الإنسانُ بوصفه خليفةً لله نورُ الله في العالَم، لو اختفى الإنسانُ الخليفةُ يحتجبُ نورُ الله ويختنقُ العالَمُ بالظلام. النزعةُ الإنسانية في الدين في كتاباتي هي “الإنسانيةُ الإيمانية”، مفهومُ الدين فيها غيرُ الدين المستلَبةُ فيه إنسانيةُ الإنسان. الإيمانُ في الإنسانيةِ الإيمانية هو الإيمانُ الذي يقترنُ دائمًا بالحرية، يكونُ الإيمانُ حيث تكونُ الحرية. الصلةُ بالله في الإنسانيةِ الإيمانية صلةٌ حيّةٌ يقظة، لا تتأسّسُ على الرضوخِ والاستعباد والانسحاق وإهدار الكرامة، بل تتأسّسُ على الحرياتِ والحقوق. الصلةُ باللهِ لا تأخذُ نصابَها في تشييدِ حياةٍ روحية وأخلاقية إلا إن كانت مبنيةً على حريةٍ واختيار، لا على إكراهٍ وتخويف واستعباد واسترقاق وامتهان واذلال. الدفاعُ عن الله في الإنسانيةِ الإيمانية يبدأ بالدفاعِ عن كرامةِ الإنسان، وصيانةِ حقوقه، وحمايةِ حرياته، إذ لا يمرّ الطريقُ إلى الله إلا من خلال احترامِ الإنسانِ ورعايتِه وتكريمه. لا ترادف “الإنسانيةُ الإيمانية” المصطلحَ الذي ظهر في العصر الحديث تمامًا، وإن كانت تلتقي معه في أكثر دلالاته؛ كالتشديدِ على مرجعيَّةِ العقل، وإعادةِ الاعتبار للآدابِ والفنون والعلومِ والمعارفِ البشرية ومُهِمَّتِها العُظْمَى في بناء الحياةِ وتطوُّرها، واحترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه.
كان مصطلحُ «الإنسانية» قد نشأ في العصر الحديث إثر احتكارِ الكنيسة للعلوم والمعارف ورفضِها للعقل ودوره في اكتشاف الطبيعة والتعرّف على العالم، وموقفِها السلبيّ من توظيف الخبرةِ التي راكمتْها البشريةُ في مختلف مجالاتِ الحياة. فدعا ذلك بعضَ الأدباء والمفكرين الغربيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر للعودة إلى تعلُّمِ لغات المجتمعات القديمة والإفادةِ منها في التنقيبِ عن آداب وثقافات تلك المجتمعات، وكسرِ احتكارِ الكنيسة والخروجِ على موقفها المُتَمَثِّل في رفضِ الاعتراف بكلِّ عِلْمٍ ومعرفة يُنْتِجُهَا الإنسانُ خارج إطار النّصوص الدينية وتفكيرِ رجال الكنيسة ورؤيتِهم المُغْلَقَة. لم تنشغل موضوعاتُ كتاب “النزعة الإنسانية في الدين” بدراسة مصطلحِ «الإنسانية» وتاريخِه وتطورِ دلالته وما واكبها من تحوُّلات حتى اليوم، لأنَّ كثيرًا من الكتابات درستْه في أبعادِه المتنوِّعة، بل حاول الكتابُ أنْ يتناوَلَ الدّينَ ومدياتِ تأثيره في المجال الشخصيّ والمُجتمعيّ، والإفصاحَ عن القِيَمِ الإنسانيَّة التي يمكن أن يمنحها لحياةِ الكائن البشري، ونوعِ الاحتياجات الروحية والأخلاقية والجماليَّة التي يلبِّيها لهذا الكائن.
