عبثاً تقفو خطى الماضي الذي
خلت أن البحر واراه ابتلاعا
فدع الليلة تمضي إنها
لم تكن أوَّل ما ولَّى وضاعا
هكذا يمضي علي محمود طه بنا في سرد ملاحه التائه، كمحاولة لاسترداد الفرح المسلوب، عبر الأمل المصلوب، المصلوب في ترقب المستقبل، ذلك الذي لا يأتي أبداً.
نحن نضيع اللحظة في محاولات القبض على مستقبل مجهول، أو الحزن على ماضٍ لا يمكنه أن يؤوب.
عندما كنت طفلاً قرأت قصة غريبة، أتذكر منها القليل، وكانت تحكي عن رجل سلمه الملك رسالة ليقوم بتسليمها لشخص ما، وبداخلها أمر للمستلم بقتل حامل الرسالة. إنها قصة شهيرة، لكنها لم تكن هكذا فقط، فقد كان الشاب حامل الرسالة قد اشترى ثلاث حِكم من رجل حكيم، وكانت إحدى هذه الحكم هي أنه إن وجدت حفلاً فاترك كل شيء واذهب إليه، وحين كان الشاب يحمل الرسالة رأى حفلاً طروباً فذهب إليه وقد نجا بفضل تأخره من القتل. هذه القصة لا تهتم بالحفل، ولكنها تعني الاهتمام بلحظة السعادة الآنية الراهنة. كيف تستمتع باللحظة وتترك التفكير في المستقبل (على جنب). نحن كبشر نحكم على كل شيء من خلال المستقبل، ولهذا نتردد كثيراً، ولذلك نختار الأصعب، نختار دراسة لا نحبها لأنها ستمنحنا مركزاً إجتماعياً (المستقبل)، بدلاً عن أن تمنحنا السعادة. ونختار أن نعمل في وظيفة لا نرتاح فيها لنحقق ضمانات اقتصادية لنا ولأسرنا (المستقبل)، ونختار أن ندخر نشتري شيئاً ينفعنا أكثر في المستقبل أكثر من شراء ما يحقق لنا اشباعاً للحظة الراهنة. ندخر نقودنا خوفاً من المستقبل، إننا نحاول دائماً تحقيق الأمان (المستقبل)، رغم أن المستقبل غير معروف. إن كل الأشياء يمكنها أن تتبخر في لحظة نتيجة أزمة اقتصادية او حرب أو موت، لا شيء مضمون.. غير أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر سوى في المستقبل ليؤسس عليه قرارات الحاضر. يفرض الآباء دراسات معينة على أبنائهم، ويقمعون شغفهم في تعلم الفنون، لأنهم يعتقدون بأنهم يؤسسون لمستقبلهم، فيحكمون عليهم بضيق نفسي من علم لا يحبونه، أو يفرضوا عليهم نظاماً اجتماعياً محدداً. لذلك أعتقد أنني اليوم وأنا في هذا السن الكبير أستطيع أن أبدأ تعلم ما أريد تعلمه بشغف وحب وليس لأن درجاتي في امتحان الثانوية هو الذي فرض عليَّ ذلك. أستطيع أن أتعلم ما أعتقد أنه سيحقق لي السعادة والإشباع الروحي وليس المال أو المركز الاجتماعي. إن الإنسان كلما كبر في السن ظن الناس أنه أصبح إنساناً أنانياً ولكن هذا غير صحيح، إننا عندما نكبر نعرف فقط قيمة اللحظة، وليس المستقبل.
