ترعرعتُ في مرحلة كان تصنيفنا ضمن الدول “السّائرة في طريق النمو”، وبدا وقتها أننا كنّا على مشارف الاقتراب من “الدول المتقدمة”. وتشبعتُ أيام الدراسة في الجامعة بآمال “حوار شمال-جنوب” وازدهار دراسات عالم الجنوب. فمرّت السنوات تباعًا، وأنا أمنّي النفس بمغرب تتحقق فيه التنمية المتساوية وتكافؤ الفرص، والإشعاع الفكري والحضاري، على غرار دول كانت في مثل أوضاعنا قبل ثلاثين عاما. غير أنها خطّت خطا مستقيما نحو الرفاهية والديمقراطية.
زرتُ عددا ليس بالقليل من الدول في أربع قارات. وتبيّن أن قطارات الدول الأخرى السّائرة في طريق النمو، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتركيا وصلت، ولم يصل قطارنا بعد، وإن نحن في قلب العالم جغرافيا واستراتيجيا وحضاريا. هم يحصدون مؤشرات تقدم مرتفعة، ونحن نحصد تعثرات متتالية، ويسعى الخطاب الرسمي للتحايل بتبريرات واهية ووعود مؤجلة من أحدثها “النموذج التنموي” الذي يحمل في ثناياه نواة فشله. وتزداد العتمة في أعيننا وضغط الدم في شرايينا ونحن الآن ضمن الدول “السائرة نحو مزيد من التخلف” لعدة أسباب:
نظام تعليم منفصم الشخصية بين مدارس دولة بئيسة الحال ومدارس الخواص لأولاد فئة “ميزي.. تقرا.”
نظام صحة منقسم حسب مقياس “على قدر فلوسك، يتحدد علاجك.”
. نظام اقتصادي يمنح سلطة الاحتكار إلى مجموعة من العائلات التي تستفيد من حماية المخزن لمصالحها، فتخصص المغرب في منظومة ليبرالية خاصة: عقد القران بين المال والسلطة.
جامعات تراجع فيها البحث العلمي إلى منحدرات سفلى، وأصبحت الثقافة شبه منبوذة في الإعلام والخطاب العام.
صحفيون قالوا رأيهم في ممارسات الفساد، فأصبحوا في عتمة الزنزانات مدانين بأنهم “الفاسدون” في مغرب إفساد العدالة والتستر على الفساد الأعظم.
فنون لم تعد جميلة ولا تعكس ذوقا راقيا بفضل البدع المتكاثرة بين الطوطووية والباطمية والطراكسية في “هزّ البوط”، وأيضا العيوشية في الكشف “عمّا أسفل البوط” وغيرها من العربدات في تطور الفنون القبيحة
إعلام تحوّل إلى إعلان إشهاري ينفخ في الرداءة، ويلاحق قصص البؤس الفني، كمن يعيد ذبح المنخنقة والموءودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع في دور المسالخ المتعفنة، ويحاول توزيعها بين نقاط بيع اللحوم الطازجة.
أيها المواطنون: مغرب العجائب يخاطبكم!
هناك عجائبٌ تضع بصمات أصحابها على التاريخ البشري، ويصبحون أيقونات تسير بذكرهم الركبان في شتى الحقول المعرفية: ألبرت أيشتاين، يورغن هابرماس، يوهان غالتون، أمارتيا سان، وغيرهم ممن تم تكريمهم بجوائز نوبل، أو من تواضعوا بابتعادهم عن أضواء الكاميرات، وهي عجائب الألمعية والابتكار!
وهناك عجائبٌ من صنف آخر تثير الخيبة والغثيان، وتصيب المرء بالحنق من وجود مواطنة مشتركة في مغرب الطوطووية والباطمية والطراكسية وبقية التشوهات في الذوق العام والخطاب العام. وخلف الهالة الشعبية والشعبوية التي تحيط بهذه الظواهر الشاذة عن قاعدة الفكر والفن والجمال، يضيع أكثر من سؤال عن حال المجتمع المغربي المريض بعاهة المسخ الفكري والهزال الفني والعهر القيمي.
