أحسب أن كل واحد منا قد جرب توديع عزيز عليه في رحلة سفر إلى مكان آخر.. ما الذي يشعر به في تلك اللحظات؟
تختلط المشاعر، فقد تكون حزناً يرافقه بعض الفرح أو كلاهما، وقد يكون حزناً طاغياً يجتاح الروح ويجعل الدموع مطراً متساقطاً يحفر أخاديده على الخدين..
كلنا جرب تلك اللوعة ومشاعر الاكتئاب.. وهو توديع عزيز قد نراه مرة أخرى ونجتمع به إذا طالت فسحة الحياة..
لكن.. ما بالك بالموت هذا السفر الطويل الذي لا عودة منه؟
أحسب أن المعادلة ستختلف في تلك اللحظة.. بل مؤكد أنها تختلف.. تاريخ من الروابط والذكريات التي تجمعنا بالميت سترحل معه ولا نستطيع الإمساك بها إلا في زوايا الذاكرة..
في الحالة الأولى تتمنى أن تكون برفقة من جئت تودعه في رحلته.. وفي الحالة الثانية ورغم حبك لمن مات فإنك تتشبث وبكل قواك بمكانك.. وينتصب الخوف بقامته الطويلة.. الخوف – كما قال لوكريتس- أول أمهات الآلهة، وخصوصاً الخوف من الموت..
فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار وقلّما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كان كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكاً، وهنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة..
لقد كانت أهم ما تعلقت به أنظار الإنسان البدائي – إضافة إلى الموت – وما استوقف أنظاره بسره العجيب هو الأحلام..
لقد بهت الإنسان البدائي لهذه الأعاجيب التي يراها في نومه، وفزع فزعاً شديداً حين شهد في رؤاه أشخاص أولئك الذين يعلم عنهم علم اليقين أنهم فارقوا الحياة.. لقد دفن موتاه بيديه ليحول دون عودتهم.. لقد دفن مع الموتى ألوان الطعام وسائر الحاجات حتى لا يعود الميت من جديد فيصب عليه لعنته، بل كان أحياناً يترك للميت الدار التي جاءه فيها الموت وينتقل هو إلى دار أخرى، وفي بعض البلدان كان الإنسان البدائي يُخرج الجثة من الدار من خلال ثقب في الحائط ثم يدور بها حول الدار ثلاث دورات سريعة لكي تنسى الروح أين المدخل إلى تلك الدار فلا تعاودها أبداً..
مثل هذه الأحداث التي كانت تصادف الإنسان البدائي في حياته أقنعته بأن كل كائن حي له نفس أو حياة دفينة فــي جوفه يــمكن انفصالها عن الجسد إبان المرض أو النوم أو الموت..
جاء في كتاب من كتب (يوبانشاد)(1) في الهند القديمة:«لا يوقظنّ نائماً إيقاظاً مفاجئاً لأنه من أصعب الأمور أن تضلّ الروح فلا تعرف طريقها إلى جسدها..»(2).
هل يصح الكلام على الموت وكأنه حدث مفاجئ يحصل في لحظة دون إنذارات سابقة ولا ينطوي على أي مضمون؟(3).
اعتبر الفلاسفة أن الموت أمر لا يطاله الفكر ولا يدخل في نطاق إمكانية المعرفة.. إذ يمكن اختيار الموت بأي شكل من الأشكال ليس بالفكر ولا بالتخيل ولا بالحس..
وعلى حد تعبير أبيقور:«عندما يحل موتي أكون قد أصبحت غير موجود.. وطالما أنا موجود يكون موتي لما يأتي بعد..».
إن الإنسان عند مرضه أو شيخوخته يرى فسحة رؤاه المستقبلية وأحلامه تضيق وتضيق وعندما تطبق عليه آفاق التطلع إلى الزمن الآتي يصبح حاضره منشغلاً بالحاجات المباشرة أو نازفاً باتجاه الماضي من خلال جرح الذاكرة الواهمة.. فحتى لو استبعد بطريقة لا واعية فكرة الموت، يظل المرء فريسة الشعور بكونه عرضة للزوال..
يستحيل مواجهة عدم الذات كما أبرز ذلك فرويد، أي أن المرء لا يــستــطيع معايشة فكرة دنو الحتف إلا أن هذه الفكرة تقفز إلى الخاطر بمثابة دَين مقلق لاسيما وأن موعد الاستحقاق مجهول ومحتم في الآن نفسه..
إن المرء يزداد شعوره إرهافاً عند موت كل شخص عزيز عليه أو يتصل به صلات شخصية..
هذا الشريك الذي يفارقني نهائياً، هذا الصنو لذاتي، هذا الينبوع المتفجر حناناً وعطاءً وحرية، بالنسبة لي قد نضب وغدا كل اتصال بيني وبينه مستحيلاً.. والحضور الشخصي الماثل في الشريك الميت قد انغلق على ذاته تاركاً إياي في الخارج مختطفاً معه جزءاً مني لا أستطيع الاستغناء عنه.. إنها لتجربة تجعلني ألامس الموت ملامسة حقيقية..
