كثيرون من نقاد الأدب في بلادنا، عندما يدْرسون نصًا أدبيًا في الشعر أو الرواية أو المسرحية أو غيرها من الأجناس الأدبية، فإنهم يستندون في نقدهم إلى منهج من المناهج الغربية، وبخاصة المناهج الحداثية وما فوق الحداثية، مثل البنيوية والأسلوبية والتفكيكية وجمالية التلقي وتحليل الخطاب وغيرها. إنهم يستوردونها من الغرب كما فهموها بمصطلحات متعددة لكل منهج، تكون فارغة الدلالة، وفاقدة القدرة على تحديد المعنى؛ نتيجة الذوبان الأعمى في المناهج الغربية والاستسلام لها؛ فالمنهج المسمى"semiology" عُرف عند النقاد العرب بالسيميولوجية، السيميائية، السيميوطيقية، السيميوتيقي، السيماطيقي، السيميوتيكية، السيميائية، السيميائيات، علم الدلالات، أنظمة العلامات، علم الإشارة، العلامة، الدراسة العلامية، التحليل العلاماتي، وعلم الرموز، علم العلامات والرموزية ، دلالة العلامات، علم الدلالة. كما عرف المنهج التفكيكي Deconstruction بالتفكيكية، التقويض الغربي. التقويضية، التشريحية، التفكيك، التشريح.
إنهم يستوردونها دون وعي بالظروف التي أنتجتها والأفكار الفلسفية التي تحدرت منها، ويطبقونها على النصوص الأدبية بطريقة تعسفية دون محاولة لتطويعها لتلائم هذه النصوص. وفي ذلك نوع من البروكرستية نسبة إلى بروكرست، الذي هو كما في الميثولوجيا اليونانية قاطع طريق، يأتي بضحيته ويضعها على سرير خاص، فإذا كانت قصيرة مطها، وإذا كانت طويلة قطعها لتلائم سريره.
هكذا يتعامل بعض النقاد مع النظريات والمناهج النقدية الغربية بأنها قوالب ومعايير جاهزة يُخضعون النصوص لها. ويحضرني هنا فهم بعض النقاد للمنهج البنيوي وتطبيقه على النص الأدبي؛ فهم يرون أن البنيوية من المناهج التي تنصب على النص، ولا تهتم بخارجه، مثل التاريخ والمجتمع وحياة المؤلف. تحت شعار لا شيء خارج النص، وأن المؤلف مات، ولا وجود له في النص على رأي رولان بارت. هكذا فهموا البنيوية فأي تطبيق يخرج عن هذا الفهم لا يقبلون به ضمن المنهج البنيوي. غاب عنهم أن البنيوية مثل غيرها من المناهج تخضع إلى تغييرات وتعديلات كثيرة حتى صرنا إزاء بنيويات لا بنيوية واحدة. فتوجد بنيوية لوسيان غولدمان وليفي شتراوس ورولان بارت وجينيت. فلماذا لا يكون لنا بنيويتنا الخاصة بأن للمؤلف دورًا في النص، ومعرفة حياته أو على الأقل جوانب منها تكون ضرورية لفهم النص وتفسيره. إن وجود المؤلف وملامحه تتناثر في مواضع مختلفة من نصوصه، وبخاصة في نصه الروائي، فأكاد أجزم، على ضوء تجربتي النقدية والإبداعية للرواية، بأن أي رواية لا تخلو من ملامح أو مواقف من حياة مؤلفها: ففي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" يحمل مصطفى سعيد ملامح مؤلفها الطيب صالح وتتشابه حياته في لندن بجوانب من الحياة التي عايشها في السودان. وكذلك روايات غالب هلسا فنراه شخصية حقيقية في روايتيه "الخماسين"، و"ثلاثة وجوه لبغداد"، كما توجد ملامح حقيقية ومواقع من قريته ماعين في رواياته:" سلطانه" و"الضحك" و"البكاء على الأطلال". ونعاين طفولة حنا مينا في روايته" بقايا صور". وكذلك نجيب محفوظ إذ نجد جوانب من سيرة حياته في أعماله، كما أوضح عنها رجاء النقاش في كتابه "صفحات مذكرات نجيب محفوظ".
لا شك أن الاطلاع على حياة المؤلف بساعدنا على فهم أعماله وتحليلها وتفسيرها، وإدراك معانيها إدراكًا سليمًا، بوصفه جزءًا من بنيتها.
إن النقد الأدبي المعاصر عند بعض النقاد العرب ــ كما أرى ــ نقد انقيادي اكتوى بنيران الاستيراد من الثقافة الغربية، دون إضافة أو تعديل أو تنقيح، وهذا يختلف عما أسميه النقد التثاقفي المبني على الأخذ من الآخر بوعي، وبما يتلاءم مع بيئتنا وواقعنا وتراثنا. ولعل من الأفضل لنا أن نسعى لتكون لنا مناهجنا النقدية المنبثقة من تراثنا لا أن نستوردها دون أن نطبعها بطابعنا العربي، ونفقد بذلك خصوصيتنا وهويتنا العربية.
إننا نطمح أن نلمس شخصيتنا في كل ما نقدم من نقد، وأن نجد روح الناقد في نقده لا أرواح رولان بارت ولوسيان غولدمان وجينيت وفوكو وباختين وتودوروف وغيرهم.
