الدكتور السيد الجميلي - هل الإنسان مسير أم مخير؟! (٢) نفحات إيمانية.. اعداد ـ

أسلفنا القول أنفا في مقالنا السابق عن حياة المكلفين بين التسيير والتخيير .. وقد انتهينا إلى استحالة أن يكون الإنسان أو المكلف مسيرا في كل شيء أو مخيرا على الإطلاق، ولا أن يكون مسيرا ومخيرا في الوقت نفسه في المسألة ذاتها.
كذلك انتهينا وفرغنا من القول بأن مسائل العقيدة والدين كلها اختيارية لا جبر فيها ولا إرغام، ومن قال بذلك كان مصيبا للحق المتبوع، ومن زعم غير ذلك كان فتانا ومفتئنا ومنخرصا، لأن قوله هذا ينقض كل شيء ولا يبقى على أي شيء، لأنه يفتح أبواب الفتنة على مصاريعها، إذ إن المرء يفعل كل ما يريد وما يشاء من غير ضابط ولا حسيب ولا رقيب والتبرير، على حد زعمه، أن الإنسان مقهور مجبور لا حيلة له في نفسه ولا في أفعاله، لذلك فإننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنه باب خطير، يفضي إلى ما لا يحمد عقباه من كوارث لا حصر لها.
قال تعالى : « والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » سورة البقرة الآية ٢١٣.
والهداية نوعان : هداية دلالة، وهداية معونة، وهداية الدلالة، هي هداية الارشاد، وهي تبيين للحق وطرقه، وتحذير من الباطل والأسباب والسبل المؤدية إليه.
وهداية الدلالة مسوقة في القرآن الكريم للمؤمن والكافر على حد سواء، تدل على الخير وتحضه عليه، فالكافر المؤمن بالقرآن يهتدي بها ويسترشد بهديها والكافر غير المؤمن بالقرآن لا يأخذ بها .. فالمؤمن الذي خالط الإيمان لحمه ودمه يكون مستحقا للمعونة بإيمانه، وكفاء توحيده، والذي رأى الحق وأغمض عينيه دونه، وأشاح بوجهه عنه، واستديره وطوى عنه كشحه يكون حرم نفسه من هداية المعونة.
وكيف يعين الله تعالى من أشرك به، إن هداية المعونة مقصورة على المؤمنين لأنهم بادي الرأي قد اختاروا الإيمان عقيدة ومنهجا وسلوكا فكانوا مستحقين لمعونة الله.
أما من رفض الإيمان، وتولى كبره، ولج في عمايته، وجمع في كفرانه واختار طريق الظلام فيكون قد حرم نفسه من معونة الله ولطفه.
لذلك فإن الأصل في كل هذه الأحوال هو اختيار الإنسان، وما ينتهي إليه المكلف.
والآيات كثيرة في القرآن الكريم تعضد ما ذهبنا إليه منها على سبيل المثال قوله تعالى : (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين - سورة القصص الآية ٥٠ ، ومن يتبع هواه لا يكون إلا مختارا.
ويقول أيضاً : «إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم به «سورة يونس الآية ٩ ..
أي أنهم استحقوا هداية المعونة من ربهم لأجل إيمانهم، ولم يكن إيمانهم إلا باختيارهم، وهذا جزاء من أحسن عملاء.
وقوله : «والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» «سورة النور، الآية ٤٦ .. المقصود من الآية أن الله تعالى يهدي من عباده من يشاء الهداية، وليس مقصوداً من ذلك من يشاء الله على سبيل الجبر، كما يقول ويـزعـم ذلك المتـأولـون وهـم مـخـطـنـون أشد الخطأ إذ إن الآيات الكثيرة المبثوثة في كتاب الله الكريم تؤيد ما ذهبنا إليه.
قال تعالى : * «والله لا يهدي القوم الظالمين» التوبة ١٩ ..