بعد إغماضه الجفنين يستمر العزيز الراحل يموت فيّ، إنه يبتعد عني بالرغم من محاولاتي لاستعادة رفقة العمر التي ما تزال ملأى بالوعود التي كنت أمنّي نفسي بها معه قبل حلول اللحظة القاضية.. ويستمر أخدود الحزن المنحفر في مشاعري يعمل على اقتلاع جذور الحبيب الميت في نفس الحين الذي يقتلعني فيه من ذاتي.
ناقشت الفلسفات والديانات قضايا الموت والروح والخلود، وعالم ما بعد الموت، وشغلتها هذه القضايا آلاف السنين ومازالت، فقد تناولت الفلسفات والديانات مفاهيم الموت وماهيته، وعلاقته بالحرية والمسؤولية وفي إطار ذلك علاقة الذاتي بالموضوعي، والأنا الفردية بالأنا الكلية وصولاً إلى المعرفة الإنسانية.. وكل ذلك في إطار فلسفة الحياة والموت، وتأثيرها على النواميس والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في المجتمع..
والتراث الإنساني مليء بالآراء والمعتقدات والمواقف والمذاهب المتعلقة بمفاهيم الموت والحياة والروح والخلود..
ففي ديانات شعوب الرافدين نرى أن الإنسان حسب تلك الديانات هو الذي اختار قدره ومصيره فالآلهة خلقته سعيداً وخيّرته بين الخلود والموت من خلال منحه حرية الاختيار بين شجر الجنة عامة وبين الثمر المحرم الذي يقود الإنسان إلى الخروج من النعيم والى الموت.. «لقد خلقت الآلهة الإنسان منعماً سعيداً لكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعلته ولم ينج إلا رجل واحد هو تجتوح الحائك.. وقد خسر تجتوح الحائك الحياة الخالدة لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة»(4).
وقد حاولت أساطير شعوب الرافدين وملاحمهم ودياناتهم التغلب على الموت بمساعدة الآلهة واكتشاف سرّ الخلود الأبدي الذي خسره الإنسان مختاراً بعد أكل الثمرة المحرمة..
ونلاحظ أن البحث عن سر الخلود كان محور أساطير الديانات الرافدية وآدابها لكن سرعان ما اكتشفت استحالة ما تصبو إليه لأن (إيا) آلهة الحكمة «علّمت (آدابا) حكيم أريدو وجميع العلوم ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً هو سر الحياة الأبدية التي لا تنتهي بالموت»(5).
ولن يستطيع الإنسان الحصول على هذا السر ولذلك بقي الموت أمراً حتمياً لا راد له، وما الحياة الأبدية والخلود إلا للآلهة وحدها «الآلهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبد أما أبناء البشر فأيامهم معدودات وكل ما عملوا هراء وعبث»(6).
أما الديانات المصرية فلم تحاول حل لغز الحياة والتغلب على الموت، وبدل ذلك جعلت الحياة الدنيا كلها مقدمات للحياة الأخرى.. ووقفت من ظاهرة الموت نفسها موقفاً واقعياً، فآمنت بحتميته واستسلمت له، ولم تبحث عن أسباب قدومه أو مبررات هذا القدوم «إذا أتاك رسول لك، وأخذ هبته ليعمل ضدك، فلا تقل إني لا زلت صغيراً، إنك لا تعرف منيتك، فالموت يأتي ويتحكم في الطفل الذي يرقد بين ذراعي أمه كما يتحكم في الرجل الذي بلغ من الكبر عتياً»(7).
أما في نظر الزرادشتية فالموت هو أشد الخفايا رهبة، وحتميته لا يمكن الفرار منها، لأن (إستواد) إله الموت يعثر على كل إنسان أياً كان مقره ولا يستطيع أحد الإفلات منه، ولن ينجو أحد من الموت لأن (إستواد) يأتي متخفيا إلى كل إنسان، وهو لا يعظم شخصاً ولا يقبل الثناء ولا الرشوة، يهلك الناس بلا رحمة.. (8)
في رأي اليهودية، الموت انطفاء وتلاشي وعدم، لا فرق بين كبير وصغير وفقير وثري «هذا يموت في عين كماله فكله مطمئن وساكن، أحواضه مملوءة لبناً، ومخ عظامه طري، وذلك يموت بنفس مرة ولم يذق خيراً.. كلاهما يضطجعان معاً في التراب، والدود يغشاهما»(9).
والموت في العهد القديم ارتبط بخطيئة آدم وعصيانه واختياره، عندما خالف وصايا الآلهة وأكل ثمر الشجرة المحرمة فخسر الخلود واستحق الموت..
أما الموت حسب العهد الجديد فهو أيضاً نتيجة الخطيئة ومرتبط بها «من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع»(10).
فالموت كما حاله في العهد القديم نتيجة لمعصية الرب وتجاهل وصاياه، أي نتيجة الخطيئة..
