(4)
أما اللغة والأسلوب فكل المجموعات نحتت لنفسها تعابيرها الخاصة واللذيذة. وتأتي الدهشة من تطويعها للتعبير عن مختلف الحالات المعبر عنها بما فيها الفكرية، فتجعلك، إضافة إلى النسيج البارع، مندهشا من الصنعة والمهارة في الصوغ والبناء وحلاوة التعبير.
للنظر إلى الفقرة الأخيرة من "تاريخ الحب" للفنان أحمد يوزفور، والجزء الأول من قصة "القنفذ" للمبدع نفسه، سنجد بعض عناصر الدهشة الكامنة في مجموعته "إني رأيتكما معا"، فالفقرة الأولى تشعر القارئ وكأن السارد في مختبر علمي يضع تحت مجهره الفني حبة التراب ليتابع مراحل تحولها حتى تصير حبة رمل. مع التنبيه إلى أن كلمة حبة تحمل في طياتها كلمة الحب مناط النص ومحوره.
لقد وجدت حبة التراب نفسها ضائعة في بحر من رمال الصحراء. وسيوظف السارد مجموعة من الآليات الفنية للتعبير عن هذا الضياع والتحول، ومنها: التكرار؛ تكرار شبه الجملة من الجار والمجرور، بتغيير المجرور والمحافظة على حرف الجر:
بحثت عن ذرة تراب أخرى..
عن عشبة..
عن قطرة ماء.
مما يمتع النفس بهذه الموسيقى التي تترنم بها الفقرة فتلذ لها النفس وترتاح.
الحبة في بحثها المضني عن أساب الحياة دون جدوى سيدخلها مرحلة التكيف لتصير حبة رمل. وللتعبير عن التحول تم توظيف أسلوب المبالغة في اللون باعتماد الصيغ الصرفية ذات الارتباط، ك، افعوعل، وافعالّ، صحبة فعل مضاعف اللام: تتصلب. وجميع تلك الأفعال جاءت في صيغة المضارع، وكأننا نراها تقع أمام أعيننا، أو تحت المجهر لكونها متناهية الصغر إلى أن تصير حبة رمل عقيم.
وحين ننتقل إلى القصة الموالية "القنفذ" سنجد أنفسنا أمام التشبيه المضاعف. فالفقرة الأولى تعج بالتشبيه؛ حيث يفضي تشبيه إلى تشبيه آخر في توالد بلاغي عجيب، وحيث يصير المشبه مشبها به، يقول المقطع:
شعراته الصغيرة مصفوفة منتظمة كقطيع ماعز...لا...كقطيع جداء. جداء ساكنة كأنها خراف. في الظاهر فقط، لأنها في العمق جداء حية شديدة الحركة والنشاط، تتلع أعناقها الصغيرة أمامها وتتطاول، رغم قصرها، كأنما تعطو إلى ثمار شجرة بعيدة في السماء. ص 11.
لقد رسم لنا السارد مشهدا عجيبا يعج بالحركة انطلاقا من شعرات رأس أخيه القصيرة.
فعندما نتأمل لفظة (كأن) الواردة بشكل متكرر نجدها، ما قال القاص بوكرامي في قراءته لققنس، تحمل الخاصية البيانية للتشبيه الذي يخرج الأمر من حد التوهم إلي حد اليقين. ويطلق عليه البلاغيون اسم التشبيه المجمل الذي يخرق قاعدة التشبيه العامة، فهو لا يقصد به التحديد القطعي بل التشبيه المفتوح علي الشك والحدس والصور المفتتة وتعدد الدلالات.
وفي القصة نفسها نعثر بالإضافة إلى التشبيه والاستعارة على تقنية التكرار الممتد:
شيء ضاغط كالكابوس يجعله، وهو مفتوح العينين، لا يرى
وهو مفتوح الأذنين، لا يسمع..
وهو مفتوح النفس، لا يشتهي
ولا يستجيب ولا يعجب ولا يشمئز ولا يرضى أو يرتاح. ص 12.
