د. علي أسعد وطفة - في غربة اللغة العربية واغترابها

ضع شعبا في السّلاسل.... جرّدهم من لبسهم.... سد أفواههم، لكنهم مازالوا أحراراً.. خذ منهم أعمالهم، وجوازات سفرهم، والموائد التي يأكلون عليها، والأسرّة التي ينامون عليها، لكنهم مازالوا أغنياء... إن الشعب يُفقر ويُستعبد عندما يًسلب اللسان الذي تركه له الآباء والأجداد.. وعندها سيضيع للأبد. (الشاعر الصقلي إجنازيو بوتيتا)
تأخذ أوضاع اللغة العربية المعاصرة صورة إشكالية حضارية مترامية الأبعاد ضاربة الجذور في مختلف التكوينات الوجودية للحياة العربية المعاصرة، وفي تضاريس هذه الصورة الإشكالية تتجلى هذه اللغة بوصفها أرومة الإشكاليات التي تتعلق بالهوية والنهضة والتنمية والحضارة والوجود الإنساني.

فاللغة ليست ملمحا عابرا من أعراض الوجود الإنساني، أو إضافة من إضافاته، أو مظهرا من مظاهره، بل هي الوجود الإنساني في خالص جوهره، وأرقى مراتبه، وأسمى معانيه، وأبهى محاسنه. إنها الوطن الروحي للإنسان، بل هي غاية تألقه الوجداني، وأرقى تجلياته الجمالية. إنها التعبير الأعمق عن روح الأمة ووجدانها وتاريخها، إذ تتجلى في أبهى صورة من صور الوعي الروحي والجمالي للأمة، وتشكل البوتقة الرمزية لنماء العلوم والفنون في أية حضارة نشأت، أو نهضة حضارية ستكون.

وقد تأصل في الوعي الإنساني أن الحضارة لا تكون من غير لغة تعبر عن روح الأمة ووجدانها، وقد تبيّن في حكمة الحكماء وفاهمة العقلاء بأن اللغة جوهر الهوية، وأن الهوية لا يمكن أن تستقيم من غير لغة تحددها، لأن الهوية ترتبط باللغة وتغتذي من نسغ عطائها؛ واللغة في نهاية الأمر هي التي تحكم سلوكنا، وتحدّد نمط تفكيرنا الإنساني برمته؛ ولذا لا تكون حضارة من غير لغة متطورة في تكوينها وأدائها، ولا يمكن للغة أن تسمو إلا تعبيرا عن تألق حضاري لأمة تنهض وتنطلق في عالم الحضارات الإنسانية. وانطلاقا من هذه الحقيقة يأتي الاهتمام باللغة العربية وشؤونها وهمومها بوصفها هوية وقضية حضارية أساسية ضاربة في الوجود الإنساني العربي منذ الأزل.

فقضية اللغة هي قضية هوية ووجود وحضارة بكل ما تحمله هذه الكلمات من تدفق المعاني وفيض الدلالات، ومن هنا أيضا يأتي الاهتمام باللغة بالعربية وقضاياها اهتماماً بالوجود العربي وقضاياه المصيرية.

والأمة العربية- إذ جاز استخدام مفهوم الأمة- تعيش حالة انكسار حضاري طال عليها الزمن وانحدر، وفي ظل هذا الانكسار المزمن، من الطبيعي أن تعاني اللغة العربية أزمة حضارية خانقة، فهي اليوم، ومنذ الأمس أيضا، تشهد تراجعا كبيرا وانحسارا خطيرا في مختلف المستويات الوجودية للثقافة واللغة والتعليم. وإزاء هذه الحالة المأساوية لانكسار اللغة والحضارة يدق بعض المفكرين العرب ناقوس الخطر بأعلى الأجراس قوة وأكثرها حدّة؛ فاللغة العربية تذوي وتندثر في ظل انكسار حضاري تمكّن من روح العروبة وجوهر الحضارة العربية التي ما زالت تفقد مكانتها وحضورها في زمن الانحدار والسقوط والانحطاط.