في مغرب العجائب، لا نسأل: كيف مات المثقف، وكيف اغتيل الفنان الملتزم، ولماذا تم هدم المسرح، ومن كسر أصابع فنون الرسم والنحت. وفوق كل هذه الخطايا، لماذا تم تجويف الجامعة من دورها وتهجين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، ولماذا انقسمت المدرسة إلى مدارس الدولة ومدارس الخواص؟ في مغرب العجائب، يسعون لتكريس الأمن الروحي، وأمننة المرحلة، وتوطيد أدوات الرصد والمراقبة. وفي هذه البيئة البديلة ينكشف اليوم فشل الدولة المركزية ووزارة الثقافة ووزارة الاتصال وغيرها في رفع سلم القيم وحماية الذوق العام.
طوطوويةٌ خفيةٌ أخرى في الجامعة المغربية!
عندما تكون ظاهرة اجتماعية جديدة شاذةً عن القاعدة ولم يفككها ويقيّمها البحث العلمي بعد، غالبا ما يصطلح عليها بإضافة ism بالانجليزية أو isme بالفرنسية، أو “ية” أو “وية”، من قبيل الغيتوية ghettoisn وهي ديانة جديدة يتعبد فيها أنصارها الشيطان ويترنمون على سماع موسيقى الشيطان في بعض أحياء نيويورك وأتلانتا وكاليفورنيا. وفي مغرب العجائب، ظهرت الطوطووية totoism أو totoisme، فيما يعتبرها البعض إبداعًا وشكلا تعبيريا لجيل جديد. وليس من الواضح كم من المئات أو الآلاف الذين “يطوطون” في جلسات سمرهم وأسلوب حياتهم. ويجوز الآن أن نضيف إلى القاموس المغربي الألفاظ التالية: “طاط” فعل ماضي، “يطوط” فعل مضارع، “طُطّْ” فعل أمر، و”طوطو” و”طوطية”إسم حال، و”طوطووية” مصدر، وهكذا دواليك ببقية المشتقات.
لا ضير أن تكون الطوطووية جليّة في الشارع، وأن يكون مؤسسها العظيم صريحا يكشف ما لديه من أفكار ومواقف وسلوكيات بشفافية ووضوح. بيد أن اللعنة الحقيقية أن تكون هناك طوطووية “أكاديمية”، وطوطووية “لغوية”، وطوطوية “تواصلية” داخل الجامعة المغربية، وتستند في شرعيتها إلى منصّة “الأستاذية”.تعالوا نتعرف على أحدهم وهو يقدم نفسه “أستاذا في القانون ومؤرخا وباحثا في علم مقارنة الأديان، ومؤلف كتب وأبحاث شتى حول التاريخ والمجتمع المغربيين”. يقول في اقتباس مباشر:
“طوطو…ثاني.. شوية ديال التواضع الله يعطيكم الخير.. شوية ديال الرّزانة والعقل والتواضع، وحبسوا من اعطاء الدروس للشباب..اذا طوطو اعتدى على شي فنان، كاين القضاء، وما شغلكم، ما شغلي… أمّا علاش گال هاكّا؟ ولا علاش يغني بحال هاكّا؟! راه ما شغل حتى واحد…وحتى واحد ما عندو الحق يدير فيها واعظ وفاعل خير، وحتى واحد ما وصي على المجتمع او على الشباب والنشء…تفكّر زبّور مّك انك حتى انت كنتي شاب وكنتي صغير…واعرف ان هاذ الجيل ماشي جيلك..واكْبر واصبر للسن والسنين، وادخل سوق كرّك… صبحنا على الله مع من تّلّينا يا العياذ بالله…”
لم تأت الطوطووية من فراغ، ولم تسقط صدفة من ثقب في الأوزون، بل هي نتيجة تراكم أكثر من خلل موجود أصلا في الجامعة وفي المجال العام وبتزكية الفعل التواصلي بمنظور هابرماسي. فكم من طوطو دَرَسَ على يد هذا “الأستاذ” الفاضل، الجليل، الخلوق، الرّفيع في ذوقه، والرّصين في علمه، والبليغ في لسانه، وهو يذكّر مخاطبيه ب “ز…” أمّهاتهم، ويدعوهم للدخول إلى “سوق ك…”!