وهي صور تعبر عن انصرافه عن العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، وعيشه فيه. الأمر الذي حير متابعيه، وجعلهم يرغبون في معرفة حالته بدقة، وهو الأمر الذي سينهض به السارد وسيتعقبه أينما حل أو ارتحل.
لعل في طريقة تشكيل الصور، وبناء النص، وكيفية العرض ما يخلق الدهشة ويمنح القارئ حلاوة متابعة القص إلى آخر نفس غير قادر على الانفصال عنه أو تركه.
ثم إن الشعر الكامن في السرد شحن القصص بطاقة هائلة من الإدهاش؛ ومنحها فتنة وجمالا.
الصور منحوتة بفنية عالية وصاغتها أنامل فنان يخاطب كل جوارحنا ويحرك مشاعرنا ويمنح الروح فرصة التحليق من دون قيود بعد أن نزع عنها صدأ العادة والتعود؛ حيث أعاد صوغ بداياتها حيث النبع الصافي لتتمكن من الشعور بالدهشة الأولى فتستمتع بالجمال.
تظهر الدهشة من براعة الصوغ في حيز قصير بل ميكروسكوبي يعج بالفعل والحركة، ومن دقة "الغرزات" التي شكلت اللوحة.
وتصير مجموعة "ققنس"، بحسب محمد برادة، فضاء لكتابة الحلم بطريقة مختلفة، أي أنه فضاء للابتعاد عن السرد التقليدي للحلم، وسعي الى بلورة شكل حلمي - قصصي، يكسّر الخطاطة شبه الثابتة التي يتحدث عنها فرويد بخصوص "الحلم النمطي"، التكراري ذي الدلالة المشتركة، في مقابل "الحلم الفردي" المتميز، الصادر عن ذاتٍ منفردة... والحلم كما يرد في قصة "تعبير الرؤيا"، مكوّن من ثلاثة مشاهد متباعدة. الأول يرى فيه الحالم نفسه "أعمى، تحت المطر. كنت شخصين اثنين: الرائي والمرئي. الرائي قابع خلف المشهد يرى كل شيء ولا يُرَى، والمرئي سائر أمامه يتخبط تحت المطر، أعمى، لا يرى شيئاً ولكنه يتقدم...".
والمشهد الثاني، يرى فيه نفسه طفلاً صغيراً يختبئ من المطر في بيت الجار "بوراسين" حيث يلتقي بابنتيه ويتحدث مع الشقراء عن الحب... وفي المشهد الثالث، يتعرض الحالم لهجوم من ثلاثة شبان، من بينهم واحد يُشبه كاسترو الذي يقتحم بيت جد الحالم ويعضُّ يد أمه، فيتصدى له ويقتله قبل أن يتبين ان هناك قرابة بينهما... وبعد ذلك نقرأ الهوامش والتعبير المشتملين على شروح منسوبة لابن سيرين وفرويد، ثم يورد تعريفاً للمجهول بأنه ماء كماءِ بحيرة نرسيس.1
ويضيف ما يؤكد على حضور الدهشة من خلال خرق المألوف بواسطة الحلم، بقوله:
إن الحلم - أو بالأحرى ما يتبقى منه في ذاكرة الحالم - هو مادة جيدة لرصد تلك العملية الكيماوية التي تجعل عناصر الواقع تنبثق داخل الحلم متناثرةً، منبهمة، لتكسر إطار الإدراك المألوف... وكما يرى بعض الباحثين، فإن أصول الأساطير والحكايات قد تعود الى الأحلام وما تنطوي عليه من رؤىً واستيهامات...
الحلم وأصوات الآخرين. 2
فقد ولد الحلم المصاغ بطريقة غير معتادة، الدهشة وحقق المتعة والجمال.
**
1 و2_ مجموعة قصص "ققنس" للمغربي أحمد بوزفور الحلم يولد الحكايات ويشطر الذات بين موت وحياة، محمد برادة، جريدة الحياة، 20/03/2003.