ومهما يكن أمر هذه الوضعية الحضارية، فأزمة اللغة العربية وتحدّياتها المصيرية تشكل تعبيرا مكثفا عن حالة الانكسار الحضاري، ولا غرو في ذلك؛ لأن ضعف اللغة القومية وانحسارها تعبير مكثف عن تراجع حضاري، ومن ثم فإن هذا الانحسار وذاك التراجع يعني انحسارا في قوة الأمة، وتراجعا في مكانتها وقدرتها على الحضور في عالم الحضارة والنهضة للأمم الحيّة. فاللغة الميتة تعني حضارة ميتة؛ وإذا أخذنا مختلف المؤشرات على واقع اللغة العربية اليوم، نستطيع القول بأن اللغة العربية تعيش اليوم حالة خدر شمولي وتصدع وجودي، بل هي حالة انكسار وانحدار وانحسار، وهي والحال هذه تحتاج إلى حالة إنعاش حضارية كبرى حالة إحياء حضاري تمكّنها من الانطلاق من جديد في مسار التكوين الحضاري للأمة العربية.

وانطلاقا من الإحساس بالكارثة الحضارية لانحسار اللغة العربية وانكسارها، شُغل المفكرون العرب بقضايا اللغة وهمومها وشجونها، فعقدوا لأمرها الندوات، وأطلقوا المؤتمرات، وتكاثفت لغاية النهوض بها جهود المنظمات والجمعيات والمؤسسات على مدى القرن الماضي؛ أي: منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم. ومع أهمية الجهود الكبرى التي بذلت لإحياء اللغة العربية وتمكينها وتأصيلها كلغة قومية نهضوية، فإن ذلك كله لم يمنع من تكاثف الانحدار وتعاظم السقوط وتتابع الانحسار الذي تشهده هذه اللغة العربية بيانا وحضورا وإبداعا. وهذا يدل دلالة واضحة على أن الانحدار الحضاري يؤدي دائما إلى تراجع في لغة الحضارة نفسها، وهذا هو حال اللغة العربية التي لا تجد في الأرض ملاذا حضاريا يأخذها إلى برّ الأمن والأمان على دروب الحياة الإنسانية المعاصرة بما يعتمل فيها من مظاهر التقدم والتحديث والانطلاق الحضاري.

فاللهجات العامية تتوالد وتعيش على أنقاض العربية الفصيحة، وها هي اللغات الأجنبية المحمولة على مراكب العولمة والثورات التقنية تكتسح العربية وتدمر حصونها، وتنكل بعروبة أبنائها وتدمر هويتهم القومية؛ والأدهى من ذلك كله، أن أهل العربية وأبناءها، يمعّنون مع من يمعّن فتكا بلغتهم القومية، وتدميرا لمقومات وجودها، وإجهازا على ما بقي من أشلائها، وحالهم في ذلك حال من يهدمون بيوتهم بأيديهم ويحرقون أشجارهم بنارهم، فاعتبروا يا أولي الألباب.

وها هي الأنظمة التربوية والتعليمية في العالم العربي تشهد انحسارا كبيرا للغة العربية الفصحى في مختلف المستويات العلمية والفكرية والثقافية، كما تشهد هذه اللغة تراجعها المتعاظم في مختلف المؤسسات والقطاعات الوجودية للحياة الاجتماعية، وهي بذلك تذوي وتتراجع وتنقرض وتنحسر، وتترك مكانها للغات الأجنبية واللهجات العامية.

وفي هذا الإطار، تشكل مسألة تعريب التعليم العام والجامعي قضية القضايا، ومعضلة المعضلات، وإشكالية الإشكاليات؛ وقضية التعريب ما زالت تُطرح بطريقة خافتة خجولة على الساحة السياسية منذ اللحظات الأولى لتشكل المؤسسات العلمية والأكاديمية في العالم العربي، ويضرب ثقله في مختلف المحافل العلمية والسياسية في العالم العربي في مختلف أصقاعه منذ مرحلة الاستقلال حتى اليوم. ولكن هذه القضية ما زالت خارج دائرة الحسم السياسي ولم تجد الطروحات الخاصة بالتعريب نفعا في مجال اتخاذ القرارات السياسية الجادة في مستوى العالم العربي.