في الفكر الفلسفي نجد أن أفكار الفلاسفة قد انصبت على ثلاثة محاور:
المحور الأول: فلسفات السقوط
عند الموت تعود النفس فتنفصل عن الجسد بعد أن تكون قد تجسدت وسقطت وهو ما يسمى بثنائية النفس والجسد.. حيث تولد الحياة الإنسانية من هذا اللقاء الإنساني ويحدث الموت لدى انفصالهما..
ويعرف هذا التيار الفلسفي بتيار السقوط وقد سيطر عليه فكر أفلاطون وتوضحت صياغته مع اليوبانشاد الهندية وامتدّت إلى ما بعد ديكارت ومالبرانش.. وترى هذه الفلسفات أن هذا اللقاء بين النفس والجسد قد حدث نتيجة سقطة لكن الفلسفة الإغريقية بعد اكتسابها الصبغة المسيحية تعتقد أن هذا اللقاء الثنائي ناجم عن عملية خلق أوجدت النفس..
وقد اجتمعت تلك الفلسفات على أن الواحد وحده موجود وجوداً مطلقاً بينما الكثرة ليست سوى شيء وهمي غير حقيقي..
المحور الثاني: فلسفات التشكيل..
وهي التي هيمن عليها أرسطو بأفكاره وعلى يد توما الإكويني اتخذت الطابع المسيحي وتطورت على يد هنري برغسون الفرنسي في القرن التاسع عشر..
محور هذه الفلسفة أن النفس تشكل الصورة في الكيان البشري..
يقول أرسطو: يستحيل تصور جسد منفصل تحل فيه نفس إلهية ذات وجود سابق، النفس معاصرة للجسد الذي تقوم اتجاهه بوظيفة مبدأ الأحياء الكامن فعندما تذهب يتبدد ويصبح جماداً..
المحور الثالث: فلسفات التلاشي (الواحدية المادية)
تعتبر النفس هنا مؤلفة من ذرات شأنها شأن الجسد وعند الموت يفسد الجسد وينحل وتتبعثر الذرات التي تؤلف النفس ضمن الدورة الشاملة الكبرى للطبيعة.. ولا يعتبر الموت مشكلة تتطلب حلا فالنفس في هذه الفلسفة ليست سوى قوة طبيعية ملازمة للمادة تتبدد عند الموت..
في القرن العشرين وأمام العديد من الأسئلة المطروحة والتي لم تجد بعد إجاباتها الكافية حاول تيار فلسفي آخر وهو التيار الوجودي أن يقدم تصوره للمسألة.. يقول غابرييل مرسيل أحد فلاسفة هذه المدرسة:«إن الرغبة في تحليل مشكلة الموت لا تفرض علينا القبول بضرورته فالموت ليس موضوع تأمل فكري بل هو تجربة تعاش كما يتعايش المرء مع السر.. فالموت لحظة حاسمة من لحظات هذا الوجود ينبغي أن نستسفر من الحياة عن طبيعة تجربة الموت وعن احتمالاتها».
ويقول هيدغر:«إن الكائن الموجود منذ أن يعي نفسه يصبح مرشحاً للموت وتبدأ حياته تنمو في ظل حداده.. وهذا ما يجعل الكائن البشري معدّاً للموت غائصاً في لجة اليأس يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوة الموت المرعبة والمعتمة..
في الإسلام نلاحظ اهتماماً كبيراً بقضية الموت من خلال كثرة ورود هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم حيث وردت 165 مرة، وفي خلال تذكير الآيات بالناس وبالموت والاستعداد له ونصحهم بالإفلات من مغريات الحياة الدينا ما دامت ستنتهي بالموت ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (11). والاستقامة هي الطريق لربح الحياة الأخرى خاصة وإن الحياة الدنيا لابد أن تنتهي بالموت ( كل نفس ذائقة الموت) (12) والله يحيي الأموات ليبدءوا حياة جديدة ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (13) وكل ذلك بأمر الله ( وأنه أمات وأحيا) (14) وسيكون فناء الدنيا شاملاً يوم القيامة ولن يخلد إلا الله وحده ( كل ما عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (15) والموت نهاية حتمية لكل حي ولا أحد من الكائنات يخلد ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) (16) ويدرك الموت الإنسان أينما كان وأينما حل( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (17) وإن هربتم منه فذاك أمر عبث ( فإنه ملاقيكم) (18) لأن ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) (19) أي يختبركم بما يجب فيه الصبر في البلايا وبما يجب فيه الشكر من النعم وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر (20) والموت في يد الله بكتاب مؤجل ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) (21) أي أن كل نفس تموت، ولكن حسب مقتضيات كتاب مؤجل..
ويقع الموت على أنواع من الحياة فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ( يحيي الأرض بعد موتها)(22) ومنها زوال القوة الحسية ( يا ليتني متّ قبل هذا)(23) ومنها زوال الــــقوة العاقلة وهي الجهالة ( أومن كان ميتاً فأحييناه)(24) ومــنها الــحزن والخوف المكدّر للــحياة ( ويأتيـــه المـــوت من كــــل مكان وما هو بميت)(25) ومنها المنام ( والتي لم تمت في منامها)(26).