اهتمَّتْ موضوعاتُ هذا الكتاب بالتدليل على أنَّ الدِّينَ لا يمثِّل مرحلةً من مراحلِ تطوُّر الوعي البشري، لأنَّه كان موجودًا بوجود الإنسان الأول وسيلبث حتى الإنسان الأخير. وشدّد الكتابُ، على وفق المفهوم الذي شرحه لإنسانية الدين، على ضرورةِ العمل بالعقل واعتمادِه مرجعيةً في كلّ شيء، واستعمالِه في تفسير مختلف الظواهر الدينية والدنيوية، والبرهنةِ على كلِّ قضية مهما كانتْ إثباتًا أو نفيًا، والثقةِ بالعقل في فهم الدين ورسم خارطةٍ تحدِّد المجالَ الذي يشغله في الحياة ويحقِّق فيه وعودَه، والكيفيةَ التي يتجلّى فيه أثرُ الدين الفاعلُ في بناءِ الحياة الروحية وإثراءِ المسؤوليَّة الأخلاقيَّة وإيقاظِ العقل وترسيخ الإرادة، والكشفِ عن أنَّ تجاوُزَ الدِّين لحدودِه لا يُفْقِدُه وظيفتَه البنّاءةَ فقط، بل يُمسي معها أداةً لتعطيلِ العقل، وإغراقِ حياة الفرد والمجتمع بمشكلات تتوالدُ عنها على الدوام مشكلاتٌ لا حصر لها.
وشرحتْ موضوعاتُ الكتاب المتنوّعةُ كيف تمكَّنَ الإنسانُ من تجديد مناهج فهمه للدين، وتجديدِ أدوات تفسير نصوصِه، والأهميةَ الكبيرةَ لتوظيف تلك المناهج والأدوات في الدراسات الدينية اليوم. وحثّتْ على ضرورة التمسُّك بالتفكير النَّقدي لاختبار قيمة كلِّ فكرةٍ سواء كانتْ تَتَّصِلُ بفهمِ الدين وتفسيرِ نصوصه أو غير ذلك، والكشفِ عمّا هو حقيقي وتمييزه عمّا هو زائف. وأوضحتْ موضوعاتُ الكتاب أنَّ النقدَ ضربٌ من الاختلاف وليس المحاكاة، وأنَّ النقدَ العلمي للأفكار احتفاءٌ بها وتكريمٌ لكاتبها. وأنَّ النقدَ ضرورةٌ يفرضها تجديدُ حياة الدين وإثراءُ حضوره الحيويّ في الحياة الروحيَّة والأخلاقية والجماليَّة. وأنَّ النَّقْدَ هو الأداةُ العقليَّةُ الوحيدةُ لتصويبِ الأفكار وإنضاجِها. وأنَّ الفِكْرَ الدينيَّ الذي لا يُنقَد يُنسى ويخرج أخيرًا عن التَّدَاوُل.
الدعوةُ إلى إنقاذِ النزعةِ الإنسانية في الدين تعنى بناءَ فهمٍ آخرَ للدين، وتفسيرًا مضيئًا مواكبًا للواقعِ للنصوصِ الدينية، تفسيرًا لا يبوحُ به إلا عبورُ المنظومةِ المغلقةِ للفهمِ السلفي، وتوظيفُ منهجياتِ وأدواتِ ومعطياتِ المعرفةِ الحديثة والعلومِ الإنسانية. إنه تفسيرٌ لا يختزُل الدينَ في المدونةِ الكلاميةِ والفقهية، ولا يقومُ بترحيلِه من حقلِه الروحي والأخلاقي والجمالي إلى حقلٍ يتغلّبُ فيه القانونُ على القيم، ولا يتحوّلُ الدينُ فيه إلى أيديولوجيا صراعية، أيديولوجيا تهدرُ المعنى الديني الروحي والأخلاقي والجمالي. يسعى هذا التفسيرُ إلى اكتشافِ وظيفةِ الدين الأصيلة في إنتاجِ معنىً لحياةِ الإنسان. وهي وظيفةٌ عجزت معظمُ الجماعاتِ الدينية اليومَ عن إدراكِها، وأغرقت نفسَها ومجتمعاتِها في نزاعاتٍ ومعارك، يمكن أن ترى فيها كلَّ شيء إلا الأخلاقَ وقيمَ التراحمِ والمحبة والسلام والسّكينة.
