فنون بصرية خيرة جليل - الشحن والإفراغ في لوحات الفنانة التشكيلية دلال الصماري

ولأن الفن التشكيلي هو المجال المتجدد، انغمست فيه كل الأنامل والهويات بروح الغواية والشغف والابداع، باعتباره وسيط فاعل بين الانسان والعالم الخارجي، "فالعمل الفني ماهو الا تعبير عن معنى أو انفعال أو اثارة يحسها الفنان في العالم الخارجي." اعمال فنية مبتكرة أثثت المعرض الفردي للفنانة التشكيلية دلال الصماري تحت عنوان " كفــن".
أعمال فنية متنوعة تأخذنا الى البحث في معنى الوجود بين قضبان رؤاها وتصوراتها الجمالية، إذ أن حقيقة العمل الفني تكمن في "رسم الوعي بالوجود ومرور الزمن، مثلما نحس النبض" . لوحات الصماري تحملنا في رحلة جريئة من حيزها الواقعي إلى حيز الابداع التشكيلي ضمن تصور رؤيوي وثراء دلالي يكشف عن بحث مغامر في فسحات الفن التشكيلي بما هو مجال رحب للإبداع. حيث تضمر لوحات الفنانة رسالة جمالية تقود المتلقي إلى إعادة بلورة وعيه بعد إشباع تأملي في مضمونها الفكري والتشكيلي ذلك أن أعمالها الفنية جاءت كتأصيل لممارسة فنية داخل خانة الفن التونسي المعاصر. تأصيلاً لتجربة ذاتية منفردة برؤاها وتصوراتها تطرح العديد من الدلالات والمفاهيم ضمن نسق ابداعي يتميز بخصوصية على مستوى الطرح أو لنقل يتضمن طرحاً صريحاً لثنائية الشكل والمضمون. كان لجوء الفنانة إلى النواقص (المتلاشيات)على إعتبارها ذات صبغة تعبيرية بعد أن تجرأت على تجميع مواد (بقايا قنينات ألمنيوم، أسلاك..) وأشياء أخرى موجودة في الوسط المعيشي، وكأنها تستدعي اللامنطق في تعبيرها الفني، فهي ترى العالم والحياة بطريقة جديدة مغايرة متغايرة بعد أن رأت أن الاشكال المألوفة لم تعد كافية لإيصال تطلعات وأفكار الفنان الجمالية والتعبير عنها. فتوخت منحاً آخر في التعبير بإصرارها على العودة للمتلاشيات فبحثت في مواد وعناصر لم نتوقع وجودها أو حضورها داخل الحيز التشكيلي للوحاتها لتشكل من خلالها بحوثاً فنية وصياغات تشكيلية تجمع فيها بين المألوف واللامألوف، فهذا التناقض قد يساعد على تكشف المعنى والكشف عن المخفي والمعلن وعن المنسي، وكذلك عن اللامرئي. لعل الصماري أرادت من خلال هذه الصياغات أن تثير فينا دهشة الصورة التى تأخذ منطلقاتها من الواقع وتعيد تشكيلها من جديد لإيجاد معالم مغايرة وفق رؤى فنية تزيد من طاقة التعبير والتشكيل في آن، "فأن نكون في العالم معناها ان نمنح كائناته وأشياءه معنـى" . أي أنها تفرغ المادة من محتواها اليومي والإستعمالي لتشحنها بدلالات وطاقات تعبيرية فغدت مجمل لوحاتها لغز سردي تنشد من خلاله محاورة المتلقي والزج به في متاهة التساؤل والجدل الفكري وذلك لادراك ما تخفيه هذه الصياغات التشكيلية وذاك الفعل الإبداعي الذي تخطت به الفنانة كل العراقيل المكانية والزمنية في مسايرة مشروعها الابداعي لتثبت بذلك وعيها التشكيلي وإمكاناتها العالية في تطويع اللون والمادة (المواد) وتوسيع مرونتها الشكلية وزجها على السطوح التشكيلية لتتشكل من جديد ولتعبر عن نفسها بنفسها، وقد احتوت لوحاتها التشكيلية تكوينات وخطوط ولمسات خطية، علامات تشكيلية، صور، افكار واستعارات .. جميعها مكونات تحقق ثراءاً بصرياً داخل العمل الفني لما تحمله من شحنات تعبيرية وايحاءات فكرية ودلالات رمزية ومعان، يقول امبرتو ايكو:" إن كل عمل فني هو موضوع مفتوح على تذوق لانهائي، لا لكي يكون هذا الفعل مجرد تعلّة لتمارين ذاتية تراوح حولها مزاجية اللحظة، ولكن لأن هذا العمل يتحدد في ذاته، بوصفه مصدراً لا ينفذ من التجارب، كلما تم تسليط الضوء عليه بكيفية متنوعة إلا وأعطى في كل مرة جانباً جديداً فيه." هنا وكأن الصماري تثبت نظرية الكاتارزيس (نظرية التطهير عند أرسطو) بتطهيرها المادة من الشحنات السلبية وشحنها بالدلالات الإيجابية.
انتجت أعمال دلال الصماري ملامح جديدة للتجربة الفنية التونسية لما تحويه من خصوصية على مستوى الأسلوب والدلالة التعبيريـة، فأعمالها التشكيلية تكشف عن تأصيل للفعل التجريبي من خلال البحث والتجريب والإستكشاف في شبكة اللون والشكل والمادة والملمس كنقاط محورية في عملية التشكيل الفني، فهي تطوع كل هذه العناصر لما تمليه الضرورة التشكيلية سعياً منها لتحقيق التجانس البنائي وفق تصور رؤيوي يعكس حذقاً ابداعياً وذكاءاً تشكيلياً، فـ"من المؤكد أن الفنان في حاجة إلي حرية يتحّدد هو فيها لأنه يبدع شكلاً فعبقريته الخاصة يخْصبها الوحي به تود لو تصادف ملابسات ملموسة واضحة قدر المستطاع، فهو يضع العوائق المادية ضرورة جمالية وإذا يتعيّن عليه الانتصار عليها بعد أن يكون قد جعل منها مثيراً ومن نفسه لاعباً فنّاناً." إذ إستطاعت الفنانة أن توازن بين متطلبات التكوين الفني وبين رغباتها في الكشف عن عناصر بصرية جديدة مستثمرة إجتهاداتها في إبداع الصور والأشكال وتوظيفها توظيفاً فنياً في سياقات تشكيلية معاصرة.
اكتسحت المفردات والعلامات المقروءة سطوح اللوحات لتقدم لنا لغة بصرية تغذي روح اللوحة وتترجم أبجدياتها عبر أسلوب تشكيلي تعبيري مغامر، فالأسلوب عند فلوبير "هو طريقة الفنان الخاصة في التفكير أو الشعور، والاسلوب الصادق يجب أن يكون فريداً ويربط الفنان بالإلهام الخاص الذي يدفعه إلى ممارسة العمل الإبداعي الذي يشكل اللغة البصرية أي أن طريقة الفنان الخاصة هي رؤية الأشياء التي تكون الأسلوب نفسه" . فالأسلوب التعبيري لدى الصماري نلاحظه متجسداً في أعمالها الفنية شكلاً ولوناً وملمساً وموضوعاً... مزجاً ابداعياً تستقيه من خيال إبداعي لا محدود. فهذه المفردات طوعتها طوعاً لتحقيق جمالية منجزاتها التشكيلية التي تتميز بخصوصية الاسلوب والرؤية الفنية.

