فتحي_عثمان - اتفاق بريتوريا: نظرة دبلوماسية (1 من 2)

تدرس معاهد وكليات الدبلوماسية الرسمية والأكاديمية مقررات في فن التفاوض بهدف تمكين المتخصصين والطلاب من فهم استراتيجيات وتكتيكات التفاوض والارتقاء بالقدرات إلى حد امتلاك مهاراته وفنونه باحترافية عالية. يتحقق ذلك خدمة لهدف الدبلوماسية والتي تعني في مختلف تعريفاتها إدارة وحل الخلافات الدولية بالسبل القانونية والسلمية تحقيقا لسيادة القانون على السلاح وهيمنة الحوار على الحرب.
رغم كثافة المقررات الخاصة بفن التفاوض وتعدد لغاتها وكتابها إلا أنها تظل، في المجمل، قاصرة عن كشف أرضيات وظروف ونتائج التفاوض وتفاصيله رغم تقديم هذه المقررات لأمثلة ونماذج للتفاوض الناجح والخارق للعادة.
البهو الواسع القائد لدهاليز فن التفاوض والكاشف لغوامضه واسراره دوما هو قراءة تاريخ الدبلوماسية؛ خاصة السير الشخصية ومذكرات رؤساء الدول ووزراء الخارجية وأمناء الأمم المتحدة والمبعوثين والسفراء وكذلك الصحفيين. ويكشف هذا الأدب بصورة واسعة وعميقة ما تخفق فيه المقررات الخاصة بفن التفاوض. وقبل التطرق لرؤية دبلوماسية لاتفاق الفرقاء الاثيوبيين الأخير في بريتوريا، نذهب معكم في سياحة في عوالم السيرة الدبلوماسية حول التفاوض عبر مذكرات لشخصيات كانت في قلب الحدث المتشابك عبر تفاوض مضن أدى أخيرا إلى التوصل للسلام بين أعداء بينهم ما صنع الحداد.
ونبدأ معكم بدبلوماسي امريكي من أصول افريقية وهو أول شخصية من أصول افريقية تفوز بجائزة نوبل للسلام في سنة 1950 لدورها الرائد في إدارة التفاوض بين العرب والإسرائيليين بعد حرب 1948.
أدار رالف بنش المفاوضات حتى أكلت من صحته وراحته النفسية، حيث كان المبعوث الأممي للشرق الأوسط خلفا للسويدي الكونت برنادوت الذي تم اغتياله في خضم العملية التفاوضية. وبنش من صفوة دبلوماسيي الأمم المتحدة تأهيلا وخبرة ومن المؤسسيين للمنظمة وهياكلها. يقول بنش في مذكراته بأنه كان يقضي النهار في تجسير هوة الخلافات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ثم يقضي الليل كله في صياغة ما تم التوصل في لغة قانونية، وكان لا ينام الا قليلا على مدي أيام واسابيع. وكان عند كل اخفاق في التوافق وفي كل صباح يبدا من الصفر ليعود في الليل ليضع على الورق ما تم التوصل في سباق ماراثوني محموم. في إحدى مرات التفاوض وقف بنش بقامته المديدة على رأس الطاولة التي يجلس عليها الوفدين وكان يحمل بين يديه "نبوت" أو مضرب بيسبول وقال مهددا الطرفين: "لن تخرجوا من هذه الغرفة ما لم توقعوا اتفاقا بينكم؛ والذي يرفض التوقيع منكم سأنهال على رأسه بهذا النبوت."
ووسط ضحك الطرفين تم في ذلك اليوم توقيع اتفاق سلام بين الجانبين يؤدي إلى ترتيبات أخرى. أما موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي والذي شارك في كثير من الأحيان في عرقلة المفاوضات فيقول أن بنش طلب من أحد صانعي الفخار كتابة لوحات فخارية بأسماء المفاوضين ليقدمها هدايا لأعضاء الوفدين بعد انتهاء حفل التوقيع، فسأله دايان ماذا كان سيفعل بهذه اللوحات في حال فشل الطرفين في التوصل الي اتفاق فرد بنش بلهجته الامريكية الثقيلة: "سأكسرها على رؤوسكم".
أما مذكرات هوشي منه وقادة الثورة الجزائرية فهي تكشف عن أسرار مفاوضات الثوار الفيتناميين مع الحكومة الفرنسية وكذلك مفاوضات ايفيان الشهيرة التي أدت إلى استقلال الجزائر بين وفد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية والحكومة الفرنسية.