يتساءلُ بعضُ قُرَّاءِ هذا الكتاب عن الإحالات المتكرّرة على نصوص التصوّف المعرفي في مواضع متنوعة فيه وفي بعض كتاباتي، ولتوضيح ذلك أودُّ التذكير بأني باحثٌ حرٌّ أتوكَّأ على العقلِ النقدي. أنا لستُ متصوِّفًا، وإن كنتُ أتفاعلُ مع شيء من مقولات التصوُّف المعرفي، وأوظِّفُ في كتاباتي بعضَ الآراءِ الحيَّة للمتصوّفة. أنا ناقدٌ لتراثِ المتصوّفة كما أنقد غيره من حقول التراث، وقد أعلنتُ موقفي بصراحة أكثر من مرة في سلوك المتصوّفة، وشرحتُ رأيي بقيمة آثارِهم، وشدَّدْتُ على أنَّها تعبّرُ عن اجتهادات بشرية وليست نصوصًا مقدَّسة، لكن يمكننا الإفادةُ مما هو حيٌّ ويتطلبُه زمانُنا منها.
وأشير هنا بإيجاز إلى أني ضدّ كلّ أشكال توثين المعتقدات، والأفكار، والأشخاص مهما كانوا، سواء فعل ذلك التوثينَ المتصوّفةُ أو غيرُهم، فأيَّةُ فكرة تستمدُّ قيمتَها من تعبيرها عن الحقيقة، وأيَّةُ شخصية تستمدُّ مكانتَها من تمسُّكِها بالحقّ، وانحيازِها للإنسان ودفاعها عن كرامته وحقوقه وحريَّاته وقضاياه العادلة. إنَّ المتصوّفةَ بشرٌ تورّطَ أكثرُهم في توثين شيوخهم وأقطابهم، وتمادَى «المريدُ» منهم في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيَّةٍ لشيخِه، وتعالَتْ تعاليمُ الشيخ في وجدانهم فصارتْ مُقَدَّسَةً يرضخُ لها الأتباعُ حدَّ الاستعباد، بنحوٍ تكبّلهم وتشلّ حركتَهم.
بموازاة ذلك وجدتُ بعضَ آثارِ التصوّف المعرفي تغتني بما هو شحيحٌ في آثار علم الكلام وغيره. فقد أعادَ هذا النمطُ من تراث التصوّف بناءَ الصلة بالله فجعلها تتكلمُ لغةَ المحبَّة وتبتهجُ بالوصال مع معشوق جميل. وفاضتْ مدوَّنتُه بمعاني الرحمة والشفقة والرأفة والعطف والتضامُن مع البؤساء والمنكوبين، ويُعلي بعضُ المتصوّفةِ من هذه المعاني بالشكل الذي تصبح فيه مقصدًا محوريًّا للدين برأيهم. مضافًا إلى أنَّ أعلامًا للتصوّفَ المعرفي لا يرفضون العقل، بل يعتمدونه ويتمسَّكون ببراهينه في بناءِ نظامهم المعرفي ورسمِ رؤيتهم للعالَم. وهذا ما نجده في أعمال محيي الدين بن عربي وبعض العرفاء الذين يبتكرون طريقتَهم العقليَّة في الاستدلالِ على مقولاتهم ونقضِ حجج خصومهم.
كما يسودُ آثارَ بعض أعلام التصوّف كجلال الدين الرومي تبجيلٌ للعشق الإلهيّ، ونظرةٌ متفائلةٌ للحياة، واحتفاءٌ بالفن، وكشفٌ عن تجلِّيات جمال الوجود، ودعوةٌ للفرح، وجعلُ المحبَّة مادَّةً الدين، بحيث صار تطهيرُ القلب من الحقد مفتاحًا لطهارة الإنسان، كما ينص على ذلك جلالُ الدين الرومي بقوله: «توضَّأ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بقلبٍ حاقد لا تجوز». وتمكّن بعضُهم من صياغة سلسلة مفاهيم تعمل على تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي، وإرشادِه لتعاليم تحثُّه على التَّصالُح مع العالَم الذي يعيش فيه. ونعثر في آثارهم على فهمٍ للدين وتفسيرٍ لنصوصه يذهب للتَّعامل مع المختلف بوصفه إنسانًا بغضِّ النَّظر عن معتقده. وتخلو أكثرُ آثار المتصوِّفة من الأحكامِ السلبية حيال المختلف في الدين التي نجدها في آثارٍ أخرى، ولا نجد لدى أعلامهم مفاهيمَ تغرسُ كراهيةَ الأديان الأخرى، وتحظر التعاملَ مع أتباعها، وترسِّخ النفورَ منهم. وبعضُ أعلامهم ينفردون في مقولاتٍ تكسر احتكارَ الرَّحمة الإلهية وتوسّع دائرةَ الخلاص، وتصوغ فهمًا للنجاة في الآخرة لا يجعلها حقًّا حصريًّا لمن يعتنق معتقدًا خاصًّا.