أما اللغة والأسلوب فكل المجموعات نحتت لنفسها تعابيرها الخاصة واللذيذة. وتأتي الدهشة من تطويعها للتعبير عن مختلف الحالات المعبر عنها بما فيها الفكرية، فتجعلك، إضافة إلى النسيج البارع، مندهشا من الصنعة والمهارة في الصوغ والبناء وحلاوة التعبير.
للنظر إلى الفقرة الأخيرة من "تاريخ الحب" للفنان أحمد يوزفور، والجزء الأول من قصة "القنفذ" للمبدع نفسه، سنجد بعض عناصر الدهشة الكامنة في مجموعته "إني رأيتكما معا"، فالفقرة الأولى تشعر القارئ وكأن السارد في مختبر علمي يضع تحت مجهره الفني حبة التراب ليتابع مراحل تحولها حتى تصير حبة رمل. مع التنبيه إلى أن كلمة حبة تحمل في طياتها كلمة الحب مناط النص ومحوره.
لقد وجدت حبة التراب نفسها ضائعة في بحر من رمال الصحراء. وسيوظف السارد مجموعة من الآليات الفنية للتعبير عن هذا الضياع والتحول، ومنها: التكرار؛ تكرار شبه الجملة من الجار والمجرور، بتغيير المجرور والمحافظة على حرف الجر:
بحثت عن ذرة تراب أخرى..
عن عشبة..
عن قطرة ماء.
مما يمتع النفس بهذه الموسيقى التي تترنم بها الفقرة فتلذ لها النفس وترتاح.
الحبة في بحثها المضني عن أساب الحياة دون جدوى سيدخلها مرحلة التكيف لتصير حبة رمل. وللتعبير عن التحول تم توظيف أسلوب المبالغة في اللون باعتماد الصيغ الصرفية ذات الارتباط، ك، افعوعل، وافعالّ، صحبة فعل مضاعف اللام: تتصلب. وجميع تلك الأفعال جاءت في صيغة المضارع، وكأننا نراها تقع أمام أعيننا، أو تحت المجهر لكونها متناهية الصغر إلى أن تصير حبة رمل عقيم.
وحين ننتقل إلى القصة الموالية "القنفذ" سنجد أنفسنا أمام التشبيه المضاعف. فالفقرة الأولى تعج بالتشبيه؛ حيث يفضي تشبيه إلى تشبيه آخر في توالد بلاغي عجيب، وحيث يصير المشبه مشبها به، يقول المقطع:
شعراته الصغيرة مصفوفة منتظمة كقطيع ماعز...لا...كقطيع جداء. جداء ساكنة كأنها خراف. في الظاهر فقط، لأنها في العمق جداء حية شديدة الحركة والنشاط، تتلع أعناقها الصغيرة أمامها وتتطاول، رغم قصرها، كأنما تعطو إلى ثمار شجرة بعيدة في السماء. ص 11.
لقد رسم لنا السارد مشهدا عجيبا يعج بالحركة انطلاقا من شعرات رأس أخيه القصيرة.
فعندما نتأمل لفظة (كأن) الواردة بشكل متكرر نجدها، ما قال القاص بوكرامي في قراءته لققنس، تحمل الخاصية البيانية للتشبيه الذي يخرج الأمر من حد التوهم إلي حد اليقين. ويطلق عليه البلاغيون اسم التشبيه المجمل الذي يخرق قاعدة التشبيه العامة، فهو لا يقصد به التحديد القطعي بل التشبيه المفتوح علي الشك والحدس والصور المفتتة وتعدد الدلالات.
وفي القصة نفسها نعثر بالإضافة إلى التشبيه والاستعارة على تقنية التكرار الممتد:
شيء ضاغط كالكابوس يجعله، وهو مفتوح العينين، لا يرى
وهو مفتوح الأذنين، لا يسمع..
وهو مفتوح النفس، لا يشتهي
ولا يستجيب ولا يعجب ولا يشمئز ولا يرضى أو يرتاح. ص 12.
