علي حسين - دعونا نتفلسف.. (4) الفيلسوف الذي كانت حياته الجنسية من أخطر مسائل الميتافيزيقا الغربية

حاول أفلاطون في رائعته "الجمهورية" وضع تعريف للفلسفة يشرح أصل كلمة " فيلسوسوفيا " التي تعني حب الحكمة . وجاء أرسطو من بعده ليعدل بهذا المفهوم ، مؤكداً ان الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يحب صنوف الحكمة كلها لابعضها ، وكثيرا ما يطرح سؤال مهم : هل القضايا التي أثارها أفلاطون وأرسطو قد استطاعت الأجيال التالية لهما ان تقوم بحلها ، ثم قامت هذه الأجيال بطرح قضايا جديدة ، تضيف الى التراث الفلسفي اضافة حقيقية وترتفع بمشكلاته وحلوله خطوة اخرى الى أمام ؟ أم أن الفلسفة على خلاف العلم لاتمثل تاريخاً متطوراً من الإجابات والحلول ، وانما تمثل كما يقول البعض جزراً مستقلة ودوائر مقفلة . فافلاطون مازال سؤالاً حتى اليوم في الفكر البشري ، وسقراط مازال حلماً ، واسبينوزا رؤيا عزيزة ، وهيغل عمارة شامخة ، ونيتشة صرخة لاتموت من أجل الإنسان الأعلى ، وكيركجارد توتراً من أجل الخلاص الحقيقي .



الحاكم الفيلسوف
كان افلاطون في الثامنة والعشرين من عمره حين أُعدم سقراط ، فقرر ان يرتحل الى أماكن عديدة ، حيث أدرك ان :" انظمة الحكم في كل الدول سيئة ، لذلك فأنا مجبر على القول ان الجنس البشري لن يعيش اياما افضل الى ان يتولى السلطة السياسية من يتبعون الفلسفة حقاً وصدقاً ، او حين تولي العناية الإلهية من بيدهم السلطة الى فلاسفة حقيقيين " . كان هذا عام 299 قبل الميلاد ، وبعد هذا التاريخ بما يقارب ألفي عام قدّم فيلسوف شاب رسالة في نقد "جمهورية افلاطون" المتخيلة ، حاول من خلالها أن يجيب على اسئلة كانت تدور في مجتمعه آنذاك :
• ما الذي يجب على الحاكم ان يفعله؟
• أي أمل للشعب في حاكم يعشق الفلسفة ؟
• ثم اضاف سؤالاً ثالثاً : من هو الحاكم المثالي ؟
كان اسم هذا الشاب إيمانؤيل كانط ، طرح نظريته الأساسية التي تقول: ان "عقل الإنسان ليسَ عجينةً سلبية تتقولب حسب الطريقة التي تحتّمها وتختارها التجربة والأحاسيس، وليس مفهوماً افتراضياً لمجموعةٍ من الحالات العقلية. عقل الإنسان عبارة عن عضو فعّال نشيط يشكل الأحاسيس ويرتبها على شكل أفكار، ويحوّل خضم التجارب المتعددة إلى وحدة فكرية مرتبة" .