لم تتغدّ الطوطووية من رافد واحد، بل من روافد عدة. ولا يزال المرء يتذكر محاولات آل عيوش قبل أعوام قليلة لإقبار الفصحى واستبدالها بالدارجة في التعليم، وأيضا فيلم البدعة الفنية من أجل التطبيع مع لغة الجنس الفاحش ونشر منطق “البورنو” علنا في وضح النهار بين الجمهور. وهناك أيضا المدرسة الباطمية والطراكسية والشطحات الشعبوية الأخرى التضليلية في الفنون والثقافة.
إذا أدار أي منكم وجهه يمنة ويسرة، سيكتشف وجود دعاة للطوطووية بشكل ضمني أو صريح منذ سنوات، فلا ينبغي أن نشعر بالمفاجأة أو نعبّر عن الاستغراب اليوم. لكن المؤكد أننا قضينا السنوات الأخيرة نتجاهل روافد معينة داخل المجتمع وعبر المنصات الجامعية والإعلامية تمهيدا لتتويج “الطوطو الأعظم” في حفلات الشارع وعبر الشاشات والمنصات، وفي التغطية “الإشهارية” وليس الإعلامية القياسية التي تمنحها له جمهرة من حملة الميكروفون وأجهزة التصوير وجماجم ترى فيه “نجم” المرحلة.
خنقُ السّنابل وسقيُ الطفيليات
واحَسرتاه.. واخَيبتاه.. واحُرقتاه.. ! انقلبت الآية وانتشرت مفارقة مدوّية في مغربٍ لم أعد أعرفه، أو أجدني لا صبورا أو غير مبالٍ، إزاء ما ألمّ به مسخ فكري وهُزال فني وعُهر قِيَمي، في حقبة تنمّ عمّا يرقى إلى ضياع البوصلة ومركّب التجاهل والنكران عند أهل الحلّ والعقد.
أستخدم مجازات “فلاحية” هذه المرّة من قبيل “خنق السنابل” و”سقي الطفيليات” لتبسيط المعنى العميق، ليكون أقرب إلى مخيلة المغاربة بحكم أن الإنسان ابن بيئته، أو كما كان الراحل الحسن الثاني يعتبر المغرب “بلدا فلاحيا” في المقام الأول. ولا ينبغي الابتعاد عن ثنائية الغرس في الفلاحة والغرس في العقول والأذواق والخطاب العام. ويعود أصل كلمة “ثقافة” culture إلى اللفظ اللاتينيcultura ، وهو “زراعة التربة” في عهد الإغريق، قبل أن اتسع المفهوم إلى “زراعة العقل أو القدرات أو الأخلاق” أوائل القرن السادس عشر.
قبل عقود قليلة، كان غيث الأمطار وافرًا في المغرب، فامتلأت السدود، واخضرّت أراضي البور وأراضي السقي على حدّ سواء. وبالتوزاي، كان غيث الأفكار عند جيل الحبابي، والجابري، وجسوس، والمرنيسي والفاسي وكنون، وأيضا غيث الإبداع لدى الشرقاوي، وبن يسف، والغرباوي، والكلاوي، فضلا عن غيث الإلهام لدى البيضاوي وعامر واجواهري، دون نسيان غيث الفرجة الراقية لدى الصديقي والطيب لعلج وبرشيد وغيرهم مُثمرًا ومزهرًا. كان أساتذة الجامعة والكتاب والرسامون والشعراء والملحنون وطنيّي الإخلاص، تقدميّي الرؤية، رصينيّي المنحى الفكري والأخلاقي، وراقيّي الذوق الفني.
ساهم هذا الزخم المغربي جدّا في تكوين أكثر من جيل، ومن خلاله ارتقت المخيّلة الجماعية لدى المغاربة، وإن لم يكن للجابري تقدير مغربي بألمعية أطروحته النقدية ومنهجية الفصل والوصل، وإن راعى بيئة المغرب السياسية والثقافية والدينية، فاقترح نسقه الوسطي “تبيئة المفاهيم”. كان الغيث متفرّقا وإن فُرضت قرارات المنع على محاضرات المهدي المنجرة في أكثر من مدينة مركزية أو مهمّشة (أستخدم فعلا مبنيا للمجهول “فُرضت” لمحاكاة تلك البدعة الخفية). وتشهد حالات أخرى على نبوغ مغربي اتسع له العالم، وضاق به صدر بعض الفئات في مغرب المركز.