قبلَ أكثر من عشر سنوات صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب بعنوان: “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين”، ويُنشَرُ اليومَ بطبعةٍ رابعة مزيدة ومنقحة. عند كلِّ نشرة جديدة لأعمالي تفرضُ عليّ المسؤولية الأخلاقية أمام القراء الكرام أن أعيدَ النظرَ فيها، أقرأها قراءةً ناقدة في ضوء ما يستجد في ذهني، وأعملُ على تحريرها وغربلتها وتمحيصها وتهذيبها.
مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: النزعة الإنسانية في الدين، يصدر قريبًا عن دار الرافدين ومركز دراسات فلسفة الدين. هذه الطبعة مزيدة ومنقحة في 378 صفحة.
كان مصطلحُ «الإنسانية» قد نشأ في العصر الحديث إثر احتكارِ الكنيسة للعلوم والمعارف ورفضِها للعقل ودوره في اكتشاف الطبيعة والتعرّف على العالم، وموقفِها السلبيّ من توظيف الخبرةِ التي راكمتْها البشريةُ في مختلف مجالاتِ الحياة. فدعا ذلك بعضَ الأدباء والمفكرين الغربيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر للعودة إلى تعلُّمِ لغات المجتمعات القديمة والإفادةِ منها في التنقيبِ عن آداب وثقافات تلك المجتمعات، وكسرِ احتكارِ الكنيسة والخروجِ على موقفها المُتَمَثِّل في رفضِ الاعتراف بكلِّ عِلْمٍ ومعرفة يُنْتِجُهَا الإنسانُ خارج إطار النّصوص الدينية وتفكيرِ رجال الكنيسة ورؤيتِهم المُغْلَقَة. لم تنشغل موضوعاتُ كتاب “النزعة الإنسانية في الدين” بدراسة مصطلحِ «الإنسانية» وتاريخِه وتطورِ دلالته وما واكبها من تحوُّلات حتى اليوم، لأنَّ كثيرًا من الكتابات درستْه في أبعادِه المتنوِّعة، بل حاول الكتابُ أنْ يتناوَلَ الدّينَ ومدياتِ تأثيره في المجال الشخصيّ والمُجتمعيّ، والإفصاحَ عن القِيَمِ الإنسانيَّة التي يمكن أن يمنحها لحياةِ الكائن البشري، ونوعِ الاحتياجات الروحية والأخلاقية والجماليَّة التي يلبِّيها لهذا الكائن.
اهتمَّتْ موضوعاتُ هذا الكتاب بالتدليل على أنَّ الدِّينَ لا يمثِّل مرحلةً من مراحلِ تطوُّر الوعي البشري، لأنَّه كان موجودًا بوجود الإنسان الأول وسيلبث حتى الإنسان الأخير. وشدّد الكتابُ، على وفق المفهوم الذي شرحه لإنسانية الدين، على ضرورةِ العمل بالعقل واعتمادِه مرجعيةً في كلّ شيء، واستعمالِه في تفسير مختلف الظواهر الدينية والدنيوية، والبرهنةِ على كلِّ قضية مهما كانتْ إثباتًا أو نفيًا، والثقةِ بالعقل في فهم الدين ورسم خارطةٍ تحدِّد المجالَ الذي يشغله في الحياة ويحقِّق فيه وعودَه، والكيفيةَ التي يتجلّى فيه أثرُ الدين الفاعلُ في بناءِ الحياة الروحية وإثراءِ المسؤوليَّة الأخلاقيَّة وإيقاظِ العقل وترسيخ الإرادة، والكشفِ عن أنَّ تجاوُزَ الدِّين لحدودِه لا يُفْقِدُه وظيفتَه البنّاءةَ فقط، بل يُمسي معها أداةً لتعطيلِ العقل، وإغراقِ حياة الفرد والمجتمع بمشكلات تتوالدُ عنها على الدوام مشكلاتٌ لا حصر لها.
