قراءة في قصة نهر السين، من مجموعة "لا أحد يسمع نشيج التراب" قريبة الصدور، وهي القصة المرشحة بقوة للفوز بإحدى جوائز مسابقة محمد حافظ رجب ، والتي سيعلن عنها يوم 15 نونبر الجاري.
**
ينفلت النص من إهاب مألوف الكتابة؛ ويخرق ما تعارف عليها خرقا بفتحها علي امداء جديدة مؤكدا بذلك ان مجرى نهر القصة دوما متجدد؛ وان الركون إلى المنجز إعادة وتكرارا ما هو إلا تلويث لصفاء مائها؛ وإغلاق لها عن هوائها المتجدد. وان مثل هذا الفعل لا يعبر إلا عن قصور في الرؤيا والرؤية وضحالة في الخلق والإبداع.
لنقدم ما يشبه ملخصا للقصة كما جاءت على حرف الناقد المصري سمير الفيل قبل الغوص فيها لتقديم بعض جوانبها الفنية والجمالية، يقول:
يحدثنا هشام بن الشاوي في قصته" نهر السين"، عن الشعور القوي بالاغتراب، ويبسطها بتلك النزعة الفوضوية التي تحكم العالم؛ وفيها ينطلق ليرشق واقعنا بكثير من المرارات التي تعبر عن مأساة جيل عبر خساراته الكثيرة ، البطل في تلك القصة تبنته خالة مجنونة ، تسكب سطل المياه من شرفتها على السائرين، وهو " كاتب" يفكر في أن يستهل قصته " عين الطائر" بمشهد بانورامي، يصف فيه المدينة الرمادية، وبشكل غرائبي سنعرف أن الجيران الذين تابعوا سماع الشاب الأربعيني لقصة ربما تبدو بنت الخيال، منعوا الغرباء من الخروج من الشقة، وحبسوهم فيها بوضع عمود على الجدار بينما ربطوا المزلاج مع القطعة الخشبية بحبل متين. يتخيل شاب في منتصف العمر أن تلك الشقة تربض أسفل عمارة صغيرة من ثلاثة طوابق ، قبالتها مقهى متواضع، سينزوي في ركنها القصي شاب في الأربعين من عمره، يبدو مكتئبا حيث يشعر أن كل هموم العالم ملقاة فوق كتفيه. 1
الميتاسرد.
ما يلفت في القصة هو توظيف أدوات الكتابة الإبداعية والنقدية معا. فقد اجتمع في جوفها قلبان وقالبان؛ قالب الإبداع وقالب النقد ببعض مفاهيمه ومنها الكاتب الضمني.
حرف السين:
ونهر السين ما هو إلا توصيف للسين المرتبطة بفعل المضارع؛ والمعروف أنها حرف تسويف وقذف بالمخاطب إلى الزمن المستقبلي بإبعاده عن اللحظة الراهنة؛ مع احتمال تحققه وعدم تحققه.
كما تقوم هذه السين العامرة بالمفاجآت بدور البطل. تترك القارئ غارقا في المتاهة باحثا عن مخرج محتمل.
هذه السين صحبة الفعل المضارع ستحضر أكثر من خمسين مرة، يأتيان في أغلبها متلاصقين، وقليلا ما جاءت السين منفصلة عن فعلها.
هذا الحضور الكثيف هو تعبير قوي عن غياب الفعل، وعن غياب الرغبة، وعن غياب التفعيل النصي لما راود الكاتب الأربعيني، حبيس محله، حيث حرم من الاستمتاع بالحياة التي نعتها بالبغي.
وقد أشار شيخ القصاصين سي أحمد بوزفور إلى هذه السين الحاضرة بقوة في ثنايا النص فقال عنها:
والسين في النص أفقٌ للكتابة لا تبلغه ولا يغيب عنها، وهي في نظري المعنى الذي يخلقه النص في وعي القارئ: الكتابةُ احتمالات لا نهائية يفتحها هذا الحرفُ الصغير الماكر: السين".2
السجن:
ثم إن تيمة السجن تحضر بقوة بشكل صريح أو من خلال ما يدل عليها من مثل السياج. لنجد أن شخصيات القصة مسيجة بشكل ما، ومعاقة الحضور والفعل.
