خالد جهاد - أكثر من تحول

المقال رقم (٢٢) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

دخول العام ٢٠٠٢ حمل معه بداية المرحلة التي أسست لكل ما نعيشه اليوم بشكل حرفي على مختلف الأصعدة، كونه شكل بداية مرحلة مفصلية دخل معها العالم العربي إلى عصر العولمة وكان مقدمة لكل التحولات التي تلته، ولكن البعض قد يعتبر ذلك نوعاً من المبالغة إلى أن يرى المشهد بكافة عناصره وأحداثه ويكون وجهة نظره حينها بناءاً على الصورة الكاملة، وكونها فترةً حساسة ما بين احتلال أفغانستان والتحضير لإحتلال العراق واستمرار أحداث الإنتفاضة الفلسطينية الثانية فإن الحالة الإجتماعية أيضاً كانت في مرحلةٍ انتقالية بين بقايا التمسك بالماضي والإقبال بحذر على زمنٍ مختلف شكلاً ومضموناً يواكب تلك المتغيرات السياسية وتوابعها، والتي شملت بطبيعة الحال تحولاً فنياً كبيراً كان بمثابة خطوة ٍ كبرى على صعيد تغيير ثقافة المجتمع وبنيته وتركيبته، ففي ذلك الوقت شهدت الرقابة في سوريا (انفتاحاً جزئياً) تم الحديث عنه كثيراً في وسائل الإعلام آنذاك، والذي رأيناه في تناول موضوعات أكثر جرأة وحساسية في الدراما السورية من خلال التفاصيل الأكثر واقعية التي تمس الحياة اليومية للناس بعيداً عن تحضير عمل فني تقوم فكرته على التمحور حول النجم الأوحد، البطل، المثالي والمحاط بشخصياتٍ تدور في فلكه، والتي بدورها تؤدي إلى إضعاف المضمون، حيث يؤدي الممثلون الشخصيات الحقيقية ليكونوا صوتها لا ليظهروا (نجوميتهم)، فكانت بداية صعود هائل لها على مستوى العالم العربي وأخرج الدراما بشكلٍ عام من حالة الخمول والنمطية والإستسهال ورفع سقف المنافسة، يقابلها في تلك الفترة حالة من الركود الجزئي للدراما المصرية مقابل نشاط سينمائي مكثف وصراع بين الأجيال المخضرمة صاحبة البصمة والأعمال الكلاسيكية والموضوعات المهمة وبين الجيل الشاب المعتمد على الأفلام الكوميدية التي كان أغلبها بلا مضمون (مع وجود بعض الأفلام ذات الموضوعات الإجتماعية على استحياء من حين لآخر)، حيث قامت بتسطيح العقول ونقل ثقافة الشارع بالمعنى السلبي للكلمة إلى شاشات السينما ومن ثم التلفزيون بعد أن كان الفن والإعلام أداة تثقيف يتعلم منها الجميع، والذي خلق حالة من التدني في الذوق العام بسبب الكثير من هذه الأعمال التي قدمت تحت مسمى (الأفلام العائلية) مع أنها كانت مليئة بالإيحاءات الجنسية بل وإن بعضها كان يقوم عليها (مع وجود بعض الإستثناءات)..

لكن على صعيد صناعة الموسيقى والألبومات الغنائية ظهرت أصواتٌ جديدة أو برزت بعد سنوات من الغناء لتصنع نمطاً موسيقياً واتجاهاً جديداً لا يشمل الأغنيات فقط بل يشمل عالم صناعة الڤيديو كليب وطريقة الإنتاج والإخراج والتركيز على التوزيع الموسيقي وصولاً إلى المنافسة على صعيد الصورة بين إطلالات متجددة ومثيرة غير مسبوقة في العالم العربي بأسلوبها وجرأتها وأفكار أعمالها والبذخ أحياناً في التكلفة الإنتاجية لتصوير بعض هذه الأغنيات من خلال استيراد واستخدام أحدث الكاميرات والتقنيات، وهو ما كان له أشد الأثر على ذوق المجتمع وسلوكه، كما كان له أثر كبير في تراجع صناعة السينما وعدة أشكال من الفنون فيما بعد..

ومنذ ذلك الوقت تقريباً بدأ استخدام مصطلح (الجرأة) بكثافة والذي كان في غالبيته مجرد غطاء لتقديم الإسفاف والإبتذال ولفت الأنظار عبر الشاشات (مهما كان الثمن) وهو ما سبق ثقافة (التريند) التي نعيشها حالياً، ولا يمكننا إغفال ظهور عدة وجوه في ذلك الوقت استطاعت من خلال ما قدمته تغيير شكل الموسيقى والغناء (وللتذكير هنا فإن الحديث هو للتوثيق وليس للترويج عن العوامل التي ساهمت في تغيير ثقافة مجتمعاتنا ككل)..

