هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
أعرف عن أي حرب تريدني أن أتحدث، عن تلك الحرب التي تأتي على الأخضر واليابس. التي تفتك بالأرواح، وقد تصل في عنفها ذروة الإبادة التي لا تفرق بين كبير وصغير.. تلك الحرب التي تحول العمران الذي كان يزدهي بتصاميمه الهندسية الراقية إلى هياكل إسمنتية مفحمة، والطرق التي كانت معبدة إلى خنادق وحفر، والحقول التي كانت مخضرة أو تترقب حلول الربيع لترتدي حلتها الخضراء إلى مقابر جماعية.. وفي الحرب ترتبك دورة الفصول، ترتبك دورة الدم في العروق، تظلم الدنيا في أعين الأبرياء الذين لا ناقة ولا جمل لهم في ما يخطط له مهندسو الحروب، والقوى المتعارضة والتي لديها «صراع في الرغبات»، وفي ما يهدف إليه جغرافيو السياسة «لإعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي».
نحن مواليد الخمسينيات، لم نعش حربا حقيقية مثل الحربين العالميتين: الأولى والثانية. أكيد أن ثمة حروبا عاشتها بلادنا، لكنها كانت سريعة وخاطفة، ومع ذلك كان لها تأثير سلبي على الحياة اليومية للمواطنين..
بالنسبة للحربين العالميتين، وبفضل الأفلام الوثائقية، عشت أحداثها، تأملت خراب المدن، سقوط الجسور وتماثيل وجداريات الساحات، أحسست بعطش وجوع وحرمان ورعب النساء والعجزة ويتم الأطفال.. وأحسست بلوعة وحيرة الرسائل و تيهها ما بين خط النار وحيث دمار المدن والقرى..
كما لو أني كنت بينهم أعاني مما يعانون..
وبفضل تكنولوجيا التواصل الحديثة: (الأقمار الاصطناعية للتواصل أو الاتصالات/ الإنترنيت)، بتنا وأصبحنا نعيش كل حرب تندلع في رقعة من هذا الكوكب الذي ما أن تنطفئ جذوة نارها هنا، حتى تندلع هناك، كما لو أن قدر، هذا الكوكب، أن تظل نار إلهة أو آلهات الحرب مشتعلة، كي لا يصدق الإنسان أنه يعيش في أمان، كي لا يعتقد أن نار الحرب بعيدة عنه، وأنه لن يكتوي بنارها في أية لحظة.. بتنا نعيش أوارها و نشم روائح متفجراتها، ونستنشق غبار دمارها ثانية ثانية.. نلوك الطعام أو نرشف قهوتنا ونحن نشاهد في التلفاز كرا وفرا في ساحات الوغى، و نتابع حرب الأخبار: اختر لك إحدى الجبهتين وصدق رواياتها..
لكنْ، دعني أتحدث، بعيدا عن الحرب التي تلقي بحممها من السماء وترسل صواريخها المتعددة الرؤوس تنينات تحرق كل متحرك وجامد في طريقها، ثمة حروب أخرى.
ما موقفنا من الحرب أو الحروب البيولوجية؟..
دخلت حياة البشرية، فعبثت فيها بحجة خطإ تسرب فيروس من مختبر أو مختبرات..
يا للعجب !
هل نصدق ذلك؟..
فكان أن وضعنا على وجوهنا كمامات (أقنعة)، وصرنا نلتمس النجاة في التباعد القهري، درجة الاختفاء..
وماذا عن الحرب الطبقية التي امتلأت، جراءها، الزنازين والأقبية..
وماذا عن الحرب اليومية من أجل عيش كريم؟..
أرى أن معشر الكتاب والمبدعين والمثقفين الحقيقيين، يعتمرون خوذات وأحذية عسكرية افتراضية، ويعيشون حروبا، يخوضون فيها من زمان، منذ أن وعوا بأهميتهم وقيمتهم ودورهم الإيجابي في المجتمع، ولن يخرجوا منها أبدا..