نريد أن نحس رائحة ترابنا، ونسائم بلادنا، وعبق تراثنا فيما نكتب من نقد وغيره، ولا نسبح في البحيرة نفسها التي سبح فيها الآخرون؛ فلكل مجتمع خصوصيته.
نريد إذا ما أخذ الناقد المنهج الغربي ألا يأخذه بحذافيره بل أن يضيف إليه من فكره، ويُظهر فيه شخصيته وأسلوبه. ويطبعه بطابعه.
باختصار نحتاج إلى حداثة في النقد وغيره، حداثة تكون لنا، وليست حداثة ممسوخة أو منسوخة من الحداثة الغربية.
د. محمد عبدالله القواسمة
إنهم يستوردونها دون وعي بالظروف التي أنتجتها والأفكار الفلسفية التي تحدرت منها، ويطبقونها على النصوص الأدبية بطريقة تعسفية دون محاولة لتطويعها لتلائم هذه النصوص. وفي ذلك نوع من البروكرستية نسبة إلى بروكرست، الذي هو كما في الميثولوجيا اليونانية قاطع طريق، يأتي بضحيته ويضعها على سرير خاص، فإذا كانت قصيرة مطها، وإذا كانت طويلة قطعها لتلائم سريره.
هكذا يتعامل بعض النقاد مع النظريات والمناهج النقدية الغربية بأنها قوالب ومعايير جاهزة يُخضعون النصوص لها. ويحضرني هنا فهم بعض النقاد للمنهج البنيوي وتطبيقه على النص الأدبي؛ فهم يرون أن البنيوية من المناهج التي تنصب على النص، ولا تهتم بخارجه، مثل التاريخ والمجتمع وحياة المؤلف. تحت شعار لا شيء خارج النص، وأن المؤلف مات، ولا وجود له في النص على رأي رولان بارت. هكذا فهموا البنيوية فأي تطبيق يخرج عن هذا الفهم لا يقبلون به ضمن المنهج البنيوي. غاب عنهم أن البنيوية مثل غيرها من المناهج تخضع إلى تغييرات وتعديلات كثيرة حتى صرنا إزاء بنيويات لا بنيوية واحدة. فتوجد بنيوية لوسيان غولدمان وليفي شتراوس ورولان بارت وجينيت. فلماذا لا يكون لنا بنيويتنا الخاصة بأن للمؤلف دورًا في النص، ومعرفة حياته أو على الأقل جوانب منها تكون ضرورية لفهم النص وتفسيره. إن وجود المؤلف وملامحه تتناثر في مواضع مختلفة من نصوصه، وبخاصة في نصه الروائي، فأكاد أجزم، على ضوء تجربتي النقدية والإبداعية للرواية، بأن أي رواية لا تخلو من ملامح أو مواقف من حياة مؤلفها: ففي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" يحمل مصطفى سعيد ملامح مؤلفها الطيب صالح وتتشابه حياته في لندن بجوانب من الحياة التي عايشها في السودان. وكذلك روايات غالب هلسا فنراه شخصية حقيقية في روايتيه "الخماسين"، و"ثلاثة وجوه لبغداد"، كما توجد ملامح حقيقية ومواقع من قريته ماعين في رواياته:" سلطانه" و"الضحك" و"البكاء على الأطلال". ونعاين طفولة حنا مينا في روايته" بقايا صور". وكذلك نجيب محفوظ إذ نجد جوانب من سيرة حياته في أعماله، كما أوضح عنها رجاء النقاش في كتابه "صفحات مذكرات نجيب محفوظ".
لا شك أن الاطلاع على حياة المؤلف بساعدنا على فهم أعماله وتحليلها وتفسيرها، وإدراك معانيها إدراكًا سليمًا، بوصفه جزءًا من بنيتها.
إن النقد الأدبي المعاصر عند بعض النقاد العرب ــ كما أرى ــ نقد انقيادي اكتوى بنيران الاستيراد من الثقافة الغربية، دون إضافة أو تعديل أو تنقيح، وهذا يختلف عما أسميه النقد التثاقفي المبني على الأخذ من الآخر بوعي، وبما يتلاءم مع بيئتنا وواقعنا وتراثنا. ولعل من الأفضل لنا أن نسعى لتكون لنا مناهجنا النقدية المنبثقة من تراثنا لا أن نستوردها دون أن نطبعها بطابعنا العربي، ونفقد بذلك خصوصيتنا وهويتنا العربية.
إننا نطمح أن نلمس شخصيتنا في كل ما نقدم من نقد، وأن نجد روح الناقد في نقده لا أرواح رولان بارت ولوسيان غولدمان وجينيت وفوكو وباختين وتودوروف وغيرهم.
نريد أن نحس رائحة ترابنا، ونسائم بلادنا، وعبق تراثنا فيما نكتب من نقد وغيره، ولا نسبح في البحيرة نفسها التي سبح فيها الآخرون؛ فلكل مجتمع خصوصيته.
نريد إذا ما أخذ الناقد المنهج الغربي ألا يأخذه بحذافيره بل أن يضيف إليه من فكره، ويُظهر فيه شخصيته وأسلوبه. ويطبعه بطابعه.
باختصار نحتاج إلى حداثة في النقد وغيره، حداثة تكون لنا، وليست حداثة ممسوخة أو منسوخة من الحداثة الغربية.
د. محمد عبدالله القواسمة