ومن يتأمل في الحركة العلمية والسياسية النشطة المنادية بتعريب التعليم ومؤسساته، سيجد ركاما هائلا من الفعاليات في عدد كبير من المؤسسات والمجلات والدوريات والمؤتمرات والندوات العلمية واللقاءات السياسية التي تتناول قضية التعريب وملابساته. ولكن المفارقة أن هذا النشاط الهائل لمحافل التعريب وفعالياته يتناقض مع الواقع الفعلي لعملية التعريب ذاتها؛ فالتعريب يأخذ خطا معاكسا مناقضا للنشاطات العلمية والفكرية التي تنادي به هذه المحافل وتلك المؤتمرات؛ فالتعليم العالي العربي يمعن في غربته اللسانية، واللغة العربية تجر ذيولها في هجره لا تنقطع، والتعليم يغرق في مستنقع التغريب على إيقاعات اللغتين الفرنسية والإنكليزية اللتين بدأتا تتحولان إلى لغات رسمية معتمدة للتعليم في الجامعات والمؤسسات العلمية العربية بين المحيط والخليج.

وعلى نقيض الواقع، أصبح التعريب ثورة ملتهبة من الشعارات البراقة التي تتوالد في مختلف أصقاع الحياة الفكرية والسياسية، وهي شعارات اعتاد المؤتمرون العرب - في المستويات السياسية والعلمية- أن يطلقوها ويرددوها، ويغذوها بالطاقة الرمزية المقدسة للكلمات، من منطلق الغيرة الخالصة على العروبة والهوية والعربية والإسلام. ومع ذلك، فإن هذه الشعارات تتبخر في شمس الصحارى العربية الدافئة، فلا تسقط قطراتها الندية على نبات الأرض وخمائره العطشى.

ويمكن القول في هذا السياق: إن الخطب الرنانة، والشعارات النارية، لا تجدي في مواجهة إشكالية التعريب والتغريب، وهي لن تكون مجدية أبدا ما لم تستند إلى إرادة قومية شاملة تشترك فيها مختلف الإرادات السياسية والثقافية والجماهيرية، وهنا، وفي هذا المقام، تبرز أهمية البحث العلمي الرصين وأوليته؛ إذ يجب أن تبنى هذه الإرادات على لغة علمية رصينة تحيط بأبعاد هذه المشكلة، وتستكشف أبعادها وتحدياتها على نحو موضوعي نأياً عن الارتجال والعفوية ومنطق المصادفات.

فالمؤتمرات والندوات وحلقات البحث والتفكير ما زالت تعقد، والخطب ما زالت تدوّي، والكلمات ما فتئت تدبّج، والآمال ما برمت ترتسم، والطموحات ما زالت تتشكل، ولكن الشيء الوحيد الغائب خارج هذا التداول الطقوسي لمحافل التعريب هو التطبيق الفعلي لهذه الممارسات الطقوسية الرمزية الاحتفائية التي تختزل التعريب إلى مجرد كلمات ترتسم، وطموحات تطحن الذاكرة في معترك أحلامها الوردية المفعمة بأريج المواطنة والهوية والتعريب.

لن نعدد المؤتمرات التي ينسخ بعضها بعضا، ولن نخوض في التوصيات التي تتوالد في تقاطر الإيقاع الواحد، بل نقول: إن هذه المحافل التعريبية لا يمكن حصرها لكثرتها، ولا يمكن ضبط إيقاعها لشدة تنوعها، إذ هي في تزايد مستمر؛ فالمؤتمرات والندوات تتعاقب في دورة زمنية لا تنتهي فيها تكتكتة الثواني ودورة الدقائق وتعاقب الساعات.