وشرحتْ موضوعاتُ الكتاب المتنوّعةُ كيف تمكَّنَ الإنسانُ من تجديد مناهج فهمه للدين، وتجديدِ أدوات تفسير نصوصِه، والأهميةَ الكبيرةَ لتوظيف تلك المناهج والأدوات في الدراسات الدينية اليوم. وحثّتْ على ضرورة التمسُّك بالتفكير النَّقدي لاختبار قيمة كلِّ فكرةٍ سواء كانتْ تَتَّصِلُ بفهمِ الدين وتفسيرِ نصوصه أو غير ذلك، والكشفِ عمّا هو حقيقي وتمييزه عمّا هو زائف. وأوضحتْ موضوعاتُ الكتاب أنَّ النقدَ ضربٌ من الاختلاف وليس المحاكاة، وأنَّ النقدَ العلمي للأفكار احتفاءٌ بها وتكريمٌ لكاتبها. وأنَّ النقدَ ضرورةٌ يفرضها تجديدُ حياة الدين وإثراءُ حضوره الحيويّ في الحياة الروحيَّة والأخلاقية والجماليَّة. وأنَّ النَّقْدَ هو الأداةُ العقليَّةُ الوحيدةُ لتصويبِ الأفكار وإنضاجِها. وأنَّ الفِكْرَ الدينيَّ الذي لا يُنقَد يُنسى ويخرج أخيرًا عن التَّدَاوُل.
الدعوةُ إلى إنقاذِ النزعةِ الإنسانية في الدين تعنى بناءَ فهمٍ آخرَ للدين، وتفسيرًا مضيئًا مواكبًا للواقعِ للنصوصِ الدينية، تفسيرًا لا يبوحُ به إلا عبورُ المنظومةِ المغلقةِ للفهمِ السلفي، وتوظيفُ منهجياتِ وأدواتِ ومعطياتِ المعرفةِ الحديثة والعلومِ الإنسانية. إنه تفسيرٌ لا يختزُل الدينَ في المدونةِ الكلاميةِ والفقهية، ولا يقومُ بترحيلِه من حقلِه الروحي والأخلاقي والجمالي إلى حقلٍ يتغلّبُ فيه القانونُ على القيم، ولا يتحوّلُ الدينُ فيه إلى أيديولوجيا صراعية، أيديولوجيا تهدرُ المعنى الديني الروحي والأخلاقي والجمالي. يسعى هذا التفسيرُ إلى اكتشافِ وظيفةِ الدين الأصيلة في إنتاجِ معنىً لحياةِ الإنسان. وهي وظيفةٌ عجزت معظمُ الجماعاتِ الدينية اليومَ عن إدراكِها، وأغرقت نفسَها ومجتمعاتِها في نزاعاتٍ ومعارك، يمكن أن ترى فيها كلَّ شيء إلا الأخلاقَ وقيمَ التراحمِ والمحبة والسلام والسّكينة.
يتساءلُ بعضُ قُرَّاءِ هذا الكتاب عن الإحالات المتكرّرة على نصوص التصوّف المعرفي في مواضع متنوعة فيه وفي بعض كتاباتي، ولتوضيح ذلك أودُّ التذكير بأني باحثٌ حرٌّ أتوكَّأ على العقلِ النقدي. أنا لستُ متصوِّفًا، وإن كنتُ أتفاعلُ مع شيء من مقولات التصوُّف المعرفي، وأوظِّفُ في كتاباتي بعضَ الآراءِ الحيَّة للمتصوّفة. أنا ناقدٌ لتراثِ المتصوّفة كما أنقد غيره من حقول التراث، وقد أعلنتُ موقفي بصراحة أكثر من مرة في سلوك المتصوّفة، وشرحتُ رأيي بقيمة آثارِهم، وشدَّدْتُ على أنَّها تعبّرُ عن اجتهادات بشرية وليست نصوصًا مقدَّسة، لكن يمكننا الإفادةُ مما هو حيٌّ ويتطلبُه زمانُنا منها.