************
الفيلسوف الذي يحتفظ بقائمة الموتى في جيبه
ولد إيمانؤيل كانط عام 1724في مدينة كونيجسبرغ الألمانية لعائلة فقيرة ، الأب كان صانعاً لسروج الخيل ، يعيل عائلة كبيرة من تسعة افراد توفي اربعة منهم بسبب الأمراض ، كان الأب يطمح ان يتعلم ابنه مهنة السراجة ليواصل الحفاظ على إرث العائلة التي امتهنت هذه المهنة من مئات السنين ، إلا أن قريب لهم يعمل قساً ، اكتشف في هذا الطفل نبوغاً كبيراً ، فقرر ان يساعد العائلة ويتكفل بمصاريف تعليمة، فأدخلة مدرسة ابتدائية ثم التحق بالثانوية ، توفيت أمه وهو في سن الثالثة عشرة ، فتركت أثراً حزيناً في حياته . وقبل ان يدخل الجامعة توفى الأب ، وبعده بأشهر مات القس ، فاضطر ان يتوقف عن الدراسة ليعمل في مهن كثيرة : بائع كتب ، عامل سراجة ، مدرس خصوصي، ليساعد أسرته المكونة من أخ وثلاث شقيقات . بعدها استطاع ان يتابع دراسته في اوقات الفراغ ، لاسيما بعد ان وجد مهنة عند احدى الأُسر الغنية . في السنوات العشرين الأخيرة من حياته عاش حياة مريحة ، فقد جعلت منه شهرته واحداً من أعلى الأساتذة دخلاً ، وخلال هذه الفترة اشترى كانط منزلاً خاصاً به ، وسط مدينة كونيجسبرغ التي لم يفارقها طوال حياته ، التي قاربت الثمانين سنة ، كرّس معظمها للتأمل والكتابة . في هذا البيت، لم يسمح بوجود قطعة ديكور واحدة سوى صورة كبيرة لجان جاك روسو ، الذي كان كانط يدين له بالفضل في اكتشافه لفلسفته النقدية . في المطبخ الصغير كان كانط يتناول وجبته الحقيقية الوحيدة طوال اليوم ، وهي وجبة العشاء ، والتي اعتاد ان يدعو اليها عدداً من أصدقائه المقربين . لم يغامر قط بالسفر خارج مدينته ، كان يطبق نظاماً صارماً على حياته ، يستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً حيث يتناول قدحاً من الشاي مصحوباً بتدخين غليون واحد ، ثم يقوم بإعداد محاضراته التي كان يلقيها ستة ايام في الأسبوع ، وكان يبدأها في الثامنة صباحاً ، وبعد ان ينتهي منها يتفرغ للدراسة والكتابة ، بعدها يخلد لغفوة من النوم متمدداً على كرسي في حجرة المكتب ، وعندما تحين الساعة الخامسة عصرا ، يبدأ ممارسته نزهته الرياضية التي كان توقيتها بالغ الدقة ، ولا يتغير ابدا ، حتى ان ربات البيوت كنّ يضبطن ساعاتهن بالدقيقة على اللحظة التي يمر بها تحت نوافذهن . لم تربك حياته علاقات نسائية ، في شبابه كان يصر ،بعد الانتهاء من القاء محاضراته، على الذهاب الى المقهى للعب البليارد ، لأنه كان يعتقد ان في ذلك تنشيطاً للذهن . كان يحب الهدوء ، ويقال انه في ايام فقره غَير في عام واحد ستة بيوت ، ومن الطريف ما يروى عنه انه غير بيته بسبب ديك يملكه احد الجيران ، حيث كان صياحه يزعج الفيلسوف في لحظات تأمله ، وقد حاول مراراً ان يشتري هذا الديك بأي ثمن ، ليرتاح من إزعاجه ، إلا أنه لم يتمكن من إقناع الجار الذي كان يتعجب كيف ان ديكاً بسيطاً يمكن ان يزعج فيلسوفاً عظيماً . ولعلّ اكثر ما يسترعي الانتباه في شخصية كانط ، انه كان يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة ، فقد كان يعتقد ان من المهم ان يطول عمر الإنسان ، وكان يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها ، وظل مدير الشرطة يوافيه شهرياً بحالات الوفاة التي تقع في المنطقة القريبة من بيته .
ويقدم لنا الشاعر الألماني "هايريش هاينه" وصفاً طريفاً لحياة كانط ، فهو يقول : من العسير كتابة تاريخ حياة إمانؤيل كانط ، لم تكن له حياة ولاتاريخ ، وانما كانت حياته حياة أعزب عجوز ، مجردة آلية التنظيم ، في شارع هادئ منعزل ، ولست اعتقد ان الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحو اكثر دأبا وانتظاماً مما كان يؤديه مواطنها عمانؤيل كانط ، فقد كان يلتزم وقتاً محدداً في استيقاظه ، وشربه القهوة ، وفي كتاباته وقراءاته ، وأكله ومشيه ، وكان جيرانه يدركون ان الساعة قد بلغت الواحدة والنصف بالضبط عندما يعود كانط من الجامعة مرتدياً معطفه الرمادي ، وفي يده عصاه الخيزرانية ، ويسير في شارع شجرة الليمون الذي اطلق عليه فيما بعد طريق الفيلسوف ، تخليدا لذكراه . كانت الناس لاترى فيه سوى استاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم يحيونه تحية الصديق ، ويضبطون ساعاتهم عليه ، ولكنهم لم يدركو ان هذا الرجل يمارس بصمت عملية "تهديم" لأفكار قرون مضت . "
ورغم ان الفيلسوف كان مشغولاً بحالته الصحية الى درجة الوسوسة ، الا انه كان يهتم كثيرا باناقته ، ويصر على ان تتناغم سترته الطويلة مع جواربه ، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته : من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة ، على ان تكون الموضة خارج حساباتك".
