عبدالرحيم التدلاوي - عن الدهشة في مجموعات عبدالسميع بنصابر "السكابندو"، ومحمد العتروس "الشجرة العمياء"، وسعيد رضواني "قلعة المتاهات".. الجزء الثاني

الجزء الثاني.

القاص البارع هو الذي يحقق الدهشة، ويشبه في فعله الساحر الذي يبهر العيون ويطلق صرخات الإعجاب بعيون مفتوحة وأفواه على شكل O أجنبية. إنه الساحر الذي يأتي باللامتوقع، والمبهر والمثير للحيرة والتعجب.
هكذا يجعلنا عبد السميع بنصابر نتابع مآل "السكابندو" وهو يعيش مأساة من أغرب ما يمكن أن يقدمه عالم الخيال السينمائي ( le fantastique).
وتتجسد الدهشة في مجموعته بتجسيده لـ "الواقعية السحرية" باعتماده التفاصيل الدقيقة للحياة الشخصية لشخصيات رواياته ومحيطها، أو بالمواقف المستمدة من خيال جامح، لكن دون انسلاخ عن مواقف من الحياة الواقعية.
ففي قصة "الكلب الذي صارني" يضعنا السارد أمام وضع غريب نتيجة دخله في صراع مع كلب آخر لتكون النتيجة تحولا في الأدوار حيث يصير الكلب إنسانا بجبة ولباس السارد، فيما يصير السارد كلبا ساردا يعبر عن غضبه ورغبته في الانتقام، لكنه يلقى عنفا من طرف المصلين، والغريب أن الكلب السارد لاحظ جملة أخاء فادحة يرتكبها الإمام دون أن ينبته لها أيام كان إنسانا بفعل العادة والتكرار. وترافقنا الدهشة طول القصة حين سيصادف كلبة كانت مومسا قبل أن تسرق منها كلبة ضالة هويتها بالكامل. وحين يطلب منها الزواج هو الذي كان يكره المومسات لما كان إنسانا، تدعوه إلى الإفطار من قمامة قريبة، فيسعد لذلك لأنها أول مرة سيتناول طعاما مع أنثى بجيوب فارغة.
تكمن الدهشة في هذا العمل في قذف القارئ في عالم خيالي يتميز بلا واقعيته وغرائبيته؛ فتقنية الفانتاستيك صيرت المألوف لا مألوفا، وجعلت الغريب محتمل الوجود، وقابلا للتحقق والتصديق.
تعمل مجموعة"السكاباندو" على تكسير مفهوم الواقع بالمعنى التقليدي، ووضع وتشيـيد واقع احتمالي افتراضي، قد يَحْدُث ولا يَحْدُث، يقوم على أسس جديدة. يتداخل فيها الواقعي باللاّواقعي العقلاني باللاّعقلاني، قوامها اللعب، عبر الحلم والتخيُّل اللذين يهدّمان الواقع ويلغيان قواعده ويؤسّسان قواعد خاصة تـتجاوز الواقع الذي يصبح مجرد احتمال من الاحتمالات التي يخلقها الحلم واللعب واللغة.؛ فاللغة فاعل مهم في تشكيل عوالم الغرابة، وبالفانتاستيك يتولد الجمال وتتحقق المتعة، وتطفو الدهشة الباعثة على السؤال.
ثم إن من بين سمات الدهشة في المجموعة قدرة القاص على صنع شخصية متفردة تمكنت من أن تسكن عقل ووجدان القارئ بفعل غرابتها وطيبتها الزائدة، وما تعرضت له من قسوة قادتها إلى نهاية مأساوية.
ولأن عالم مجموعة عبد السميع عامر بالغرائبي فإنها بذلك تصنع دهشتها التي تنفتح على العالم الواقعي من خلال البعد الفانتستيكي، لنعيد قراءته بشكل أصوب كما في قصة "يوم خارج الجسد" وفي بقية القصص الأخرى التي صيغت بأسلوب غاية في الجمال، ولغة بسيطة تولد الدهشة وتصير القصص حبات لذيذة سريعة الذوبان في نفس وذهن القارئ، وتظل عالقة بهما تستحثه على إعادة القراءة وطرح الأسئلة لفض الغريب وتبيان أبعاده.
يؤسس محمد العتروس في مجموعته "الشجرة العمياء" من أشياء العالم كونه التخييلي، جاعلا اللعب السردي وطريقة الحكي مدماكين أساسيين في بنائه للنصوص، رادما الحدود بين الواقعي والتخييلي؛ فالتداخل بين العالمين شديد لدرجة لا يمكن تلمسه، فحين يقول الواقعي يقول في الآن ذاته الخيالي. هما قولان متشابكان يدفعان بالقارئ إلى محاولة الوقوف على الحد الفاصل بينهما حتى يتمكن من الفصل المبين والقبض على المعاني الثاوية بين السطور، ويطمئن إلى تأويل ممكن للعالمين.