وقد قيل في المنام الموت الخفيف والموت النوم الثقيل.. وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك ومنه الحديث:«أول من مات إبليس لأنه أول من عصى» وفي حديث موسى (ع) قيل له إن هامان قد مات فلقيه، فسأل ربه فقال له: أما تعلم أن من افقرته فقد أمته؟(27).
وفي الأحاديث المأثورة نقرأ للإمام علي (ع) بعضاً منها عن الموت وأنواعه وكيفية التعامل معه.. يقول عليه السلام:«الساعات تخترم الأعمار، وتدنّي من البوار»(28)، و«في كل نفس فوتٌ»(29) و«نفس المرء خطاه إلى أجله»(30) و«إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفض في الطلب واجمل في المكتسب»(31) ومن وصية له (ع) لابنه الحسن(ع):«إنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا وللموت لا للحياة.. وإنك في منزل قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة وإنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ولا يفوته طالبه ولا بد أنه مدركه فكن منه على حذر أن يدركك على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك»(32) وعنه (ع):«ما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه»(33) وعنه (ع):«إن أوقاتك أجزاء عمرك فلا تنفذ لك وقتاً إلا في طاعة تزلفك»(34).
وقيل له (ع): صف لنا الموت.. فقال: على الخبير سقطتم هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، وإما بشارة بعذاب الأبد، وإما تحزين وتهويل، وأمر مبهم لا يدري من أي الفِرَق هو.. (35)
ويقول (ع):«تحفة المؤمن الموت» وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن لا يزال فيها في عناء في رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان فالموت إطلاق له من العذاب والإطلاق تحفة في حقه لما يصل إليه من النعيم الدائم.. (36)
وبعد فالموت خلق من خلق الله وما من خلق إلا وفي إيجاده حكمة بالغة، ومصلحة معروفة أو غير معروفة، وفي خلق الموت حكمة بالغة ومصلحة عامة وخاصة..
والموت باب وكل الناس داخلوه والأجل مفتاح ذلك الباب ومفتاح الأجل بيده سبحانه وحده لا أحد له القدرة على استعماله إلا بإذن الله..
والموت حق من حقوق الله تعالى وسنّة إلهية ثابتة مرتبطة بحركة السنن التاريخية، فأي خلل في ميزان سنة الموت يؤدي إلى خلل كبير في حركة نظام سنة الحياة المختلفة حتى تضيق الحياة بنفسها..
والموت هو الفيصل الذي يفصل بين مراحل الحياة المختلفة، وهو الفرقان العادل بين الحق والباطل، وهو النهاية التي تنتهي بها مرحلة التكليف وتبتدئ بها مرحلة جديدة من مراحل الحياة الآخرة وإنه أول نعم الآخـــرة وعذابها وخير الزاد مع الموت التقوى والعمل الصالح وأداء حقوق الله تعالى والناس..
(1) يوبانشاد: يوبا: ومعناها بالقرب.. وشاد: ومعناها يجلس.. ومن (الجلوس بالقرب) من المعلم انتقل معنى الكلمة حتى أصبح يطلق على المذهب الغامض الملغّز الذي كان يسرّه المعلم إلى خيرة تلاميذه وأحبه إليهم..
(2) قصة الحضارة: ويل ديورانت ج1 ص100.
(3) المصدر السابق: ج2 ص21.
(4) المصدر السابق: ج2 ص30.
(5) ملحمة جلجامش: طه باقر ص53.
(6) مصر والحياة المصرية: أدولف أرمان ص331.
(7) قصة الحضارة: ج2 ص433.
(8) العهد القديم: سفر أيوب إصحاح 21-26.
(9) رسالة بولس الأولى إلى أهل رومية.
(10) سورة آل عمران: 185.
(11) سورة الأنبياء: 35، وسورة العنكبوت: 57.
(12) سورة البقرة: 28.
(13) سورة النجم: 44.
(14) سورة الرحمن: 26.
(15) سورة الأنبياء: 34.
(16) سورة النساء: 78.
(17) سورة الجمعة: 8.
(18) سورة الأنبياء: 35.
(19) الكشاف: الزمخشري ج2 ص572.
(20) سورة آل عمران: 145.
(21) سورة الزمر: 42.
(22) سورة الروم: 19.
(23) سورة مريم: 23.
(24) سورة الأنعام: 122.
(25) سورة النمل: 80.
(26) سورة إبراهيم: 17.
(27) لسان العرب: مادة موت.
(28) غرر الحكم.
(29) المصدر السابق.
(30) بحار الأنوار: ج73 ص128.
(31) غرر الحكم.
(32) نهج البلاغة: كتاب 31.
(33) المصدر السابق: خطبة 38.
(34) غرر الحكم.