* «والله لا يهدي القوم الفاسقين » التوبة ٣٧».
وقال أيضا * «والذين اهتدوا زادهم هدى وأنـاهـم تقواهم» سورة محمد الآية ١٧ .
وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام الفخر الرازي : لما بين الله تعالى أن المنافق يسمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بين أن حال المؤمن المهندي بخلافه، فإنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة، وهو قطع عذر المنافق، فإنه لو قال : ما فهمت كلامه لغموضه، يرد عليه بأن المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب، لا لخفاء المطلوب راجع التفسير الكبير ٥٨/٢٨ بتصرف منه].
لو أراد الله أن يؤمن الناس جميعا على قلب رجل واحد عنوة لما قدر ولما استطاع العصيان أحد.. ولكن الله تعالى يريد قلوبا تقبل عليه طواعية غير مسوقة سوقا إلى الايمان به وتوحيده. قال تعالى : * «إن نشأ تنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين» سورة الشعراء الآية ٤
ولو كان ذلك كذلك لم يكن أحد مستحقا لرحمة الله ورضوانه لكونه محمولا على الايمان عنوة من غير إقدام واختيار منه .
قال فضيلة الشيخ الصاوي - رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية الشريفة : أي : لا تحزن (يا محمد) على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم (أي جبرا وعنوة وقهرا ) لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم، فيؤمنون قهرا عليهم،
ولكن سبق في علمنا شقاؤهم، فأرح نفسك من التعب.
راجع حاشية الشيخ الصاوي على الجلالين ١٦٧/٣]
وفي سورة الكهف تتجلي هداية الدلالة في أسمى وأجلى معانيها، في قوله تعالى * «فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» الآية ٢٩ وقوله في سورة السجدة * ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها » الآية ١٣ ..
راجع تفسير القرطبي ١٠٠/١٤ والطبري ٦٣/٢١].
مـن ثـم فـإنه ليس من المقبول أن يؤخذ الزعم بالجبر مأخذ الجد، لمخالفته لأصول الشريعة وأصول الدين، ولافتقاره إلى الدليل العقلي والنقلي البات القاطع في هذا الصدد.
إنك إن سألت أحدا من الجبرية يقول لك إن الله تعالى له مشيئة نافذة في كل اختياراتك، ومؤدى هذا القول إن الإنسان المكلف لا حيلة له في نفسه فهو مقهور مقسور لا يستطيع فكاكا ولا إفلاتا من دائرة المقدور له الذي تحتم عليه وغير المقدور على دفعه.
فإذا طولب بالدليل أتى به من القرآن الكريم، وقد خولط في فهمه، واستدل به على غير وجهة الصواب وبقياس ظاهر البطلان، فيستشهد بقوله تعالى * «ولو شاء ربك ما فعلوه» سورة الأنعام الآية رقم ١١٢،
وقوله تعالى «ولو شاء الله ما فعلوه» «الأنعام الآية ١٣٧».
ومعنى الآية الأولى انه لو شاء ربك فافعلوه : مقصودا منها أنه لو شاء تعالى ما عادي هؤلاء العصاة أنبياءهم ولكن الحق تبارك وتعالى تركهم وعداوتهم للابتلاء والاختبار.
وفي الآية الثانية : (ولو شاء الله ما فعلوه)، أي : ولو شاء الله ما فعلوا هذا القبيح، فإنه جل شأنه لو أراد أن لا يفعلوا هذا القبيح باديء الرأي لكان في مكنته وإرادته وقيوميته وعليائه أن يفعل ما يريد إذ إن أمره بالكاف والنون، ولا يمكن لأحد أن يعارض فيما قضی به واراده.
والله سبحانه وتعالى أكرم مسؤول أن يعصمنا من مزالف الخطأ والهوى، وهو سبحانه وتعالى على كل خير مستعان به وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تكملة المقال فى التعليقات

اللهم تقبل من أبى
صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...