واليوم، لا عجب أن يتزامن جفاف السماء وجفاف مغرب الفكر والفن والجماليات المتحضرة. ويحتار المرء في قياس مستوى التراجع أو بالأحرى زيادة التخلف في الأعوام الأخيرة. فصار الفضاء الثقافي والفني مرتعا خصبًا لغلبة الطفيليات والأعشاب الضالّة، فضلا عن أصحاب النزعات الوصولية والانتهازية سواء داخل الجامعة وعبر الفضائين الفني والإعلامي أو خارجهم، دون تعميم على ذوي الهمة الثقافية والفنية الوطنية الحقيقية.
مغرب العجائب اليوم يعاني ازدواجية الشخصية عندما يُوجّه السماد والماء والاهتمام والاعتراف إلى “نجوم” الصورة الباهتة، والرقصة الشاردة، و”الكَمْيَة الواعرة”، وإلى “مؤثري” التضليل والنفخ حسب الطلب، وليس إلى السنابل المثمرة. مغرب العجائب يُغرق الجمهور في مسلسل “طفيليات تنتصر على سنابل القمح” Parasites Triumph over Wheat Spikes بانتظار مسلسل آخر بطفيليات جديدة. فلا تذهبوا بعيدا..!
باختصار، منظومة التخلف ذات أضلاع متداخلة يتراكم من خلالها التخلف الفكري، والتخلف التربوي، والتخلف الجمالي، والتخلف الذي تكرسه “أيقونات” الزمن المغربي عاثر الحظ. وفي مغرب العجائب السخيفة، وصلتُ إلى مكابدة حقيقةٍ مؤلمةٍ: نأكل ونشرب الوعود الكاذبة والتبريرات الغبية، ونصاب بانقباض سياسي واقتصادي وثقافي مستمر. ونُخرج الرياح الفاسدة بلا توقّف فقط.
يأخذني التأمل بعيدا إلى لحظة اختزلت عبثية هذه المرحلة بشكل استباقي عندما كنا نغني:
(ومال قنديل ف الدوام طافي
ومال اصباحنا شمسو اعوافي
ومال ﯕلتتنا جافة ما بغات تروى
داويني كان ريت للعذاب اسباب
كل مانقول اعييت عاد ابديت اعذاب
و حطوني وسط لحصيدة انشالي يا بابا
يعلم الله بالمصيدة لقلوب الكذابة..!)
دامت لكم أفراحكم ورقصاتكم مع طوطو وبقية الطوطوويين، وأظلّ هنا حزينا على بلد يُطفأون شموعه ويدفعون به نحو العتمة والجهل المتكبّر.
د. محمد الشرقاوي – واشنطن
زرتُ عددا ليس بالقليل من الدول في أربع قارات. وتبيّن أن قطارات الدول الأخرى السّائرة في طريق النمو، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتركيا وصلت، ولم يصل قطارنا بعد، وإن نحن في قلب العالم جغرافيا واستراتيجيا وحضاريا. هم يحصدون مؤشرات تقدم مرتفعة، ونحن نحصد تعثرات متتالية، ويسعى الخطاب الرسمي للتحايل بتبريرات واهية ووعود مؤجلة من أحدثها “النموذج التنموي” الذي يحمل في ثناياه نواة فشله. وتزداد العتمة في أعيننا وضغط الدم في شرايينا ونحن الآن ضمن الدول “السائرة نحو مزيد من التخلف” لعدة أسباب:
نظام تعليم منفصم الشخصية بين مدارس دولة بئيسة الحال ومدارس الخواص لأولاد فئة “ميزي.. تقرا.”
نظام صحة منقسم حسب مقياس “على قدر فلوسك، يتحدد علاجك.”
. نظام اقتصادي يمنح سلطة الاحتكار إلى مجموعة من العائلات التي تستفيد من حماية المخزن لمصالحها، فتخصص المغرب في منظومة ليبرالية خاصة: عقد القران بين المال والسلطة.
جامعات تراجع فيها البحث العلمي إلى منحدرات سفلى، وأصبحت الثقافة شبه منبوذة في الإعلام والخطاب العام.
صحفيون قالوا رأيهم في ممارسات الفساد، فأصبحوا في عتمة الزنزانات مدانين بأنهم “الفاسدون” في مغرب إفساد العدالة والتستر على الفساد الأعظم.