(35) معاني الأخبار: ص273.
(36) مجموعة ورام: ج1 ص268.
تختلط المشاعر، فقد تكون حزناً يرافقه بعض الفرح أو كلاهما، وقد يكون حزناً طاغياً يجتاح الروح ويجعل الدموع مطراً متساقطاً يحفر أخاديده على الخدين..
كلنا جرب تلك اللوعة ومشاعر الاكتئاب.. وهو توديع عزيز قد نراه مرة أخرى ونجتمع به إذا طالت فسحة الحياة..
لكن.. ما بالك بالموت هذا السفر الطويل الذي لا عودة منه؟
أحسب أن المعادلة ستختلف في تلك اللحظة.. بل مؤكد أنها تختلف.. تاريخ من الروابط والذكريات التي تجمعنا بالميت سترحل معه ولا نستطيع الإمساك بها إلا في زوايا الذاكرة..
في الحالة الأولى تتمنى أن تكون برفقة من جئت تودعه في رحلته.. وفي الحالة الثانية ورغم حبك لمن مات فإنك تتشبث وبكل قواك بمكانك.. وينتصب الخوف بقامته الطويلة.. الخوف – كما قال لوكريتس- أول أمهات الآلهة، وخصوصاً الخوف من الموت..
فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار وقلّما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كان كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكاً، وهنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة..
لقد كانت أهم ما تعلقت به أنظار الإنسان البدائي – إضافة إلى الموت – وما استوقف أنظاره بسره العجيب هو الأحلام..
لقد بهت الإنسان البدائي لهذه الأعاجيب التي يراها في نومه، وفزع فزعاً شديداً حين شهد في رؤاه أشخاص أولئك الذين يعلم عنهم علم اليقين أنهم فارقوا الحياة.. لقد دفن موتاه بيديه ليحول دون عودتهم.. لقد دفن مع الموتى ألوان الطعام وسائر الحاجات حتى لا يعود الميت من جديد فيصب عليه لعنته، بل كان أحياناً يترك للميت الدار التي جاءه فيها الموت وينتقل هو إلى دار أخرى، وفي بعض البلدان كان الإنسان البدائي يُخرج الجثة من الدار من خلال ثقب في الحائط ثم يدور بها حول الدار ثلاث دورات سريعة لكي تنسى الروح أين المدخل إلى تلك الدار فلا تعاودها أبداً..
مثل هذه الأحداث التي كانت تصادف الإنسان البدائي في حياته أقنعته بأن كل كائن حي له نفس أو حياة دفينة فــي جوفه يــمكن انفصالها عن الجسد إبان المرض أو النوم أو الموت..
جاء في كتاب من كتب (يوبانشاد)(1) في الهند القديمة:«لا يوقظنّ نائماً إيقاظاً مفاجئاً لأنه من أصعب الأمور أن تضلّ الروح فلا تعرف طريقها إلى جسدها..»(2).
هل يصح الكلام على الموت وكأنه حدث مفاجئ يحصل في لحظة دون إنذارات سابقة ولا ينطوي على أي مضمون؟(3).
اعتبر الفلاسفة أن الموت أمر لا يطاله الفكر ولا يدخل في نطاق إمكانية المعرفة.. إذ يمكن اختيار الموت بأي شكل من الأشكال ليس بالفكر ولا بالتخيل ولا بالحس..
وعلى حد تعبير أبيقور:«عندما يحل موتي أكون قد أصبحت غير موجود.. وطالما أنا موجود يكون موتي لما يأتي بعد..».
إن الإنسان عند مرضه أو شيخوخته يرى فسحة رؤاه المستقبلية وأحلامه تضيق وتضيق وعندما تطبق عليه آفاق التطلع إلى الزمن الآتي يصبح حاضره منشغلاً بالحاجات المباشرة أو نازفاً باتجاه الماضي من خلال جرح الذاكرة الواهمة.. فحتى لو استبعد بطريقة لا واعية فكرة الموت، يظل المرء فريسة الشعور بكونه عرضة للزوال..
يستحيل مواجهة عدم الذات كما أبرز ذلك فرويد، أي أن المرء لا يــستــطيع معايشة فكرة دنو الحتف إلا أن هذه الفكرة تقفز إلى الخاطر بمثابة دَين مقلق لاسيما وأن موعد الاستحقاق مجهول ومحتم في الآن نفسه..
إن المرء يزداد شعوره إرهافاً عند موت كل شخص عزيز عليه أو يتصل به صلات شخصية..
هذا الشريك الذي يفارقني نهائياً، هذا الصنو لذاتي، هذا الينبوع المتفجر حناناً وعطاءً وحرية، بالنسبة لي قد نضب وغدا كل اتصال بيني وبينه مستحيلاً.. والحضور الشخصي الماثل في الشريك الميت قد انغلق على ذاته تاركاً إياي في الخارج مختطفاً معه جزءاً مني لا أستطيع الاستغناء عنه.. إنها لتجربة تجعلني ألامس الموت ملامسة حقيقية..