اللغة الشعرية:
لا يغرب عن بالنا أن النص يستمد زخمه من اللغة الشعرية التي تمده بطاقة تمكنه من التأثير في القارئ وإمتاعه. فضلا عن إيحاءاتها وتعدد دلالاتها. هكذا نجد انزياحات عن اللغة المتداولة بربط ألفاظ في ما بينها رغم غياب العلاقة المنطقية بينها، بساتين القلب وبساتين السرد كمثال؛ فضلا عن الصور من تشبيه واستعارة. ثم استدعاء قصص معروفة لخلق حوار معها؛ حوار يغني القصة ويمنحها قوة وحضورا.
السخرية كخلاص
لعل ما يجذب انتباه القارئ هو حضور السخرية المرة من الواقع الذي تم رسم معالمه الكالحة بفعل ما يملؤه من نفاق وكذب وتملق، ولم تكن السخرية سوى خلاص أو تطهر من رجس ما يحيط بالشخصية من زيف؛ فالسخرية المرة نقد لاسع للواقع ولاختلالاته، ومحاولة البحث عن مخرج من عفونته. ولا تمس السخرية الواقع لوحده بل تمتد لتطال كتاباته السابقة المضمخة بعطر الرومانسية الهاربة من أوحال الواقع، والمتعالية عليه. واللافت أن التعالي لا يحقق دقة النظر بل يجعله قاصرا عن إدراك الجزئيات الراسمة لحقيقة معالم المنظور إليه، فكلما اقتربت من الواقع زدت فهما له، وكلما كبرت في السن زدت معرفة وراكمت تجارب وخبرات تجعله قادرا على فهو الواقع واستيعابه.
**
1_ الناقد المصري سمير الفيل.
2_ شيخ القصة سيدي أحمد بوزفور.
**
ينفلت النص من إهاب مألوف الكتابة؛ ويخرق ما تعارف عليها خرقا بفتحها علي امداء جديدة مؤكدا بذلك ان مجرى نهر القصة دوما متجدد؛ وان الركون إلى المنجز إعادة وتكرارا ما هو إلا تلويث لصفاء مائها؛ وإغلاق لها عن هوائها المتجدد. وان مثل هذا الفعل لا يعبر إلا عن قصور في الرؤيا والرؤية وضحالة في الخلق والإبداع.
لنقدم ما يشبه ملخصا للقصة كما جاءت على حرف الناقد المصري سمير الفيل قبل الغوص فيها لتقديم بعض جوانبها الفنية والجمالية، يقول:
يحدثنا هشام بن الشاوي في قصته" نهر السين"، عن الشعور القوي بالاغتراب، ويبسطها بتلك النزعة الفوضوية التي تحكم العالم؛ وفيها ينطلق ليرشق واقعنا بكثير من المرارات التي تعبر عن مأساة جيل عبر خساراته الكثيرة ، البطل في تلك القصة تبنته خالة مجنونة ، تسكب سطل المياه من شرفتها على السائرين، وهو " كاتب" يفكر في أن يستهل قصته " عين الطائر" بمشهد بانورامي، يصف فيه المدينة الرمادية، وبشكل غرائبي سنعرف أن الجيران الذين تابعوا سماع الشاب الأربعيني لقصة ربما تبدو بنت الخيال، منعوا الغرباء من الخروج من الشقة، وحبسوهم فيها بوضع عمود على الجدار بينما ربطوا المزلاج مع القطعة الخشبية بحبل متين. يتخيل شاب في منتصف العمر أن تلك الشقة تربض أسفل عمارة صغيرة من ثلاثة طوابق ، قبالتها مقهى متواضع، سينزوي في ركنها القصي شاب في الأربعين من عمره، يبدو مكتئبا حيث يشعر أن كل هموم العالم ملقاة فوق كتفيه. 1
الميتاسرد.