النموذج الأول هو (اليسا).. فمع النجاح الكبير لأعمالها بدءاً من أغنية وڤيديو كليب (عايشالك) أصبح للون الرومانسي مكان ثابت في الأغنيات الحديثة وهو مالم يكن موجوداً بنفس الشكل قبل ظهورها، كما كان لإطلالاتها تأثير مباشر دفع الكثيرات إلى تقليدها والتماهي معها ومع غيرها من الوجوه الفنية من قبل طبقات الشعب المختلفة، كما أصبح هناك استنساخ واضح لنوعية الأغنيات التي تؤديها بين الكثير من المغنين، وهو ما تكرر أيضاً مع النموذج الثاني وهو (نانسي عجرم)، والتي أصبح كل ما تقدمه أيضاً محط الأنظار خاصةً وأن العديد من أعمالها المصورة التي تعاونت فيها مع المخرجة والممثلة اللبنانية (نادين لبكي) كانت بمثابة استعراضات أو أفلام قصيرة لقيت تفاعلاً جماهيرياً لا يمكننا إنكاره (حتى وإن لم يكن يعجبنا لأن نقل الواقع لا يعني أنه يعكس رأينا أو ذوقنا الشخصي)، فساهمت مع غيرها من التجارب المستمرة لها أو لأسماء فنية أخرى في تشبع المتفرج بصرياً والذي انعكس على الفن الحقيقي، حيث وصل إلى النقطة التي تم فيها تقديم (كل شيء) والتي أصبح الأغلبية بعدها يراوح مكانه، وكما شهدت هذه المرحلة زيادة في عدد المغنين وغيرهم ممن لا يمكننا اعتباره كذلك، شهدت أيضاً تزايداً في عدد (المخرجين) آملين في تحقيق نجاحات مشابهة لأسماء مثل نادين لبكي، سعيد الماروق، سليم الترك وغيرهم ولكن أغلبهم لم يستمر لعدم وجود موهبة من الأساس عدا عن إقبال بعض الأسماء المعروفة على التعاون مع مخرجين من الغرب..

أما النموذج الثالث هو (الفنانون المستمرون من حقبتي الثمانينات والتسعينات) والذين تأثر بعضهم بالموجة الفنية الجديدة وانخرط في محاكاتها، ومنهم من استمر في تقديم ما اعتاد عليه ومنهم من ابتعد لأسباب شخصية أو متعلقة بعدم وجود من ينتج أعمالاً فنية بنفس المستوى الذي اعتادوا تقديمه والذي يعد بعضه بمعايير السوق (غير تجاري أو نخبوي أو لا يحقق رواجاً)، وفي حال تواجده يكتفي بتقديم القليل عبر إطلالة كل بضعة سنوات..

وهو ما يقترب قليلاً من النموذج الرابع وهم من يمكننا تسميتهم بأصحاب (النجومية الهادئة) والذين حققوا نجاحاً مميزاً ومكانةً في قلوب الناس وتميل أعمال أكثرهم نحو الكلاسيكية مثل الفنان مروان خوري وعبير نعمة واتسمت مسيرتهم بالهدوء والبعد عن المشكلات المتعارف عليها..

وكانت هذه الفترة أشبه بمثابة انفجار تولد عنه كم هائل من المغنين الذين وجدوا في هذا المجال سوقاً جديداً ومزدهراً يضمن لهم النجاح والشهرة قبل ظهور مواقع التواصل الإجتماعي (كما يعتقدون)، ودون مقومات تذكر وسط حالة من الفوضى التي ترتبت على اجتماع كل هذه العوامل معاً والتي خلقت نوعاً من الإضطراب في التفكير، إلى جانب دعم وتوظيف هذه الظاهرة من قبل (البعض) كرد على تزايد نسبة ارتداء الحجاب في تلك الفترة، لكن مما لا شك فيه أن تلك المرحلة كانت البداية الفعلية لحالة التمركز حول الذات وتغذية هوس الشهرة والنجومية في النفوس وزيادة النزعة الفردية على حساب المجتمع ككل، حتى وإن ترتب عليه تقديم نماذج سلبية تعزز قيم القبح وتبعدنا عن الجمال كل يوم أكثر من ما مضى، والتي سنكمل الحديث عنها وعن أسمائها بشكل أكبر في المقالات القادمة..

للسلسلة بقية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...