خالط الفيلسوف القليل من النساء في حياته ، فيما عدا أخته التي ابتعدت عنه لوقت طويل. ومن الطريف ان فوكو يكتب في مقاله عن كانط : "ان الحياة الجنسية لكانط تعد من أخطر مسائل الميتافيزيقا الغربية ".
************
ماهو التنوير؟
عام 1854 ،وفي الاحتفال الذي أقيم بمناسبة مرور خمسن عاماً على وفاة كانط ، يكتب فيلسوف العدمية آرثر شوبنهور: "ان الفلسفة الحقة اذا كانت بدأت مع افلاطون ، فإنها اختتمت مع كانط ، وانني مهما كان من الأمر لابد من ان أنكر وجود اي تقدم في هذه الفلسفة خلال الفترة الزمنية التي تفصل بيني وبينه " ، كان شوبنهور يؤكد في كل كتاباته على ان كانط عرف كيف يجيب على الأسئلة التي لم تكفّ الفلسفة عن طرحها على نفسها
في العام 1760 كان كانط قد بلغ الحادية والثلاثين من عمره ، مدرساً مغموراً ، إلا أنه كان في اوقات فراغه التي يقتنصها بين عمله كمدرس ، ووظيفته كمربٍّ في بيوت الأثرياء ، يضع الجانب الأكبر من فلسفة القرن التاسع عشر على هيئة مقالات يحاول من خلالها ان يقدم مراجعة لتاريخ الفكر الفلسفي . وفي ذلك الوقت نرى ان احدى الصحف تمتنع عن نشر مقال له يطالب فيه بمزيد من التنوير في الأمور الدينية والسياسية ، ونرى كانط يعود لهذا الموضوع الأثير ،واعني التنوير، بعد اربعة وعشرين عاما لينشر في عام 1784 مقالاً بعنوان "ما التنوير؟ " ، وكان المقال رداً على سؤال وجهته احدى جرائد برلين على مفكري المانيا آنذاك : ما هو التنوير؟ وقد شارك العديد منهم بإجابات البعض منها غامض وأخرى مراوغة ، قبل ان يرسل كانط جوابه الذي لم يكن يتجاوز العشر صفحات . ويرى ميشيل فوكو ان هذا النص القصير الذي كتبه كانط أحدث بدعة جديدة لم يعرفها تاريخ الفلسفة ، وهي انشغال الفيلسوف بقضايا المجتمع والعصر. وفي هذا المقال يطالبنا كانط بأن نرمي وراء ظهورنا حالة التخلف البدائية التي ينقاد لها عقل الإنسان لفكر شخص آخر ، ويؤكد كانط اننا يجب ان ننظر للتنوير على انه عملية اجتماعية وتاريخية ، فخلال كل ماضي الإنسانية ، اعتاد الناس على ان يوكلوا مهمة التفكير لغيرهم ( الحكومات الأبوية ، وسلطة الكتب المقدسة ) ، والأخطر من ذلك والأكثر إهانة وفساداً للإنسان في رأي كانط هو سلطة الكهانة الدينية التي تغتصب وظيفة العقل البشري ، ويصبح التنوير مستحيلاً بالنسبة للإنسان المنعزل ، ولكنه يصبح ممكناً عندما تكون ممارسة التفكير النقدي سائرة بين عموم الناس ، حيث تسود روح التحرر والتواصل بين كل افراد المجتمع . وقد حظي الكتيب الصغير هذا باهتمام فلاسفة فرنسا الذين اعتبروه فعلاً ثورياً جريئاً ، يطالب صاحبه فيه ان يتحرر الانسان من القيود التي وضع نفسها بها ، وان يطوّر مقدرته على الفهم ، حيث كان كانط يرى ان ما يقف وراء تخلّف الانسان هو :"الكسل والجبن الذي يجعل الناس يمارسون سلطة الوصاية بعضاً على بعض ، وان البعض يتدرب لكي يمارسوا هذه الوصاية". وفي هذا الإطار ينعى كانط الإنسان وكان يرى ان : "هؤلاء الأوصياء يسهرون حريصين على ان يعتبر الجزء الأكبر من ابناء البشر، تحررهم امراً خطيراً، لا مسألة غير مناسبة وحسب، وهم لتأكيد ذلك يركزون حديثهم دائماً على المخاطر التي تحيق بالبشر حين ينطلقوا وحدهم من دون أدلة ومن دون وصاية ".