فنون لم تعد جميلة ولا تعكس ذوقا راقيا بفضل البدع المتكاثرة بين الطوطووية والباطمية والطراكسية في “هزّ البوط”، وأيضا العيوشية في الكشف “عمّا أسفل البوط” وغيرها من العربدات في تطور الفنون القبيحة
إعلام تحوّل إلى إعلان إشهاري ينفخ في الرداءة، ويلاحق قصص البؤس الفني، كمن يعيد ذبح المنخنقة والموءودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع في دور المسالخ المتعفنة، ويحاول توزيعها بين نقاط بيع اللحوم الطازجة.
أيها المواطنون: مغرب العجائب يخاطبكم!
هناك عجائبٌ تضع بصمات أصحابها على التاريخ البشري، ويصبحون أيقونات تسير بذكرهم الركبان في شتى الحقول المعرفية: ألبرت أيشتاين، يورغن هابرماس، يوهان غالتون، أمارتيا سان، وغيرهم ممن تم تكريمهم بجوائز نوبل، أو من تواضعوا بابتعادهم عن أضواء الكاميرات، وهي عجائب الألمعية والابتكار!
وهناك عجائبٌ من صنف آخر تثير الخيبة والغثيان، وتصيب المرء بالحنق من وجود مواطنة مشتركة في مغرب الطوطووية والباطمية والطراكسية وبقية التشوهات في الذوق العام والخطاب العام. وخلف الهالة الشعبية والشعبوية التي تحيط بهذه الظواهر الشاذة عن قاعدة الفكر والفن والجمال، يضيع أكثر من سؤال عن حال المجتمع المغربي المريض بعاهة المسخ الفكري والهزال الفني والعهر القيمي.
في مغرب العجائب، لا نسأل: كيف مات المثقف، وكيف اغتيل الفنان الملتزم، ولماذا تم هدم المسرح، ومن كسر أصابع فنون الرسم والنحت. وفوق كل هذه الخطايا، لماذا تم تجويف الجامعة من دورها وتهجين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، ولماذا انقسمت المدرسة إلى مدارس الدولة ومدارس الخواص؟ في مغرب العجائب، يسعون لتكريس الأمن الروحي، وأمننة المرحلة، وتوطيد أدوات الرصد والمراقبة. وفي هذه البيئة البديلة ينكشف اليوم فشل الدولة المركزية ووزارة الثقافة ووزارة الاتصال وغيرها في رفع سلم القيم وحماية الذوق العام.
طوطوويةٌ خفيةٌ أخرى في الجامعة المغربية!
عندما تكون ظاهرة اجتماعية جديدة شاذةً عن القاعدة ولم يفككها ويقيّمها البحث العلمي بعد، غالبا ما يصطلح عليها بإضافة ism بالانجليزية أو isme بالفرنسية، أو “ية” أو “وية”، من قبيل الغيتوية ghettoisn وهي ديانة جديدة يتعبد فيها أنصارها الشيطان ويترنمون على سماع موسيقى الشيطان في بعض أحياء نيويورك وأتلانتا وكاليفورنيا. وفي مغرب العجائب، ظهرت الطوطووية totoism أو totoisme، فيما يعتبرها البعض إبداعًا وشكلا تعبيريا لجيل جديد. وليس من الواضح كم من المئات أو الآلاف الذين “يطوطون” في جلسات سمرهم وأسلوب حياتهم. ويجوز الآن أن نضيف إلى القاموس المغربي الألفاظ التالية: “طاط” فعل ماضي، “يطوط” فعل مضارع، “طُطّْ” فعل أمر، و”طوطو” و”طوطية”إسم حال، و”طوطووية” مصدر، وهكذا دواليك ببقية المشتقات.