والأسئلة التي يمكن أن توجه إلى عاقدي هذه المؤتمرات، وراسمي هذه الاستراتيجيات، والناشطين في هذه المحافل كثيرة مثيرة، منها: ما مصير هذه المؤتمرات التي عقدت والندوات التي أبرمت منذ عهد الاستقلال حتى اليوم؟ ولماذا تعقد هذه المؤتمرات إذا كانت نتائجها لا تفضي إلى نتيجة واقعية ولا تؤثر في واقع الحال؟ والسؤال الكبير هو: أين هي مئات التوصيات التي طرحت، وآلاف المقترحات التي دبجت، وعشرات القرارات التي اتخذت في مجال التعريب؟ وأخيرا وليس آخرا، أين هو التعريب بعد هذه الفعاليات السياسية والعلمية والأكاديمية التي انطلقت منذ قرن من الزمان تقريبا؟ أين هو التعريب في التعليم الجامعي؟ وإلى أين وصل مداه؟ وما الذي تحقق منه في المؤسسات العلمية والجامعات والأكاديميات في العالم العربي؟

والإجابة عن هذه الأسئلة تأخذ طابعا مأساويا: فالوقائع تدل على غياب التعريب الحقيقي في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي؛ فالجامعات العربية ماضية في رحلة التغرّب والاغتراب عن أهلها ولغتها، كما هي ماضية في تغريب العلم والمعرفة، فاقدة الصلة بمجتمعاتها وأرومتها الاجتماعية والإنسانية.

أما هذه المؤتمرات التي تتكاثر وتتعاقب دون توقف، فقد أصبحت مهنة ووظيفة هؤلاء الذين يتباكون على التعريب وينادون به في قاعة المؤتمرات ثم ينسون ما طرحوه وما ناقشوه على أعتاب الحافلات الطائرات المسافرة من مكان إلى مكان ومن زمان إلى آخر في معمورة العرب والمسلمين.

ويصبح السؤال مشروعا عن المفارقة الكبيرة بين قرارات القمم العربية الداعية إلى التعريب وتمكين العربية، وبين الممارسة الواقعية للجامعات التي تستمر في التعليم باللغات الأجنبية وتتوسع؟ وهذا الداء لم يعد متفشيا في التعليم الجامعي، بل أصبح منتشرا أيضا في مختلف مظاهر الحياة التربوية وتجلياتها الإنسانية والباحث في هذه الظاهرة "يستغرب من التناقض الحاصل بين قرارات القمم العربية وواقع الحال، فبينما يطالب رؤساء الدول بالاهتمام بالعربية وتنميتها واستخدامها في شتى مناحي الحياة - ومنها التعليم وفي كل المراحل التعليمية- يختلف الوضع في أرض الواقع، حيث نجد إهمال اللغة العربية وعدم الاهتمام بها، وزيادة الاهتمام بالتدريس باللغات الأجنبية، وإحلال المناهج غير العربية في مؤسسات التعليم العربية، والضغط نحو الاتجاه لنشر التعليم بغير العربية في المدارس!" (الشراح، 2010).

ولا يكاد التعليم الجامعي والعالي في أيّ بلد عربي يختلف عن حاله في الدول العربية الأخرى، حيث تتوغل الجامعات العربية في أنفاق غربتها، وتتآكل في مستنقعات اغترابها، لتتحول إلى منصة فاعلة في عملية تغريب العربية والعلم والفكر والثقافة. والواقع ينبئ بأن الجامعات العربية تغرق في مستنقع التغريب، وفي لجج الاغتراب وتتحول إلى قوة مضادة لكل محاولات التوطين الحقيقي للمعرفة والعلم بلغة أهلها ومنطق رؤيتهم للوجود.

فالعربية بفصاحتها وعمق دلالتها وسمو معانيها تعاني من الهزيمة، وتفقد أهميتها على إيقاعات عولمة فظة متسارعة في خطاها وحداثة تكنولوجية مرعبة خاطفة في ومضها، وتترك مكانها للهجات العامية وللغة الإنكليزية التي تجول زهوا بانتصارها في رحاب الجامعات كما هو الحال في رحاب المؤسسات التعليمية في التعليم العام والخاص، وهذا يشكل في النهاية صورة من القطيعة بين التعليم الجامعي واللغة العربية الفصيحة في مختلف المدارات وتنوع المسارات. وليس غريبا، ربما، ما تعانيه اللغة العربية من تراجع وتقهقر وانحسار، فهو زمن العولمة الذي يسحق الهويات، فيبدأ بتدمير حصونها اللغوية، لأن اللغة هي التي تشكل روح الهوية ونسغ وجودها.