وفي كثير من الأحيان تأتي المفاوضات مخيبة لآمال قطاع من المنتظرين لها. وأشهر مفاوضات عالمية صنعت سلاما في أعقد صراعات العالم هي اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل. ففي كتاب يسمي "عام الحمامة" رصد أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي أسرار جولات التفاوض بين الوفد المصري بقيادة أنور السادات والإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء مناحيم بيغن وتوسط الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وكانت هذه المفاوضات المعقدة تجري على عدة مسارات وهي المسار السياسي والاقتصادي والعسكري وكانت تضم عشرات الخبراء من الجانبين واستمرت لوقت طويل حتى الوصول النهائي لتوقيع الاتفاق. وفي أحدى المرات سئل عضو الوفد الإسرائيلي وسفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة حينها سيمشا أو سمحا دينيتس من قبل أحد المتطرفين الإسرائيليين الذي خاطب السفير بغضب: "'قدمتم لمصر السلام وسيناء والخبرات الزراعية، فماذا سوف تستفيدون منهم؟ فرد دينيتس: "سوف نتعلم منهم الدبلوماسية."
ويقال أن لكل دبلوماسي أسلوبه التفاوضي والذي لا تكشف عنه سوى المذكرات والسيرة. فلقد ذكر أحد مساعدي رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير بأن وزير خارجية أمريكا الداهية هنري كيسنجر أعتاد في جولاته المكوكية في الشرق الأوسط بعد حرب 1973 على التفاوض مع نظرائه من العرب والإسرائيليين بعد الساعة الواحدة صباحا مستغلا الإنهاك الجسدي للمفاوضين وعدم القدرة على التركيز على التفاصيل القانونية الدقيقة ليملي على المفاوضين تصوراته، وعندما طلب الاجتماع مع رئيسة الوزراء الطاعنة في السن الساعة الواحدة صباحا، فطنت لحيلته وطالبت بأن يكون الاجتماع بعد ساعتين من الواحدة صباحا وأسقط في يد كسينجر، يحسب رواية الشاهد. وبالطبع لا تمثل رواية الندية هذه شيئا يذكر في أمواج الدعم غير المحدود للولايات المتحدة لحليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط. أما تركيزنا على تقديم الأمثلة من الشرق الأوسط فله علاقة بطبيعة الصراع وتفاصيله المعروفة للجميع.
وليست أيضا جولات التفاوض هي عبارة نوادر وملح ولكن بعض أجزائها تكون كارثية النتائج.
في كتابها "مبدأ الصدمة" تشير الكاتبة ذائعة الصيت نعومي كلاين بأن مفاوضات جنوب افريقيا بين المؤتمر الوطني الافريقي وحكومة الأقلية البيضاء بخصوص التحول نحو نظام حكم جديد وتمكين الأغلبية السوداء من الحكم كانت تسير على مسارين الأول سياسي والثاني اقتصادي.
اعتبرت كلاين بأن المؤتمر الوطني لم يفطن إلى أن المسار الاقتصادي كان هو الأهم وليس المسار السياسي؛ فركز على المسار السياسي وأهمل المسار الاقتصادي وحشد كل طاقاته الدبلوماسية والتفاوضية في المسار السياسي والمحصلة النهائية كانت بقاء السيطرة للأقلية البيضاء على كل الموارد الاقتصادية للبلاد مع تحول قيادة البلاد إلى المؤتمر الوطني، ولكن البنية الاقتصادية بقت كما هي في زمن نظام بريتوريا العنصري. وأخيرا قام مبعوث الاتحاد الافريقي إلى السودان ووزير خارجية موريتانيا الاسبق الدبلوماسي محمد الحسن ولد لبات برصد تجربته التفاوضية كوسيط بين القوى المدنية والعسكرية في السودان بعد سقوط نظام الإنقاذ.
إجمالا، كان هذا مدخلا لتأكيد فرضية أن المفاوضات "يؤرخ" لها بكتب السيرة بشكل خاص لأنها ترصد الخفي من المسرح وتحلل السلوك السياسي لأطراف التفاوض. وتطرح ما كان يجري وراء الكواليس والبنود غير المعلنة للاتفاقات وتأثير الضغوط المختلفة على المفاوضين. والهدف من هذه المقدمة هو الإشارة والتأكيد على أن أسرار العملية التفاوضية التي أدت إلى اتفاق السلام بين الحكومة الاثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لن تكون متاحة بتوسع وتعمق حتى يقوم أحد أطراف التفاوض بسرد تاريخ العملية من الألف للياء، وقصب السبق يعود هنا إلى الرئيس النيجيري الأسبق ومبعوث الاتحاد الافريقي الذي تابع مسار التسوية السلمية بين الطرفين من البداية وحتى توقيع الاتفاق.
ورغم ذلك سوف نحاول وعبر تحليل السلوك السياسي خلال جولات الصراع والشروط والأهداف على تقديم رؤية دبلوماسية للاتفاق وشروط الطرفين مع تحليل المخرجات.
وحتى الملتقى في الجزء الثاني لكم جميعا أطيب التمنيات.
الصورة: من أرشيف الانترنت للدبلوماسي الأمريكي، وعضو حركة الحقوق المدنية رالف بنش مع مارتن لوثر كينغ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...