يفرض علينا المجتمع كمؤسسة أن نخضع لكل مؤسساته الأخرى، مؤسساته التعليمية ومؤسساته القانونية ومؤسساته الأسرية ومؤسساته الإدارية، والسياسية والثقافية..الخ.. إن المجتمع يصادر على لحظتنا باستمرار، ومن هنا رفض اللا سلطويون السلطة، لأن الحرية -كما أراها- هي عيش اللحظة. والمؤسسات تفترض أنها تعرف صالحنا أكثر منا، أي أنها تتحكم في اللحظة لتحقق لنا ضمانات في المستقبل. وهي من ثم تصادر على هذه اللحظة، اي أنها تصادر على حريتنا. يجب أن يعيش الإنسان كما يجب، أياً كان عرقه أو لونه أو معتقده أو فكره أو ميوله أو جنسه أو شكله، لكنه في الواقع لا يعيش كما يجب لأن السلطة (تلك المؤسسات) تفرض عليه وصاية على اللحظة بحجة المستقبل. وأغلب البشر لا يعرفون أن لحظتهم مقيدة ومن ثم فهم ليسوا أحراراً كما يتصورون، ولذلك هم أيضاً لا يعيشون كما يجب. إن فكرة الضمان والتأمين فكرة بشعة، لأنها تبيع لنا الوهم. فهي فكرة تسقط وراء اللحظة، أبعد من بصرنا وبصيرتنا. لهذا نحن دائما في حالة ملاحقة أحلام لا تتحقق. إن العالم غير مؤسس على النظام كما يظن الكثير من الناس، إن العالم مؤسس على الفوضى، وما كل عمل الإنسان إلا محاولة رسم أنساق منظمة لهذه الفوضى، لكن في الغالب فإن الحظ هو ما يعطينا النجاح وليس التخطيط. تلك المسارات تضعنا في مسار الصدفة المتوقعة فقط. نحن ندرس الطب لأن دراسة الطب (مسار) سيجعلنا اغنياء وناجحين في الحياة. لكن هذا لا يعني أننا سنكون بالفعل أغنياء وناجحين بعد أن ندرس الطب. نحن نقوم بانقلابات عسكرية لأن هذا سيضعنا في مسار صدفة العظمة والأبهة، لكنه قد لا ينتهي بنا إلا الاعدام شنقاً نحن وجميع أسرنا وأهلنا واحيانا قبيلتنا، بل وقد يعرضنا لمهانة أكبر مما لو عشنا كشحاذين. نحن نحب امتلاك المال ليضعنا ذلك في مسار اشباع شعورنا بالتفوق، وقد لا يحدث ذلك أبداً.. إن المستقبل الذي حكمنا عبره في اللحظة مجرد توهم، وتلك المسارات لا تؤكد لنا الضمانات المرجوة. ولو لاحظنا فإننا دائماً حين نفكر في ما سبق (دراسة الطب، الرئاسة، المال..الخ) نحن إنما نحاول امتلاك السلطة، السلطة هي القدرة على فرض أنفسنا على الآخرين سواء بقوة المال أو العلم أو العنف.. لذلك فنحن منذ أن نولد نبحث عن أسلحة تناسب فكرتنا عن الصراع الإنساني، أو كما قال جيل دولوز فإننا نجهز أسلحتنا. ونحن حين نفعل ذلك إنما نفعله ونحن نفكر في المستقبل، وحين نفكر في المستقبل الغامض ننسى اللحظة (اللحظة كشيء مؤكد). إننا نعمل على ترحيل سعادتنا اللحظية باستمرار إلى ذلك المستقبل الذي نجهله، ثم نحن -في الغالب- نموت دون أن نصل إلى تلك اللحظة. ولذلك فسعادتنا مرهونة بشيء ما أو إنسان ما، أي أننا نرهن أنفسنا لأشياء خارجية، ومن يرهن نفسه لغير نفسه فهو عبد. لذلك نحن عبيد ولكن باشكال مختلفة.
إن رأيت منظر شمس تغرب، وأعجبك.. توقف واستمتع به. وإن كنت تمتلك مالاً قليلاً بقدر وجبة تحب أكلها فاشترها واستمتع.. فأنت قد لا تشاهد الغروب مرة أخرى وقد لا تأكل تلك الوجبة بعد ساعات.