بعد إغماضه الجفنين يستمر العزيز الراحل يموت فيّ، إنه يبتعد عني بالرغم من محاولاتي لاستعادة رفقة العمر التي ما تزال ملأى بالوعود التي كنت أمنّي نفسي بها معه قبل حلول اللحظة القاضية.. ويستمر أخدود الحزن المنحفر في مشاعري يعمل على اقتلاع جذور الحبيب الميت في نفس الحين الذي يقتلعني فيه من ذاتي.
ناقشت الفلسفات والديانات قضايا الموت والروح والخلود، وعالم ما بعد الموت، وشغلتها هذه القضايا آلاف السنين ومازالت، فقد تناولت الفلسفات والديانات مفاهيم الموت وماهيته، وعلاقته بالحرية والمسؤولية وفي إطار ذلك علاقة الذاتي بالموضوعي، والأنا الفردية بالأنا الكلية وصولاً إلى المعرفة الإنسانية.. وكل ذلك في إطار فلسفة الحياة والموت، وتأثيرها على النواميس والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في المجتمع..
والتراث الإنساني مليء بالآراء والمعتقدات والمواقف والمذاهب المتعلقة بمفاهيم الموت والحياة والروح والخلود..
ففي ديانات شعوب الرافدين نرى أن الإنسان حسب تلك الديانات هو الذي اختار قدره ومصيره فالآلهة خلقته سعيداً وخيّرته بين الخلود والموت من خلال منحه حرية الاختيار بين شجر الجنة عامة وبين الثمر المحرم الذي يقود الإنسان إلى الخروج من النعيم والى الموت.. «لقد خلقت الآلهة الإنسان منعماً سعيداً لكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعلته ولم ينج إلا رجل واحد هو تجتوح الحائك.. وقد خسر تجتوح الحائك الحياة الخالدة لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة»(4).
وقد حاولت أساطير شعوب الرافدين وملاحمهم ودياناتهم التغلب على الموت بمساعدة الآلهة واكتشاف سرّ الخلود الأبدي الذي خسره الإنسان مختاراً بعد أكل الثمرة المحرمة..
ونلاحظ أن البحث عن سر الخلود كان محور أساطير الديانات الرافدية وآدابها لكن سرعان ما اكتشفت استحالة ما تصبو إليه لأن (إيا) آلهة الحكمة «علّمت (آدابا) حكيم أريدو وجميع العلوم ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً هو سر الحياة الأبدية التي لا تنتهي بالموت»(5).
ولن يستطيع الإنسان الحصول على هذا السر ولذلك بقي الموت أمراً حتمياً لا راد له، وما الحياة الأبدية والخلود إلا للآلهة وحدها «الآلهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبد أما أبناء البشر فأيامهم معدودات وكل ما عملوا هراء وعبث»(6).
أما الديانات المصرية فلم تحاول حل لغز الحياة والتغلب على الموت، وبدل ذلك جعلت الحياة الدنيا كلها مقدمات للحياة الأخرى.. ووقفت من ظاهرة الموت نفسها موقفاً واقعياً، فآمنت بحتميته واستسلمت له، ولم تبحث عن أسباب قدومه أو مبررات هذا القدوم «إذا أتاك رسول لك، وأخذ هبته ليعمل ضدك، فلا تقل إني لا زلت صغيراً، إنك لا تعرف منيتك، فالموت يأتي ويتحكم في الطفل الذي يرقد بين ذراعي أمه كما يتحكم في الرجل الذي بلغ من الكبر عتياً»(7).
أما في نظر الزرادشتية فالموت هو أشد الخفايا رهبة، وحتميته لا يمكن الفرار منها، لأن (إستواد) إله الموت يعثر على كل إنسان أياً كان مقره ولا يستطيع أحد الإفلات منه، ولن ينجو أحد من الموت لأن (إستواد) يأتي متخفيا إلى كل إنسان، وهو لا يعظم شخصاً ولا يقبل الثناء ولا الرشوة، يهلك الناس بلا رحمة.. (8)
في رأي اليهودية، الموت انطفاء وتلاشي وعدم، لا فرق بين كبير وصغير وفقير وثري «هذا يموت في عين كماله فكله مطمئن وساكن، أحواضه مملوءة لبناً، ومخ عظامه طري، وذلك يموت بنفس مرة ولم يذق خيراً.. كلاهما يضطجعان معاً في التراب، والدود يغشاهما»(9).
والموت في العهد القديم ارتبط بخطيئة آدم وعصيانه واختياره، عندما خالف وصايا الآلهة وأكل ثمر الشجرة المحرمة فخسر الخلود واستحق الموت..
أما الموت حسب العهد الجديد فهو أيضاً نتيجة الخطيئة ومرتبط بها «من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع»(10).
فالموت كما حاله في العهد القديم نتيجة لمعصية الرب وتجاهل وصاياه، أي نتيجة الخطيئة..