فما هو المطلوب اذاً ؟ ان المطلوب هو :" تلك الحرية التي تعتبر، عادة، اكثر الحريات براءة: " حرية ان يعقل الإنسان الأمور في رأسه وفي ما يتعلق بأي موضوع من المواضيع". ويستخلص كانط ان الواجب الأول الذي يتعين على كل دولة متنورة ان تمارسه انما يكمن في تربية الناس على مفهوم الحرية. اما احترام النقد والاستقلال الفكري فيتعين ان يعتبر واحداً من المبادئ الاساسية في الوجود.
وبالتالي فإن التنوير حسب مقالة كانط هذه ، يعني حق الانسان في النقد ، اي حقه في استخدام عقله بكل حرية مطلقة لاتحدها حدود الكهنة الذين يعتبرون انفسهم ظل الله على الارض . وقد اصر كانط ان يقدم تفسيراً عقلياً للدين ، فأكمل كتابه "الدين في حدود العقل وحده" الذي بعث به للنشر، إلا أن الرقابة رفضت نشره ، فقرر ان يبعث به الى أكاديمية الفلسفة التي لم تكن مؤلفاتها تخضع للفحص ، فنشر الكتاب الذي أثار حفيظة القصر الملكي فأرسل للفيلسوف كتاباً شديد اللهجة يعلن فيه استياء الملك من المؤلف الذي :" أساء استخدام فلسفته للتحريف والحطّ من شأن الكثير من التعاليم الرئيسية والاساسية في النصوص المقدسة والديانة المسيحية " ، وصدر أمر ملكي بألّا يقوم كانط بالتدريس او الكتابة في الموضوعات الدينية إلا بعد ان يكون قادراً على تعديل آرائه لتتوافق مع معتقدات الديانة المسيحية ، والحقيقة ان كتاب كانط عن الدين كان صرخة في وجه الكهانة الدينية ، فالفيلسوف العقلاني لا يؤمن بوجود اي دور للخلاص بآلام المسيح وموته فداء للمؤمنين ، فإيمانه الديني العقلاني لامكان فيه للمعجزات ، ويؤكد بطلان الممارسات الدينية كالتوسل بالصلاة التي يعتبرها كانط خدمة خرافية زائفة للرب ، عندما تطرح بوصفها طقوساً ضرورية للاستقامة الأخلاقية او لتبرئة الخاطئ أمام الله ، وقد أدى موقفه المتشدد هذا من الطقوس الدينية انه رفض من حيث المبدأ المشاركة في طقوس دينية حتى حين طلب منه منصبه الرسمي باعتباره رئيساً لجامعة كونجزبرج ان يشهد احتفالات دينية وكان يتعلل دوماً بانه مريض .