ما يلفت في القصة هو توظيف أدوات الكتابة الإبداعية والنقدية معا. فقد اجتمع في جوفها قلبان وقالبان؛ قالب الإبداع وقالب النقد ببعض مفاهيمه ومنها الكاتب الضمني.
حرف السين:
ونهر السين ما هو إلا توصيف للسين المرتبطة بفعل المضارع؛ والمعروف أنها حرف تسويف وقذف بالمخاطب إلى الزمن المستقبلي بإبعاده عن اللحظة الراهنة؛ مع احتمال تحققه وعدم تحققه.
كما تقوم هذه السين العامرة بالمفاجآت بدور البطل. تترك القارئ غارقا في المتاهة باحثا عن مخرج محتمل.
هذه السين صحبة الفعل المضارع ستحضر أكثر من خمسين مرة، يأتيان في أغلبها متلاصقين، وقليلا ما جاءت السين منفصلة عن فعلها.
هذا الحضور الكثيف هو تعبير قوي عن غياب الفعل، وعن غياب الرغبة، وعن غياب التفعيل النصي لما راود الكاتب الأربعيني، حبيس محله، حيث حرم من الاستمتاع بالحياة التي نعتها بالبغي.
وقد أشار شيخ القصاصين سي أحمد بوزفور إلى هذه السين الحاضرة بقوة في ثنايا النص فقال عنها:
والسين في النص أفقٌ للكتابة لا تبلغه ولا يغيب عنها، وهي في نظري المعنى الذي يخلقه النص في وعي القارئ: الكتابةُ احتمالات لا نهائية يفتحها هذا الحرفُ الصغير الماكر: السين".2
السجن:
ثم إن تيمة السجن تحضر بقوة بشكل صريح أو من خلال ما يدل عليها من مثل السياج. لنجد أن شخصيات القصة مسيجة بشكل ما، ومعاقة الحضور والفعل.
اللغة الشعرية:
لا يغرب عن بالنا أن النص يستمد زخمه من اللغة الشعرية التي تمده بطاقة تمكنه من التأثير في القارئ وإمتاعه. فضلا عن إيحاءاتها وتعدد دلالاتها. هكذا نجد انزياحات عن اللغة المتداولة بربط ألفاظ في ما بينها رغم غياب العلاقة المنطقية بينها، بساتين القلب وبساتين السرد كمثال؛ فضلا عن الصور من تشبيه واستعارة. ثم استدعاء قصص معروفة لخلق حوار معها؛ حوار يغني القصة ويمنحها قوة وحضورا.
السخرية كخلاص
لعل ما يجذب انتباه القارئ هو حضور السخرية المرة من الواقع الذي تم رسم معالمه الكالحة بفعل ما يملؤه من نفاق وكذب وتملق، ولم تكن السخرية سوى خلاص أو تطهر من رجس ما يحيط بالشخصية من زيف؛ فالسخرية المرة نقد لاسع للواقع ولاختلالاته، ومحاولة البحث عن مخرج من عفونته. ولا تمس السخرية الواقع لوحده بل تمتد لتطال كتاباته السابقة المضمخة بعطر الرومانسية الهاربة من أوحال الواقع، والمتعالية عليه. واللافت أن التعالي لا يحقق دقة النظر بل يجعله قاصرا عن إدراك الجزئيات الراسمة لحقيقة معالم المنظور إليه، فكلما اقتربت من الواقع زدت فهما له، وكلما كبرت في السن زدت معرفة وراكمت تجارب وخبرات تجعله قادرا على فهو الواقع واستيعابه.
**
1_ الناقد المصري سمير الفيل.
2_ شيخ القصة سيدي أحمد بوزفور.