خلت أن البحر واراه ابتلاعا
فدع الليلة تمضي إنها
لم تكن أوَّل ما ولَّى وضاعا
هكذا يمضي علي محمود طه بنا في سرد ملاحه التائه، كمحاولة لاسترداد الفرح المسلوب، عبر الأمل المصلوب، المصلوب في ترقب المستقبل، ذلك الذي لا يأتي أبداً.
نحن نضيع اللحظة في محاولات القبض على مستقبل مجهول، أو الحزن على ماضٍ لا يمكنه أن يؤوب.
عندما كنت طفلاً قرأت قصة غريبة، أتذكر منها القليل، وكانت تحكي عن رجل سلمه الملك رسالة ليقوم بتسليمها لشخص ما، وبداخلها أمر للمستلم بقتل حامل الرسالة. إنها قصة شهيرة، لكنها لم تكن هكذا فقط، فقد كان الشاب حامل الرسالة قد اشترى ثلاث حِكم من رجل حكيم، وكانت إحدى هذه الحكم هي أنه إن وجدت حفلاً فاترك كل شيء واذهب إليه، وحين كان الشاب يحمل الرسالة رأى حفلاً طروباً فذهب إليه وقد نجا بفضل تأخره من القتل. هذه القصة لا تهتم بالحفل، ولكنها تعني الاهتمام بلحظة السعادة الآنية الراهنة. كيف تستمتع باللحظة وتترك التفكير في المستقبل (على جنب). نحن كبشر نحكم على كل شيء من خلال المستقبل، ولهذا نتردد كثيراً، ولذلك نختار الأصعب، نختار دراسة لا نحبها لأنها ستمنحنا مركزاً إجتماعياً (المستقبل)، بدلاً عن أن تمنحنا السعادة. ونختار أن نعمل في وظيفة لا نرتاح فيها لنحقق ضمانات اقتصادية لنا ولأسرنا (المستقبل)، ونختار أن ندخر نشتري شيئاً ينفعنا أكثر في المستقبل أكثر من شراء ما يحقق لنا اشباعاً للحظة الراهنة. ندخر نقودنا خوفاً من المستقبل، إننا نحاول دائماً تحقيق الأمان (المستقبل)، رغم أن المستقبل غير معروف. إن كل الأشياء يمكنها أن تتبخر في لحظة نتيجة أزمة اقتصادية او حرب أو موت، لا شيء مضمون.. غير أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر سوى في المستقبل ليؤسس عليه قرارات الحاضر. يفرض الآباء دراسات معينة على أبنائهم، ويقمعون شغفهم في تعلم الفنون، لأنهم يعتقدون بأنهم يؤسسون لمستقبلهم، فيحكمون عليهم بضيق نفسي من علم لا يحبونه، أو يفرضوا عليهم نظاماً اجتماعياً محدداً. لذلك أعتقد أنني اليوم وأنا في هذا السن الكبير أستطيع أن أبدأ تعلم ما أريد تعلمه بشغف وحب وليس لأن درجاتي في امتحان الثانوية هو الذي فرض عليَّ ذلك. أستطيع أن أتعلم ما أعتقد أنه سيحقق لي السعادة والإشباع الروحي وليس المال أو المركز الاجتماعي. إن الإنسان كلما كبر في السن ظن الناس أنه أصبح إنساناً أنانياً ولكن هذا غير صحيح، إننا عندما نكبر نعرف فقط قيمة اللحظة، وليس المستقبل.