************
ثلاثية العقل
طوال حياته الجامعية ، تفرغ كانط لمشروعه الفلسفي النقدي ، فمنذ أن أصبح أستاذاً للفلسفة في الجامعة، حاول ان يحل ألغاز العقل الكبرى؛ قام بتطويق الأسئلة الكبرى التي شغلته منذ الصبا : من أين يأتينا اليقين في معارفنا ؟ هل يوجد نظام في النفس كما كان في السماء نظام ؟ . وأخيرا، أين يمكن العثور على نقاط ثابتة في الطبيعة؟
وعلى الرغم من طبيعة التعقيد في كتابات كانط، كما وصفها المؤرخ ويل ديورانت، حينما نصح بـ "أن نخالف القاعدة المعروفة، فنقرأ عمن كتب عنه قبل أن نقرأ ما كتبه هو بالذات" ، ويضيف ديورانت في كتابه "قصة الفلسفة"، إن "الفلسفة وجدت نفسها وسط أنقاض خربة، قوضتها بنفسها ودمرتها بيدها . فجاء كانط وقرأ في عام 1775م الترجمة الألمانية لكتب ديفيد هيوم، فروًعته هذه النتائج وأيقظته من نعاسه العقائدي ، وشرع في تأسيس فلسفة جديدة، ينقذ فيها الأخلاق والعقل؛ فكان مشروعه "نقد العقل الخالص" الذي شكل تياراً ضخماً هادراً تضرب أمواجه حتى اللحظة. "
ويؤكد ديورانت إن كل "الفلسفات لم تكن سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار كانط الفلسفي القوي الثابت، على نحو أشد عمقاً واتساعاً. وما تزال فلسفة كانط حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة"؟!
وعندما صدر كتابه "نقد العقل الخالص" عام 1781م، وكان عمره آنذاك 57 سنة، بعد صمت استمر عشر سنوات، قوبل بتحفظ شديد، ولكنه قام في الواقع بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق.مؤكداً : " إن الجزم بالمفاهيم السائدة ، بكلمة نعم أو لا يعتبر مصيدة عقلية ، وسعى كانط الى انقاذ القوانين العلمية للطبيعة ، وعلى الأخص علم الفيزياء من الشك ، وذلك عن طريق اثبات ان الارتباطات الضرورية لقوانين الفيزياء تقوم على التصور السببي الضروري للعقل البشري . لقد اضطر كانط لإنقاذ الحقيقة والمصداقية العلمية ، الى جعل القوانين العلمية تعتمد على العقل وتصوراته ، واضطر للقول بأن النظام الذي تبرهن عليه قوانين الفيزياء ليس في الطبيعة ، بل هو آتٍ من التصورات الكلية والضرورية للعقل الانساني . لقد اكتشف كانط ان الطبيعة لاتعطي العقل البشري قوانينها ، لكن العكس هو الصحيح ، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة ، من خلال تصوراته الضرورية التي تنظم جميع المواد الحسية ، وهذه هي التصورات التي تشكل وتنظم وتنشئ جميع تجاربنا ومعرفتنا بالطبيعة ، ونذكر عبارة كانط الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، وهكذا يتضح ان قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري . ومع ظهور كانط اصبح النظام العالمي تابعاً للعقل كما قال الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل ، وبذلك نكون قد وضعنا ايدينا على مغزى التحول الفلسفي الجديد الذي أحدثه كانط ، فهو تحول عن العالم الخارجي للطبيعة المستقلة الى العالم الداخلي لنشاط وقدرات العقل كمفتاح لما نجربه ونختبره وما نعرفه. وبعد كانط وامتداد تأثيره ، سوف يثبت من خلال ثلاثيته النقدية الشهيرة " نقد العقل الخالص " و " نقد العقل العملي" و " نقد ملكة الحكم " . والذي اكد فيها ان العقل مفتاح لما نجربه ونختبره وما نعرفه ، وان اي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه ، والى تصوراته التي يستخدمها العقل في فهم الأشياء ، هذا التحول الكانطي فتح آفاقاً جديدة للفلسفة والعلوم والدراسات الإنسانية ،واعلن للمرة الاولى في التاريخ ان الانسان قادر بقوة عقله على فهم الحقيقة . وقد التزم هيغل وماركس وشوبنهور وسارتر وفوكو بوجهة نظر كانط هذه المعنية بطريقة تفسير وفهم عقولنا للأشياء .
************
في وصيته التي سلمها لاحد تلامذته طلب كانط ان يكتب على شاهدة قبره : " شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي " .
في العام 1800 يعتزل كانط الحياة العامة ، ويسعى احد طلبته "فيسانيسكي" على رعايته ، ويحرص طلبته على زيارته كل يوم وسماع محاضراته التي أخذت تنشر في المجلات الفلسفية . وفي عام 1803 يشتد عليه المرض للمرة الاولى ، فتخفت قدراته الجسدية شيئا فشيئا ، فيتوفى في 12 شباط عام 1804 قبل ان يتم عامه الثمانين بشهور قليلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...