لا ضير أن تكون الطوطووية جليّة في الشارع، وأن يكون مؤسسها العظيم صريحا يكشف ما لديه من أفكار ومواقف وسلوكيات بشفافية ووضوح. بيد أن اللعنة الحقيقية أن تكون هناك طوطووية “أكاديمية”، وطوطووية “لغوية”، وطوطوية “تواصلية” داخل الجامعة المغربية، وتستند في شرعيتها إلى منصّة “الأستاذية”.تعالوا نتعرف على أحدهم وهو يقدم نفسه “أستاذا في القانون ومؤرخا وباحثا في علم مقارنة الأديان، ومؤلف كتب وأبحاث شتى حول التاريخ والمجتمع المغربيين”. يقول في اقتباس مباشر:
“طوطو…ثاني.. شوية ديال التواضع الله يعطيكم الخير.. شوية ديال الرّزانة والعقل والتواضع، وحبسوا من اعطاء الدروس للشباب..اذا طوطو اعتدى على شي فنان، كاين القضاء، وما شغلكم، ما شغلي… أمّا علاش گال هاكّا؟ ولا علاش يغني بحال هاكّا؟! راه ما شغل حتى واحد…وحتى واحد ما عندو الحق يدير فيها واعظ وفاعل خير، وحتى واحد ما وصي على المجتمع او على الشباب والنشء…تفكّر زبّور مّك انك حتى انت كنتي شاب وكنتي صغير…واعرف ان هاذ الجيل ماشي جيلك..واكْبر واصبر للسن والسنين، وادخل سوق كرّك… صبحنا على الله مع من تّلّينا يا العياذ بالله…”
لم تأت الطوطووية من فراغ، ولم تسقط صدفة من ثقب في الأوزون، بل هي نتيجة تراكم أكثر من خلل موجود أصلا في الجامعة وفي المجال العام وبتزكية الفعل التواصلي بمنظور هابرماسي. فكم من طوطو دَرَسَ على يد هذا “الأستاذ” الفاضل، الجليل، الخلوق، الرّفيع في ذوقه، والرّصين في علمه، والبليغ في لسانه، وهو يذكّر مخاطبيه ب “ز…” أمّهاتهم، ويدعوهم للدخول إلى “سوق ك…”!
لم تتغدّ الطوطووية من رافد واحد، بل من روافد عدة. ولا يزال المرء يتذكر محاولات آل عيوش قبل أعوام قليلة لإقبار الفصحى واستبدالها بالدارجة في التعليم، وأيضا فيلم البدعة الفنية من أجل التطبيع مع لغة الجنس الفاحش ونشر منطق “البورنو” علنا في وضح النهار بين الجمهور. وهناك أيضا المدرسة الباطمية والطراكسية والشطحات الشعبوية الأخرى التضليلية في الفنون والثقافة.
إذا أدار أي منكم وجهه يمنة ويسرة، سيكتشف وجود دعاة للطوطووية بشكل ضمني أو صريح منذ سنوات، فلا ينبغي أن نشعر بالمفاجأة أو نعبّر عن الاستغراب اليوم. لكن المؤكد أننا قضينا السنوات الأخيرة نتجاهل روافد معينة داخل المجتمع وعبر المنصات الجامعية والإعلامية تمهيدا لتتويج “الطوطو الأعظم” في حفلات الشارع وعبر الشاشات والمنصات، وفي التغطية “الإشهارية” وليس الإعلامية القياسية التي تمنحها له جمهرة من حملة الميكروفون وأجهزة التصوير وجماجم ترى فيه “نجم” المرحلة.
خنقُ السّنابل وسقيُ الطفيليات
واحَسرتاه.. واخَيبتاه.. واحُرقتاه.. ! انقلبت الآية وانتشرت مفارقة مدوّية في مغربٍ لم أعد أعرفه، أو أجدني لا صبورا أو غير مبالٍ، إزاء ما ألمّ به مسخ فكري وهُزال فني وعُهر قِيَمي، في حقبة تنمّ عمّا يرقى إلى ضياع البوصلة ومركّب التجاهل والنكران عند أهل الحلّ والعقد.
أستخدم مجازات “فلاحية” هذه المرّة من قبيل “خنق السنابل” و”سقي الطفيليات” لتبسيط المعنى العميق، ليكون أقرب إلى مخيلة المغاربة بحكم أن الإنسان ابن بيئته، أو كما كان الراحل الحسن الثاني يعتبر المغرب “بلدا فلاحيا” في المقام الأول. ولا ينبغي الابتعاد عن ثنائية الغرس في الفلاحة والغرس في العقول والأذواق والخطاب العام. ويعود أصل كلمة “ثقافة” culture إلى اللفظ اللاتينيcultura ، وهو “زراعة التربة” في عهد الإغريق، قبل أن اتسع المفهوم إلى “زراعة العقل أو القدرات أو الأخلاق” أوائل القرن السادس عشر.