وفي هذا التلاعب واللعب الحر باللغة وتشغيل الخيال تتبدى بكل جمالها تلك الدهشة المشتهاة.
ولا تكتفي المجموعة بهدشتها أعلاه، بل تمتد بخلق نوع من الحوار المضيء بين نصوصها بل نجدها تتعمد خلق قصة داخل قصة لتضيئها، وتسمح للقارئ بالقبض على معانيها المنفلتة، كما هو الشأن في قصتي "حين يصبح الإسكافي نجارا" ص29، وقصة "كلب" ص65.
أما سعيد رضواني فنجده يستثمر السرد غير الواقعي لتحقيق الدهشة؛ هذا المفهوم الذي يقوم ، بحسب نادية هناوي، على فكرة عدم استنساخ العالم بشكله المباشر والممكن، وإنما التعبير عنه على نحو غير ممكن، تحكمه مبادئ لا علاقة لها بالعالم الموضوعي، لكن بالفهم الإدراكي الذي يعزز الصلة التوليفية بين السرد والعقل، فيغدو التواصل السردي مع أمور غير قابلة للتصديق في عالمنا القائم، مرتهنا بالفهم الإدراكي لما هو غير معقول. ولا تتحدد الإثارة في السرد غير الواقعي في ما يفتحه من أبواب تعيد النظر في شرائح واسعة من تاريخ الأدب وفئات من النماذج الأدبية المغمورة والمطمورة حسب؛ بل أيضا في ما يتيحه هذا السرد من مصادر إلهام للكتّاب، فيها يجدون وسائل جديدة في التفنن الإبداعي والإبهار بالإيهام.
وتنبع دهشة القص كما نبعت من الرجل الذي يدير ظهره إلينا ويواجه الشمس أفقا مرغوبا وبينهما متاهة هي مكمن الدهشة ومنبع سؤاله المضمر: كيف أعبرها لأبلغ منابع النور والمتاهة ظلمة؟ أهي فخ أريد بي لأقع فيه أم مسلك ذكاء علي القبض على خيوطه وتفكيكها كأحجية تقودني إلي المخرج بسلام؟
ففي "أغنية الحياة" التي تشبه نغمة "إرادة الحياة" للشابي. تتجلى سحرية الكتابة في جعلها المستحيل ممكنا. إنها كتابة تحتفي بالحواس وتراسلها. حيث يذوب الكل في الصعقة اللذيذة للفن. يذوب الواقع وصخبه ليقوم الفن؛فن الرسم والغناء في انصهارهما الرائع؛ بمهمة سحر العقول والقلوب. محققا صعقة تجعل القارئ يذوب في الفن ويخبو في الواقع.
**
أما في التحدي فبالإضافة إلي تداخل واقع الكتابة بالواقع الملموس؛ فإن الكتابة تصبح حقلا متشعب المحافل يدفعك إلى الحذر من المفاجآت واللامتوقع. فقد تخلق الكتابة شخصيتها العجيبة بطريقة عجيبة، تمنحها قدرات تمكنها من الانفصال عن العالم التخييلي لتصبح جزءا من الواقع تتخرك فوق رقعته تسير باتجاه الكتابة حاملة سيف حضورها الواقعي لتضرب عنق الكاتب فتتحرر من المكتوب وبالتالي تصير شخصية حقيقية ومستقلة ومنفصلة عن الروابط التي شكلتها؛ وكأنها تقطع حبل سرها الذي يربطها بها. والنتيجة الختامية تجعل هذا الانفصال ملتبسا؛ أي وقوعه يظل رهن ميل القارئ إلي أي ضفة يميل..
إن السرد غير الواقعي، كما ذكرت الباحثة هناوي، سرد يخرق المعتاد ويجعله غير مقبول، لكنه بمنطقية التحبيك السردي، يصبح معتاداً هو ليس كذباً ولا خداعاً، بل مجموعة مسببات أفضت إلى نتائج مقبولة ومعقولة من ناحية منطقية الفواعل السردية، وما يسند إليها من فعل بطولي خارق أو عجيب وأهليتها في أن تكون هي الفاعلة بدور السارد، أو بدور المسرود مع تسلسل الزمان السردي بطريقة معقولة ليست غرائبية، ما يعطيها واقعيتها ويصبح السرد موصوفاً بأنه سرد واقعي.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...