيل ويتغذى بالأوهام، فلو استطاع إنسان أن يستحوذ كمالا له على الحق المطلق ثم يفلته من يديه لبادت الدنيا واختفى العالم كما يختفي الظل، فالحق الإلهي كيوم القيامة يسحق هذا الوجود سحقاً.
مجلة الرسالة - العدد 6
بتاريخ: 01 - 04 - 1933