يفرض علينا المجتمع كمؤسسة أن نخضع لكل مؤسساته الأخرى، مؤسساته التعليمية ومؤسساته القانونية ومؤسساته الأسرية ومؤسساته الإدارية، والسياسية والثقافية..الخ.. إن المجتمع يصادر على لحظتنا باستمرار، ومن هنا رفض اللا سلطويون السلطة، لأن الحرية -كما أراها- هي عيش اللحظة. والمؤسسات تفترض أنها تعرف صالحنا أكثر منا، أي أنها تتحكم في اللحظة لتحقق لنا ضمانات في المستقبل. وهي من ثم تصادر على هذه اللحظة، اي أنها تصادر على حريتنا. يجب أن يعيش الإنسان كما يجب، أياً كان عرقه أو لونه أو معتقده أو فكره أو ميوله أو جنسه أو شكله، لكنه في الواقع لا يعيش كما يجب لأن السلطة (تلك المؤسسات) تفرض عليه وصاية على اللحظة بحجة المستقبل. وأغلب البشر لا يعرفون أن لحظتهم مقيدة ومن ثم فهم ليسوا أحراراً كما يتصورون، ولذلك هم أيضاً لا يعيشون كما يجب. إن فكرة الضمان والتأمين فكرة بشعة، لأنها تبيع لنا الوهم. فهي فكرة تسقط وراء اللحظة، أبعد من بصرنا وبصيرتنا. لهذا نحن دائما في حالة ملاحقة أحلام لا تتحقق. إن العالم غير مؤسس على النظام كما يظن الكثير من الناس، إن العالم مؤسس على الفوضى، وما كل عمل الإنسان إلا محاولة رسم أنساق منظمة لهذه الفوضى، لكن في الغالب فإن الحظ هو ما يعطينا النجاح وليس التخطيط. تلك المسارات تضعنا في مسار الصدفة المتوقعة فقط. نحن ندرس الطب لأن دراسة الطب (مسار) سيجعلنا اغنياء وناجحين في الحياة. لكن هذا لا يعني أننا سنكون بالفعل أغنياء وناجحين بعد أن ندرس الطب. نحن نقوم بانقلابات عسكرية لأن هذا سيضعنا في مسار صدفة العظمة والأبهة، لكنه قد لا ينتهي بنا إلا الاعدام شنقاً نحن وجميع أسرنا وأهلنا واحيانا قبيلتنا، بل وقد يعرضنا لمهانة أكبر مما لو عشنا كشحاذين. نحن نحب امتلاك المال ليضعنا ذلك في مسار اشباع شعورنا بالتفوق، وقد لا يحدث ذلك أبداً.. إن المستقبل الذي حكمنا عبره في اللحظة مجرد توهم، وتلك المسارات لا تؤكد لنا الضمانات المرجوة. ولو لاحظنا فإننا دائماً حين نفكر في ما سبق (دراسة الطب، الرئاسة، المال..الخ) نحن إنما نحاول امتلاك السلطة، السلطة هي القدرة على فرض أنفسنا على الآخرين سواء بقوة المال أو العلم أو العنف.. لذلك فنحن منذ أن نولد نبحث عن أسلحة تناسب فكرتنا عن الصراع الإنساني، أو كما قال جيل دولوز فإننا نجهز أسلحتنا. ونحن حين نفعل ذلك إنما نفعله ونحن نفكر في المستقبل، وحين نفكر في المستقبل الغامض ننسى اللحظة (اللحظة كشيء مؤكد). إننا نعمل على ترحيل سعادتنا اللحظية باستمرار إلى ذلك المستقبل الذي نجهله، ثم نحن -في الغالب- نموت دون أن نصل إلى تلك اللحظة. ولذلك فسعادتنا مرهونة بشيء ما أو إنسان ما، أي أننا نرهن أنفسنا لأشياء خارجية، ومن يرهن نفسه لغير نفسه فهو عبد. لذلك نحن عبيد ولكن باشكال مختلفة.
إن رأيت منظر شمس تغرب، وأعجبك.. توقف واستمتع به. وإن كنت تمتلك مالاً قليلاً بقدر وجبة تحب أكلها فاشترها واستمتع.. فأنت قد لا تشاهد الغروب مرة أخرى وقد لا تأكل تلك الوجبة بعد ساعات.