وضمن هذه الرؤية لواقع اللغة العربية الرافلة في تموج الأزمات، الغارقة في مستنقع الرفض والإهمال، تأتي هذه الدراسة استكشافا لهذا الواقع المأساوي للغة العربية في التعليم العالي العربي.

ثلاثة عقود من الزمن انصرمت لتشكل قوام تجربة الباحث في التدريس الجامعي، في رحاب جامعات عربية متعددة في سوريا وليبيا وقطر والكويت، وهي تمثل ثلاثة عقود من الملاحظات المنهجية التي تتعلق بأوضاع اللغة العربية ومستويات توظيفها في التدريس وفي مختلف مستويات الفعاليات الأكاديمية تصرح بأن العربية في خطر وتنبئ بتراجع كبير في مستوى حضور العربية التي ما فتئت تتراجع وتنكشف وتنحسر. وفي مطلع كل عام دراسي، تزداد درجة الانحسار والتراجع، حتى أصبحت اللغة العربية على درجة كبرى من الضعف والقصور والهامشية في رحاب الجامعة والحياة الجامعية في مختلف أصقاع العالم العربي المترامي الأطراف.

وضمن صورة هذا التراجع والانحدار الكبير في مستوى حضور العربية تكتسح اللغة الإنكليزية والفرنسية أحيانا مرابع التعليم الجامعي على حساب هذا التراجع الكبير في مستوى حضور اللغة العربية في الحياة الأكاديمية للبلدان العربية. وفي هذا المشهد من تراجع اللغة العربية وحضور الإنكليزية، أصبحت اللغة العربية هجينة ضعيفة خاوية لا قدرة لها ولا مقدار، وأصبحت النظرة إليها وإلى مستخدميها نظرة دونية فيها كثير من الازدراء والتبخيس والانحدار. وقد أصبح من الطبيعي جدا أن تسمع المحاضرين في الجامعات يحاضرون باللغة الإنكليزية، وعلى خلاف ذلك ينظر الطلاب بدهشة واستغراب عندما يواجهون محاضرا يستخدم الفصحى وكأنه قد خرج إليهم من ظلمات العصور الوسطى القديمة، ليخاطبهم بلغة تفوح منها رائحة الزمن وتترنح على إيقاعات الحوادث الغابرة التي أصبحت خارج التداول الحضاري للعصر.

وقد يدهشك في دائرة هذه الصورة أن تجد عددا كبيرا بين أساتذة الجامعة، وهم يترنحون تحت ضغط الاستخدام المزدوج للغة العربية والإنكليزية في عملية خلط عجيبة هجينة، حيث تتداخل العبارات والألفاظ الأجنبية مع العربية في مزيج غريب يحتاج إلى خبراء متخصصين في فهم الرموز والدلالات لفهم غاية القول، إن كان في أقوالهم الممجوجة معنى أو دلالات قابلة للفهم. وأصبح الخلط والعجن بين العامية والفصحى والإنكليزية والفرنسية منهجا لسانيا يعتمده أصحابه في الدلالة على علو ثقافتهم ورقي تحصيلهم الثقافي واللساني. فالخلط والعجن اللساني أصبح موضة ومنهجا وطريقة يريد أصحابه تأكيد أنفسهم والتعبير عن هويتهم الثقافية المتميزة.

ومن المدهش في الأمر أن الانسيابية اللغوية والسليقة اللسانية قد أصبحت تعبيرا عن الضعف الثقافي لصاحبها وانحدار مستواه، وقد يتقصد بعض المتكلمين من أساتذة الجامعة وغيرهم من المصابين بأعراض التزامن اللغوي مزج لغتهم بالألفاظ الأجنبية للتعبير عن علو شأنهم وعمق تحصيلهم الثقافي والعلمي.