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 02/04/2022
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
أعرف عن أي حرب تريدني أن أتحدث، عن تلك الحرب التي تأتي على الأخضر واليابس. التي تفتك بالأرواح، وقد تصل في عنفها ذروة الإبادة التي لا تفرق بين كبير وصغير.. تلك الحرب التي تحول العمران الذي كان يزدهي بتصاميمه الهندسية الراقية إلى هياكل إسمنتية مفحمة، والطرق التي كانت معبدة إلى خنادق وحفر، والحقول التي كانت مخضرة أو تترقب حلول الربيع لترتدي حلتها الخضراء إلى مقابر جماعية.. وفي الحرب ترتبك دورة الفصول، ترتبك دورة الدم في العروق، تظلم الدنيا في أعين الأبرياء الذين لا ناقة ولا جمل لهم في ما يخطط له مهندسو الحروب، والقوى المتعارضة والتي لديها «صراع في الرغبات»، وفي ما يهدف إليه جغرافيو السياسة «لإعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي».
نحن مواليد الخمسينيات، لم نعش حربا حقيقية مثل الحربين العالميتين: الأولى والثانية. أكيد أن ثمة حروبا عاشتها بلادنا، لكنها كانت سريعة وخاطفة، ومع ذلك كان لها تأثير سلبي على الحياة اليومية للمواطنين..
بالنسبة للحربين العالميتين، وبفضل الأفلام الوثائقية، عشت أحداثها، تأملت خراب المدن، سقوط الجسور وتماثيل وجداريات الساحات، أحسست بعطش وجوع وحرمان ورعب النساء والعجزة ويتم الأطفال.. وأحسست بلوعة وحيرة الرسائل و تيهها ما بين خط النار وحيث دمار المدن والقرى..
كما لو أني كنت بينهم أعاني مما يعانون..
وبفضل تكنولوجيا التواصل الحديثة: (الأقمار الاصطناعية للتواصل أو الاتصالات/ الإنترنيت)، بتنا وأصبحنا نعيش كل حرب تندلع في رقعة من هذا الكوكب الذي ما أن تنطفئ جذوة نارها هنا، حتى تندلع هناك، كما لو أن قدر، هذا الكوكب، أن تظل نار إلهة أو آلهات الحرب مشتعلة، كي لا يصدق الإنسان أنه يعيش في أمان، كي لا يعتقد أن نار الحرب بعيدة عنه، وأنه لن يكتوي بنارها في أية لحظة.. بتنا نعيش أوارها و نشم روائح متفجراتها، ونستنشق غبار دمارها ثانية ثانية.. نلوك الطعام أو نرشف قهوتنا ونحن نشاهد في التلفاز كرا وفرا في ساحات الوغى، و نتابع حرب الأخبار: اختر لك إحدى الجبهتين وصدق رواياتها..
لكنْ، دعني أتحدث، بعيدا عن الحرب التي تلقي بحممها من السماء وترسل صواريخها المتعددة الرؤوس تنينات تحرق كل متحرك وجامد في طريقها، ثمة حروب أخرى.
ما موقفنا من الحرب أو الحروب البيولوجية؟..
دخلت حياة البشرية، فعبثت فيها بحجة خطإ تسرب فيروس من مختبر أو مختبرات..
يا للعجب !
هل نصدق ذلك؟..
فكان أن وضعنا على وجوهنا كمامات (أقنعة)، وصرنا نلتمس النجاة في التباعد القهري، درجة الاختفاء..
وماذا عن الحرب الطبقية التي امتلأت، جراءها، الزنازين والأقبية..
وماذا عن الحرب اليومية من أجل عيش كريم؟..
أرى أن معشر الكتاب والمبدعين والمثقفين الحقيقيين، يعتمرون خوذات وأحذية عسكرية افتراضية، ويعيشون حروبا، يخوضون فيها من زمان، منذ أن وعوا بأهميتهم وقيمتهم ودورهم الإيجابي في المجتمع، ولن يخرجوا منها أبدا..
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 02/04/2022
وقت مستقطع من الحرب (1) : عبد الحميد الغرباوي: دعني أتحدث عن حروب أخرى ! - AL ITIHAD
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف
alittihad.info