وهي صور تعبر عن انصرافه عن العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، وعيشه فيه. الأمر الذي حير متابعيه، وجعلهم يرغبون في معرفة حالته بدقة، وهو الأمر الذي سينهض به السارد وسيتعقبه أينما حل أو ارتحل.
لعل في طريقة تشكيل الصور، وبناء النص، وكيفية العرض ما يخلق الدهشة ويمنح القارئ حلاوة متابعة القص إلى آخر نفس غير قادر على الانفصال عنه أو تركه.
ثم إن الشعر الكامن في السرد شحن القصص بطاقة هائلة من الإدهاش؛ ومنحها فتنة وجمالا.
الصور منحوتة بفنية عالية وصاغتها أنامل فنان يخاطب كل جوارحنا ويحرك مشاعرنا ويمنح الروح فرصة التحليق من دون قيود بعد أن نزع عنها صدأ العادة والتعود؛ حيث أعاد صوغ بداياتها حيث النبع الصافي لتتمكن من الشعور بالدهشة الأولى فتستمتع بالجمال.
تظهر الدهشة من براعة الصوغ في حيز قصير بل ميكروسكوبي يعج بالفعل والحركة، ومن دقة "الغرزات" التي شكلت اللوحة.
وتصير مجموعة "ققنس"، بحسب محمد برادة، فضاء لكتابة الحلم بطريقة مختلفة، أي أنه فضاء للابتعاد عن السرد التقليدي للحلم، وسعي الى بلورة شكل حلمي - قصصي، يكسّر الخطاطة شبه الثابتة التي يتحدث عنها فرويد بخصوص "الحلم النمطي"، التكراري ذي الدلالة المشتركة، في مقابل "الحلم الفردي" المتميز، الصادر عن ذاتٍ منفردة... والحلم كما يرد في قصة "تعبير الرؤيا"، مكوّن من ثلاثة مشاهد متباعدة. الأول يرى فيه الحالم نفسه "أعمى، تحت المطر. كنت شخصين اثنين: الرائي والمرئي. الرائي قابع خلف المشهد يرى كل شيء ولا يُرَى، والمرئي سائر أمامه يتخبط تحت المطر، أعمى، لا يرى شيئاً ولكنه يتقدم...".
والمشهد الثاني، يرى فيه نفسه طفلاً صغيراً يختبئ من المطر في بيت الجار "بوراسين" حيث يلتقي بابنتيه ويتحدث مع الشقراء عن الحب... وفي المشهد الثالث، يتعرض الحالم لهجوم من ثلاثة شبان، من بينهم واحد يُشبه كاسترو الذي يقتحم بيت جد الحالم ويعضُّ يد أمه، فيتصدى له ويقتله قبل أن يتبين ان هناك قرابة بينهما... وبعد ذلك نقرأ الهوامش والتعبير المشتملين على شروح منسوبة لابن سيرين وفرويد، ثم يورد تعريفاً للمجهول بأنه ماء كماءِ بحيرة نرسيس.1
ويضيف ما يؤكد على حضور الدهشة من خلال خرق المألوف بواسطة الحلم، بقوله:
إن الحلم - أو بالأحرى ما يتبقى منه في ذاكرة الحالم - هو مادة جيدة لرصد تلك العملية الكيماوية التي تجعل عناصر الواقع تنبثق داخل الحلم متناثرةً، منبهمة، لتكسر إطار الإدراك المألوف... وكما يرى بعض الباحثين، فإن أصول الأساطير والحكايات قد تعود الى الأحلام وما تنطوي عليه من رؤىً واستيهامات...
الحلم وأصوات الآخرين. 2
فقد ولد الحلم المصاغ بطريقة غير معتادة، الدهشة وحقق المتعة والجمال.
**
1 و2_ مجموعة قصص "ققنس" للمغربي أحمد بوزفور الحلم يولد الحكايات ويشطر الذات بين موت وحياة، محمد برادة، جريدة الحياة، 20/03/2003.