قبل عقود قليلة، كان غيث الأمطار وافرًا في المغرب، فامتلأت السدود، واخضرّت أراضي البور وأراضي السقي على حدّ سواء. وبالتوزاي، كان غيث الأفكار عند جيل الحبابي، والجابري، وجسوس، والمرنيسي والفاسي وكنون، وأيضا غيث الإبداع لدى الشرقاوي، وبن يسف، والغرباوي، والكلاوي، فضلا عن غيث الإلهام لدى البيضاوي وعامر واجواهري، دون نسيان غيث الفرجة الراقية لدى الصديقي والطيب لعلج وبرشيد وغيرهم مُثمرًا ومزهرًا. كان أساتذة الجامعة والكتاب والرسامون والشعراء والملحنون وطنيّي الإخلاص، تقدميّي الرؤية، رصينيّي المنحى الفكري والأخلاقي، وراقيّي الذوق الفني.
ساهم هذا الزخم المغربي جدّا في تكوين أكثر من جيل، ومن خلاله ارتقت المخيّلة الجماعية لدى المغاربة، وإن لم يكن للجابري تقدير مغربي بألمعية أطروحته النقدية ومنهجية الفصل والوصل، وإن راعى بيئة المغرب السياسية والثقافية والدينية، فاقترح نسقه الوسطي “تبيئة المفاهيم”. كان الغيث متفرّقا وإن فُرضت قرارات المنع على محاضرات المهدي المنجرة في أكثر من مدينة مركزية أو مهمّشة (أستخدم فعلا مبنيا للمجهول “فُرضت” لمحاكاة تلك البدعة الخفية). وتشهد حالات أخرى على نبوغ مغربي اتسع له العالم، وضاق به صدر بعض الفئات في مغرب المركز.
واليوم، لا عجب أن يتزامن جفاف السماء وجفاف مغرب الفكر والفن والجماليات المتحضرة. ويحتار المرء في قياس مستوى التراجع أو بالأحرى زيادة التخلف في الأعوام الأخيرة. فصار الفضاء الثقافي والفني مرتعا خصبًا لغلبة الطفيليات والأعشاب الضالّة، فضلا عن أصحاب النزعات الوصولية والانتهازية سواء داخل الجامعة وعبر الفضائين الفني والإعلامي أو خارجهم، دون تعميم على ذوي الهمة الثقافية والفنية الوطنية الحقيقية.
مغرب العجائب اليوم يعاني ازدواجية الشخصية عندما يُوجّه السماد والماء والاهتمام والاعتراف إلى “نجوم” الصورة الباهتة، والرقصة الشاردة، و”الكَمْيَة الواعرة”، وإلى “مؤثري” التضليل والنفخ حسب الطلب، وليس إلى السنابل المثمرة. مغرب العجائب يُغرق الجمهور في مسلسل “طفيليات تنتصر على سنابل القمح” Parasites Triumph over Wheat Spikes بانتظار مسلسل آخر بطفيليات جديدة. فلا تذهبوا بعيدا..!
باختصار، منظومة التخلف ذات أضلاع متداخلة يتراكم من خلالها التخلف الفكري، والتخلف التربوي، والتخلف الجمالي، والتخلف الذي تكرسه “أيقونات” الزمن المغربي عاثر الحظ. وفي مغرب العجائب السخيفة، وصلتُ إلى مكابدة حقيقةٍ مؤلمةٍ: نأكل ونشرب الوعود الكاذبة والتبريرات الغبية، ونصاب بانقباض سياسي واقتصادي وثقافي مستمر. ونُخرج الرياح الفاسدة بلا توقّف فقط.
يأخذني التأمل بعيدا إلى لحظة اختزلت عبثية هذه المرحلة بشكل استباقي عندما كنا نغني:
(ومال قنديل ف الدوام طافي
ومال اصباحنا شمسو اعوافي
ومال ﯕلتتنا جافة ما بغات تروى
داويني كان ريت للعذاب اسباب
كل مانقول اعييت عاد ابديت اعذاب
و حطوني وسط لحصيدة انشالي يا بابا
يعلم الله بالمصيدة لقلوب الكذابة..!)
دامت لكم أفراحكم ورقصاتكم مع طوطو وبقية الطوطوويين، وأظلّ هنا حزينا على بلد يُطفأون شموعه ويدفعون به نحو العتمة والجهل المتكبّر.
د. محمد الشرقاوي – واشنطن