في الفكر الفلسفي نجد أن أفكار الفلاسفة قد انصبت على ثلاثة محاور:
المحور الأول: فلسفات السقوط
عند الموت تعود النفس فتنفصل عن الجسد بعد أن تكون قد تجسدت وسقطت وهو ما يسمى بثنائية النفس والجسد.. حيث تولد الحياة الإنسانية من هذا اللقاء الإنساني ويحدث الموت لدى انفصالهما..
ويعرف هذا التيار الفلسفي بتيار السقوط وقد سيطر عليه فكر أفلاطون وتوضحت صياغته مع اليوبانشاد الهندية وامتدّت إلى ما بعد ديكارت ومالبرانش.. وترى هذه الفلسفات أن هذا اللقاء بين النفس والجسد قد حدث نتيجة سقطة لكن الفلسفة الإغريقية بعد اكتسابها الصبغة المسيحية تعتقد أن هذا اللقاء الثنائي ناجم عن عملية خلق أوجدت النفس..
وقد اجتمعت تلك الفلسفات على أن الواحد وحده موجود وجوداً مطلقاً بينما الكثرة ليست سوى شيء وهمي غير حقيقي..
المحور الثاني: فلسفات التشكيل..
وهي التي هيمن عليها أرسطو بأفكاره وعلى يد توما الإكويني اتخذت الطابع المسيحي وتطورت على يد هنري برغسون الفرنسي في القرن التاسع عشر..
محور هذه الفلسفة أن النفس تشكل الصورة في الكيان البشري..
يقول أرسطو: يستحيل تصور جسد منفصل تحل فيه نفس إلهية ذات وجود سابق، النفس معاصرة للجسد الذي تقوم اتجاهه بوظيفة مبدأ الأحياء الكامن فعندما تذهب يتبدد ويصبح جماداً..
المحور الثالث: فلسفات التلاشي (الواحدية المادية)
تعتبر النفس هنا مؤلفة من ذرات شأنها شأن الجسد وعند الموت يفسد الجسد وينحل وتتبعثر الذرات التي تؤلف النفس ضمن الدورة الشاملة الكبرى للطبيعة.. ولا يعتبر الموت مشكلة تتطلب حلا فالنفس في هذه الفلسفة ليست سوى قوة طبيعية ملازمة للمادة تتبدد عند الموت..
في القرن العشرين وأمام العديد من الأسئلة المطروحة والتي لم تجد بعد إجاباتها الكافية حاول تيار فلسفي آخر وهو التيار الوجودي أن يقدم تصوره للمسألة.. يقول غابرييل مرسيل أحد فلاسفة هذه المدرسة:«إن الرغبة في تحليل مشكلة الموت لا تفرض علينا القبول بضرورته فالموت ليس موضوع تأمل فكري بل هو تجربة تعاش كما يتعايش المرء مع السر.. فالموت لحظة حاسمة من لحظات هذا الوجود ينبغي أن نستسفر من الحياة عن طبيعة تجربة الموت وعن احتمالاتها».
ويقول هيدغر:«إن الكائن الموجود منذ أن يعي نفسه يصبح مرشحاً للموت وتبدأ حياته تنمو في ظل حداده.. وهذا ما يجعل الكائن البشري معدّاً للموت غائصاً في لجة اليأس يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوة الموت المرعبة والمعتمة..
في الإسلام نلاحظ اهتماماً كبيراً بقضية الموت من خلال كثرة ورود هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم حيث وردت 165 مرة، وفي خلال تذكير الآيات بالناس وبالموت والاستعداد له ونصحهم بالإفلات من مغريات الحياة الدينا ما دامت ستنتهي بالموت ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (11). والاستقامة هي الطريق لربح الحياة الأخرى خاصة وإن الحياة الدنيا لابد أن تنتهي بالموت ( كل نفس ذائقة الموت) (12) والله يحيي الأموات ليبدءوا حياة جديدة ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (13) وكل ذلك بأمر الله ( وأنه أمات وأحيا) (14) وسيكون فناء الدنيا شاملاً يوم القيامة ولن يخلد إلا الله وحده ( كل ما عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (15) والموت نهاية حتمية لكل حي ولا أحد من الكائنات يخلد ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) (16) ويدرك الموت الإنسان أينما كان وأينما حل( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (17) وإن هربتم منه فذاك أمر عبث ( فإنه ملاقيكم) (18) لأن ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) (19) أي يختبركم بما يجب فيه الصبر في البلايا وبما يجب فيه الشكر من النعم وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر (20) والموت في يد الله بكتاب مؤجل ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) (21) أي أن كل نفس تموت، ولكن حسب مقتضيات كتاب مؤجل..
ويقع الموت على أنواع من الحياة فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ( يحيي الأرض بعد موتها)(22) ومنها زوال القوة الحسية ( يا ليتني متّ قبل هذا)(23) ومنها زوال الــــقوة العاقلة وهي الجهالة ( أومن كان ميتاً فأحييناه)(24) ومــنها الــحزن والخوف المكدّر للــحياة ( ويأتيـــه المـــوت من كــــل مكان وما هو بميت)(25) ومنها المنام ( والتي لم تمت في منامها)(26).
