أبووردة السعدني - السلطان عبدالحميد الثاني بين انقلابين (1)

... وهكذا وجد سلطان المسلمين - وخليفتهم _ عبدالحميد الثاني نفسه في مدينة " سلانيك " اليونانية ، يلقى به - وبأسرته ومرافقيه ، الذين لم يزد عددهم عن أربعة وعشرين شخصا - في قصر " علاتيني " ، توصد دونهم أبواب القصر ، وتغلق النوافذ بقطع ضخمة من الخشب ، ويخلو القصر من كل مقومات الحياة ، إلا من مقعدين اتخذهما السلطان " سريرا " لنومه ، لكن أنى له النوم ، فالقلب ينفطر حزنا على ما آل اليه مصيره ، أين قصر " يلديز " - أي النجم - بحدائقه الغناء ، أين أصداء أنغام الموسيقات الايطالية والفرنسية والروسية ، أين رقص الغواني الحسناوات ، أين زقزقات العصافير ، وغيرها من الطيور المهداة ، من ملوك العالم وسلاطينه ، أين ؟ ، ثم أين ، ثم أين ؟!!...
....زرفت عينا السلطان دمعا ساخنا اكتوت به وجنتاه ، حين استرجع الساعات المنصرمة ، والتي كانت - بسبب مرارتها - دهرا طويلا حزينا ، حين وجد قصر ملكه محاصرا ، قطعت عنه الكهرباء والمياه ، ولا يوجد فيه قوت لأسرته - ولا لمرافقيه - إلا البسكويت والخبز المبلل بالمياه ، الخوف يستولي على الجميع ، ودوي طلقات المدافع يهزالقلوب هزا ، وفي تلك اللحظات المفزعات يأتي إلي القصر وفد " المجلس الوطني " - ١٣/٤/١٩٠٩ - الذي يتكون من : أسعد طوبتاني الأرناؤوطي ، وعارف حكمت باشا آلاظ ، وآرام أفندي الأرمني ، واليهودي قراصو أفندي ، فيبادر أسعد أفندي السلطان قائلا ، بغلظة :
...لقد عزلتك الأمة !!....
....بتلك الكلمات الحادات كالسيف القاطع أسدل الستار على أكثر من ثلاثة عقود ، كان السلطان العثماني - فيها - ملءالسمع والبصر ، يدين له - بالولاء - المسلمون في أرجاء الأرض لأنه " خليفة المسلمين " ، ويخطب وده معظم حكام العالم ، بتلك الكلمات الثلاث سقط عبدالحميد الذي توسل إلى المنقلبين عليه أن يسمحوا له بأن يمضي بقية عمره في قصر " جراغان " في العاصمة العثمانية إستانبول ، لكنهم أبوا إلا السجن في قصر " علاتيني " بسلانيك ، فإن اعترض ، سينفذون أمرهم بقوة السلاح .... !!...
....تململ السلطان عبدالحميد على مقعديه ، فلم يغمض له جفن ، ولم يهدأ له قلب ، وهو يتذكر مغادرته _ وأسرته وبعض مرافقيه - قصر " يلديز " والخوف يسيطر عليهم ، دون أن يسمح لهم بأخذ شئ من أغراضهم إلا الثياب التي يسترون بها أجسادهم ، قارن السلطان هذا الإخراج المهين ، الذي لم يمض عليه سوى سويعات ، بموكب خروجه لصلاة الجمعة ، والذي وصفه شاهد عيان بقوله :
" ... ما قيصر في موكب انتصاره ، ولا الإسكندر في يوم افتخاره ... ولا المعتصم قافلا من عمورية ، أملأ للقلوب مهابة ، ولا للعيون بهاء ، من رؤية جلالة السلطان في موكبه ..."...
تذكر رحلة القطار الشاقة ، وكيف أنزلهم " حراسهم " في مكان غير معد للنزول ، و السيارات التي نقلتهم إلي سجنهم في قصر " علاتيني " ، وكيف ضاقت نفسه لمنعه من " التدخين " يوما كاملا ، فتوسل إلى واحد من الضباط قائلا : هلا أعطيتني سيجارة ؟! ، وكم كانت سعادته بتلك " السيجارة " التي أزالت عنه بعض ضيق نفسه ...!!!...
.... جلس السلطان على المقعد - وحيدا - بعد أن جافاه النوم ، واسترجع ذكريات يوم الجمعة - 24 /7/ 1908 م - حين قرأ في الصحف الخبر المشؤوم بإعلان " المشروطية " - أي الدستور - ، والإجراءات التي اتخذها المنقلبون على حكمه من أعضاء جمعية " الاتحاد والترقي " ، بعزل المقربين من السلطان من وظائفهم دون الرجوع إليه ،والمظاهرات المتواصلة التي ضجت بها العاصمة العثمانية ، وأنه حاول احتواء الموقف ، في محاولة منه ، كتلك المحاولة التي نجح فيها - سابقا - حين أوقف العمل بالدستور سنة 1878 ، فألقى خطابا " همايونيا "بليغا في مجلس " المبعوثان " ، لكن خطابه لم يحظ بالقبول ، ثم حاول محاولة أخرى لعله يستقطب - من خلالها - قلوب الرافضين لسياسته ، فأقام مأدبة " غداء " باذخة في قصره لأعضاء مجلس " المبعوثان " ، أشرف بنفسه على إعدادها وتنظيمها ، وكم كانت سعادته أثناء تناوله الطعام وسط نواب الأمة ، لكن لم تجد تلك المحاولة نفعا ، فلم تدم سعادته طويلا ، وانما تبددت حين صدرت صحف اليوم التالى تهاجم استبداده وطغيانه ، فيئس السلطان عبدالحميد الثاني ، وأيقن أن النهاية آتية لا محالة ، لكنه حين حاول الاسترخاء على مقعديه ، لاح له ، في الظلمات ، شبح مدحت باشا ، فتذكر أن " علي حيدر بك" ، ابن عدوه مدحت باشا ، كان عضواً في جمعية الاتحاد والترقي ، لكنه اعتزلهم حين أدرك أنهم مغرقون في الماسونية ، وأنهم يحرضون الدول الأوربية للقضاء على الدولة العثمانية ...!!..
... فأخذ السلطان يعض أنامله ندما ، لعدم اهتمامه بتقارير " جواسيسه " التي نقلت إليه تلك المعلومات ، و انتحب انتحابا شديداً ، مرددا :
إنها لعنة مدحت باشا ..!!..
إنها لعنة مدحت باشا ...!!..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...