تتراءى لنا أعمال الصماري الفنية بنضجها الفكري النابعة من ذات فنانة مسكونة بهاجس البحث، وروح تواقة للفعل الابداعي، تخوض غمار التجديد في الطرح الجمالي وتقديم تصورات مغايرة عبر اكتشاف عوالم تشكيلية جديدة ذات مناخ جمالي هي عوالم نضجها الفكري ووعيها التشكيلي بهموم واقعهــا، بحيث "يجد الفنان نفسه في العمل الفني المعاصر، ساعياً إلى التحرر من كل ما هو تالد في لحظة الإبداع التي لا تستند إلى الماضي فحسب، وإنما تقوم على معالجة الحاضر والعيني في منطق لا يستند إلى رؤية ذاتية فحسب، وإنما من خلال عملية المحايثة لليومي المشحون بالرمزية." فالفنانة تخوض صراعاتها مع الواقع علها تنتزع منه تشكيلات مستحدثة من حيث الصياغة والأسلوب الفني تشكلها وفق منظور جمالي يعزز قوة الصورة والتعبير. إذن تنتهج الصماري نسقاً تعبيرياً في تشكيل لوحاتها الفنية الموسومة بلغة تشكيلية مشحونة بالدلالات والمعاني لتضع لنا المتلقي في حوارات باطنية مع ذاته يتساءل عن مضمونها في محاولة لفك شفراتها من خلال إدراك العلاقة التلازمية بين المواد الموظفة والإختيارات اللونية، عله يطال عمق المعنى الذي تضمره عوالم اللون وكذلك فهم العلاقة بين المفردات والمضامين الإستيطقية. "فأهمية الأثر الفني تظل مثالة فيما يحمله من غموض ومن ترميز ومن عوالم مبهمة وتخطيطيات لامتحددة ولكن الأهمية الكبرى تظل ماثلة في كونه واسطة بين الفنان والمتلقي، فالأثر الفني يظل موضوع الإستيطيقا الأساسي"
جاءت منجزات الفنانة دلال الصماري التشكيلية الموغلة في التناقض كأرضية للتعبير الجمالي، تخطت من خلالها عتبة السائد نحو مغـامرة اللامألوف "فالإبداع حالة تجاوز السائد والمتعارف وتقاطع معهما هو شكل من اشكال الاضافة لا يعبأُ بغير أطروحاته واقترحاته" ذلك أن الفنانة جعلت من فكرة اللامألوف إحدى قامات التشكيل بعد أن سمحت لنفسها بخوض مغامرة جمالية تؤسس لولادة تشكيلية جديدة تكشف عن حقيقة ذات مبدعــة خيرت الإنتصار للذاتية في مراسها الفني التشكيلــي. فهي بهذا التعاطي الفني تقدم لنا ذوقاً فنياً مغايراً وفضاءاً آخر لقراءات لا حد لها بما أنّ أعمالها جاءت تحمل انزياحــاً في الفكرة لتتخذ بذلك صفة المعاصـرة.
يمكن القول أن أعمال الصماري تميزت بعمق مضموني وحس تفردي وخيال إبداعي لا محدود، رؤى وتطلعات إرتبطت بروح الفنانة إرتباطاً جذرياً فإستطاعت أن تترجم إشراقات أفكارها عبر طروحات تشكيلية جمالية تأصل فعلي البحث والتجريب......



الباحث: سفيان نصر /جامعة صفاقس، تونس
التفاعلات: خيرة جليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...