وقد قيل في المنام الموت الخفيف والموت النوم الثقيل.. وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك ومنه الحديث:«أول من مات إبليس لأنه أول من عصى» وفي حديث موسى (ع) قيل له إن هامان قد مات فلقيه، فسأل ربه فقال له: أما تعلم أن من افقرته فقد أمته؟(27).
وفي الأحاديث المأثورة نقرأ للإمام علي (ع) بعضاً منها عن الموت وأنواعه وكيفية التعامل معه.. يقول عليه السلام:«الساعات تخترم الأعمار، وتدنّي من البوار»(28)، و«في كل نفس فوتٌ»(29) و«نفس المرء خطاه إلى أجله»(30) و«إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفض في الطلب واجمل في المكتسب»(31) ومن وصية له (ع) لابنه الحسن(ع):«إنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا وللموت لا للحياة.. وإنك في منزل قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة وإنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ولا يفوته طالبه ولا بد أنه مدركه فكن منه على حذر أن يدركك على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك»(32) وعنه (ع):«ما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه»(33) وعنه (ع):«إن أوقاتك أجزاء عمرك فلا تنفذ لك وقتاً إلا في طاعة تزلفك»(34).
وقيل له (ع): صف لنا الموت.. فقال: على الخبير سقطتم هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، وإما بشارة بعذاب الأبد، وإما تحزين وتهويل، وأمر مبهم لا يدري من أي الفِرَق هو.. (35)
ويقول (ع):«تحفة المؤمن الموت» وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن لا يزال فيها في عناء في رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان فالموت إطلاق له من العذاب والإطلاق تحفة في حقه لما يصل إليه من النعيم الدائم.. (36)
وبعد فالموت خلق من خلق الله وما من خلق إلا وفي إيجاده حكمة بالغة، ومصلحة معروفة أو غير معروفة، وفي خلق الموت حكمة بالغة ومصلحة عامة وخاصة..
والموت باب وكل الناس داخلوه والأجل مفتاح ذلك الباب ومفتاح الأجل بيده سبحانه وحده لا أحد له القدرة على استعماله إلا بإذن الله..
والموت حق من حقوق الله تعالى وسنّة إلهية ثابتة مرتبطة بحركة السنن التاريخية، فأي خلل في ميزان سنة الموت يؤدي إلى خلل كبير في حركة نظام سنة الحياة المختلفة حتى تضيق الحياة بنفسها..
والموت هو الفيصل الذي يفصل بين مراحل الحياة المختلفة، وهو الفرقان العادل بين الحق والباطل، وهو النهاية التي تنتهي بها مرحلة التكليف وتبتدئ بها مرحلة جديدة من مراحل الحياة الآخرة وإنه أول نعم الآخـــرة وعذابها وخير الزاد مع الموت التقوى والعمل الصالح وأداء حقوق الله تعالى والناس..
(1) يوبانشاد: يوبا: ومعناها بالقرب.. وشاد: ومعناها يجلس.. ومن (الجلوس بالقرب) من المعلم انتقل معنى الكلمة حتى أصبح يطلق على المذهب الغامض الملغّز الذي كان يسرّه المعلم إلى خيرة تلاميذه وأحبه إليهم..
(2) قصة الحضارة: ويل ديورانت ج1 ص100.
(3) المصدر السابق: ج2 ص21.
(4) المصدر السابق: ج2 ص30.
(5) ملحمة جلجامش: طه باقر ص53.
(6) مصر والحياة المصرية: أدولف أرمان ص331.
(7) قصة الحضارة: ج2 ص433.
(8) العهد القديم: سفر أيوب إصحاح 21-26.
(9) رسالة بولس الأولى إلى أهل رومية.
(10) سورة آل عمران: 185.
(11) سورة الأنبياء: 35، وسورة العنكبوت: 57.
(12) سورة البقرة: 28.
(13) سورة النجم: 44.
(14) سورة الرحمن: 26.
(15) سورة الأنبياء: 34.
(16) سورة النساء: 78.
(17) سورة الجمعة: 8.
(18) سورة الأنبياء: 35.
(19) الكشاف: الزمخشري ج2 ص572.
(20) سورة آل عمران: 145.
(21) سورة الزمر: 42.
(22) سورة الروم: 19.
(23) سورة مريم: 23.
(24) سورة الأنعام: 122.
(25) سورة النمل: 80.
(26) سورة إبراهيم: 17.
(27) لسان العرب: مادة موت.
(28) غرر الحكم.
(29) المصدر السابق.
(30) بحار الأنوار: ج73 ص128.
(31) غرر الحكم.
(32) نهج البلاغة: كتاب 31.
(33) المصدر السابق: خطبة 38.
(34) غرر الحكم.
(35) معاني الأخبار: ص273.
(36) مجموعة ورام: ج1 ص268.