وقد أدهشني كثيرا أن هذه الهجانة اللسانية توظف في الاجتماعات الرسمية والندوات والمحاضرات، وكأنني بأصحاب هذا المنهج يرون في إتقان العربية نقصا وعيبا، إذ يجب على المتكلم أن يبرهن على ضعفه في اللغة العربية ليعتمد العامية، ومن ثم ليبرر لجوءه إلى الإضافات الأجنبية لتفسير وشرح ما يرغب في شرحه وتفسيره.

هذه الهجانة اللسانية تشكل مؤشرا كبيرا على غياب العربية وتغيبها، وهي ظاهرة تعبر في جوهرها عن مواقف سلبية نحو اللغة العربية التي بدأت تمسخ إلى لغة عامية هجينة في أبعادها الممجوجة باللغة الإنكليزية.

وضمن التصور العام للملاحظات الكثيرة، يلاحظ الباحثون الانحدار الكبير في مستوى الأداء اللغوي باللغة العربية للطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية، وإلى تنامي كبير في المواقف السلبية من اللغة العربية والنظر إليها بوصفها لغة موميائية صالحة لأداء الطقوس الدينية ورواية الحكايات الأسطورية والترنم بالأشعار الجاهلية.

فالجامعات في الوطن العربي تمعن في إقصاء اللغة العربية، والعربية محرّم عليها أن تدخل أروقة الكليات العلمية، كما أن الإنكليزية تزحف على ما تبقى من مناطق نفوذ، حتى في الكليات الإنسانية التي ما زالت تدرس بالعربية.

وفي الكليات التي ما زالت تدرس بالعربية، تواصل العامية صولتها وجولتها، صائرة إلى احتلال مكان العربية الفصحى أو منصهرة فيها، حتى أصبحت هذه الأخيرة غريبة هجينة مستبعدة، وليس أدل على ذلك من جهل الطلاب وعدد كبير من أساتذة الجامعة بمقوماتها واصولها اللغوية. ولو كان الأمر يقف عند حدود الجهل بها وبمكانتها وأهميتها لهان الأمر وضعف الخطر، ولكن ما يرهب ويخيف أن الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية تجاوزوا حدود الجهل باللغة إلى مواقف العداوة منها، فبعضهم لا بل كثير منهم يقف موقفا سلبيا منها ويعمل على أن ينال منها ويقلل من شأنها ويهاجمها في آناء الليل وومضات النهار.

وضمن هذه الرؤية، يمكن القول إن اللغة العربية تعيش وضعا كارثيا تراجيديا، فثمة عوامل تعمل على تدميرها وإقصائها ومن جملة هذه العوامل: اللغات الأجنبية، اللهجات المحلية، المواقف السلبية، الممارسات اللغوية، غياب الاهتمام الرسمي والأكاديمي، وغياب التعريب.

ومن يتأمل في حال اللغة العربية اليوم وأوضاعها في الجامعات العربية، سرعان ما تقفز إلى ذاكرته السمفونية الشعرية للمتنبي واصفا المشهد الاغترابي للعربية في شيراز في عهد عضد الدولة، إذ يقول[1]:

مغاني الشعب طيبا بالمغاني بمنزلة الربيـع مـن الزمـان

ولكن الفتى العربــي فيـــها غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سـار فيـهـا سليمـان لســار بترجـمـــان

وباختصار يمكن القول: إن اللغة العربية تتعرض لمخاطر كبيرة تهدد وجودها وتقوض أركانها. ومن هذا المنطلق، يأتي اهتمام هذه الدراسة بتقصي أحوال اللغة العربية وقضايا التعريب في رحاب الجامعات العربية للكشف عن مختلف ملابسات واتجاهات التعتيم على قضية الحضور اللساني للغة العربية في رحاب الجامعات العربية.

تعليقات

تحيتي العطرة لك الكاتب الدكتور علي أسعد وطفة..منشورك مركزي في ثقافتنا وتواصلنا اللغوي وخاصة اللغة العربية..رعى الله جميل جهدك..أخوك الاديب حسين عبروس.
 
تحياتي صديقي المفدى الأستاذ حسين عبروس وأشكرك على كلماتك الجميلة ويبقى التواصل رسول محبة بيننا .
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...