وأشير هنا بإيجاز إلى أني ضدّ كلّ أشكال توثين المعتقدات، والأفكار، والأشخاص مهما كانوا، سواء فعل ذلك التوثينَ المتصوّفةُ أو غيرُهم، فأيَّةُ فكرة تستمدُّ قيمتَها من تعبيرها عن الحقيقة، وأيَّةُ شخصية تستمدُّ مكانتَها من تمسُّكِها بالحقّ، وانحيازِها للإنسان ودفاعها عن كرامته وحقوقه وحريَّاته وقضاياه العادلة. إنَّ المتصوّفةَ بشرٌ تورّطَ أكثرُهم في توثين شيوخهم وأقطابهم، وتمادَى «المريدُ» منهم في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيَّةٍ لشيخِه، وتعالَتْ تعاليمُ الشيخ في وجدانهم فصارتْ مُقَدَّسَةً يرضخُ لها الأتباعُ حدَّ الاستعباد، بنحوٍ تكبّلهم وتشلّ حركتَهم.
بموازاة ذلك وجدتُ بعضَ آثارِ التصوّف المعرفي تغتني بما هو شحيحٌ في آثار علم الكلام وغيره. فقد أعادَ هذا النمطُ من تراث التصوّف بناءَ الصلة بالله فجعلها تتكلمُ لغةَ المحبَّة وتبتهجُ بالوصال مع معشوق جميل. وفاضتْ مدوَّنتُه بمعاني الرحمة والشفقة والرأفة والعطف والتضامُن مع البؤساء والمنكوبين، ويُعلي بعضُ المتصوّفةِ من هذه المعاني بالشكل الذي تصبح فيه مقصدًا محوريًّا للدين برأيهم. مضافًا إلى أنَّ أعلامًا للتصوّفَ المعرفي لا يرفضون العقل، بل يعتمدونه ويتمسَّكون ببراهينه في بناءِ نظامهم المعرفي ورسمِ رؤيتهم للعالَم. وهذا ما نجده في أعمال محيي الدين بن عربي وبعض العرفاء الذين يبتكرون طريقتَهم العقليَّة في الاستدلالِ على مقولاتهم ونقضِ حجج خصومهم.
كما يسودُ آثارَ بعض أعلام التصوّف كجلال الدين الرومي تبجيلٌ للعشق الإلهيّ، ونظرةٌ متفائلةٌ للحياة، واحتفاءٌ بالفن، وكشفٌ عن تجلِّيات جمال الوجود، ودعوةٌ للفرح، وجعلُ المحبَّة مادَّةً الدين، بحيث صار تطهيرُ القلب من الحقد مفتاحًا لطهارة الإنسان، كما ينص على ذلك جلالُ الدين الرومي بقوله: «توضَّأ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بقلبٍ حاقد لا تجوز». وتمكّن بعضُهم من صياغة سلسلة مفاهيم تعمل على تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي، وإرشادِه لتعاليم تحثُّه على التَّصالُح مع العالَم الذي يعيش فيه. ونعثر في آثارهم على فهمٍ للدين وتفسيرٍ لنصوصه يذهب للتَّعامل مع المختلف بوصفه إنسانًا بغضِّ النَّظر عن معتقده. وتخلو أكثرُ آثار المتصوِّفة من الأحكامِ السلبية حيال المختلف في الدين التي نجدها في آثارٍ أخرى، ولا نجد لدى أعلامهم مفاهيمَ تغرسُ كراهيةَ الأديان الأخرى، وتحظر التعاملَ مع أتباعها، وترسِّخ النفورَ منهم. وبعضُ أعلامهم ينفردون في مقولاتٍ تكسر احتكارَ الرَّحمة الإلهية وتوسّع دائرةَ الخلاص، وتصوغ فهمًا للنجاة في الآخرة لا يجعلها حقًّا حصريًّا لمن يعتنق معتقدًا خاصًّا.
قبلَ أكثر من عشر سنوات صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب بعنوان: “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين”، ويُنشَرُ اليومَ بطبعةٍ رابعة مزيدة ومنقحة. عند كلِّ نشرة جديدة لأعمالي تفرضُ عليّ المسؤولية الأخلاقية أمام القراء الكرام أن أعيدَ النظرَ فيها، أقرأها قراءةً ناقدة في ضوء ما يستجد في ذهني، وأعملُ على تحريرها وغربلتها وتمحيصها وتهذيبها.
مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: النزعة الإنسانية في الدين، يصدر قريبًا عن دار الرافدين ومركز دراسات فلسفة الدين. هذه الطبعة مزيدة ومنقحة في 378 صفحة.