" قال لي العلوم كلها حجب ،
كل علم منها حجاب نفسه وحجاب غيره "
(النفري – موقف الكشف)
في يوم زمهريري ما كان له أن يبدد دفء سويعات كانت يومها بعض نذرٍ للوفاء لمن كان له عليَّ فضل النشأة العلمية والتكوين " العلامة خالد الذكر مصطفى زيور " كان اللقاء مع الزميل والابن الدكتور خالد محمد عبد الغني ، فيومها ومنذ ما ينيف عن عقد من الزمان كان اللقاء ....
شابٌ طُلْعَةٌ يقبلُ في نهاية لقاء بمعرض الكتاب المصري السنوي بأرض المعارض حيث كنتُ والعلامة فرج طه نتحدث عن أستاذنا "المصطفى " (مصطفى زيور) ، وما أن انتهينا من الشجن المتجدد إلا والبرودة تسري من جديد بالأجسام، لكنها لا تبدد الأفهام , وإذ بهذا الشاب يندفعُ لتحيتي مناديا اسمي بزميل عزيز كان مقدراً أن يتحدث معنا ، لكن حالت دون حضوره ما حرمنا من متعةِ حديثهِ ، ولم يشأْ منظموا اللقاء أن يغيروا اللافتة المعلنة عن اسمه ، وهنا كانت المفارقة : مديحٌ يتداعىَ به خاطرُ ابنٍ مسكونٍ بالشعرِ والأدبِ ( وخالد سيكون له بعد ذلك قصائدَ منشورةٍ ، ومذاعةٍ ، وقلمِ أديبٍ إذ يكتبُ عِلماً ) ، لكن المفاجأةَ تولدتْ من المفارقةِ ، إذ ناداني باسمِ الزميل الأعز ، وكان في البسماتِ ما يبدلُ حَرَجَهُ ، لتتآصر المشاعر ، وتتأجج علاقةٌ أحسبُها تحملُ – في البدءِ على الأقل - ملمحاً لنبضٍ طرحيٍ Transference ، والطرحُ لمن يعرفُ التحليلَ النفسيَ ، ليس بعداً فحسبْ بين المحلل ومريضهِ باعتبارهِ جوهرَ كلِ علاجٍ سواء أقره المعالج وعياً بهِ ، أم غابَ عنهُ دورهُ ، فهو وجودٌ بالقوةِ - بأيٍ من شِقَيْهِ الموجب (حباً) أو السالب (كرهاً) في كل علاقة إنسانية - .
وتتعدد اللقاءات مع طالبِ علمٍ نابهٍ من أولئك القلة من عطشى المعرفة، كان قد تخرج من قسم علم النفس بكلية الآداب ببنها وهي في حينها فرع من جامعة الزقازيق (1992) ، وقد دفعه طموحه ليتحمل معاناة الانتقال من " بَلَقْس الأشراف " كما يسميها المقريزي في السلوك ، ليحصل على السنة التمهيدية للماجستير من قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس (سبتمبر 1995)، وأغلب الظن – وليس كل الظن إثم – أن ما عوق مسيرته عدة سنوات وهو الذي يشرق وجهه مع جهده بالطموح ، إنما قيامه بأداء فريضة وطنه ، إذ أدى الخدمة العسكرية الوطنية عام 1992/1993, ومن بعدها انطلقت خطاه حتى لم تُقْطَعْ سُبُلَها في طرق العلم ، وهو الشغوف دوماً بمزيدٍ يبددُ وحشةَ المجهلةِ ، ولم يكنْ غريبٌ والحال هذه أن يحصل على درجة دبلوم الخدمة النفسية ( شعبة علم النفس الإكلينيكي ) بتقدير جيد جداً ( دور يونيو 1996 ) من ذات القسم الذي أهله للحصول على درجة الماجستير ، لكنه يعود لرحاب جامعته ، ففي ديناميات شخصيته كما تزيدها الوقائع صدقاً ، ووفاءً ، وإيثاراً ، والتزاماً ، وحفظاً لأيادي من بثهُ لبنات علم ، وهو الملازم – كما أظن – لأستاذه عادل كمال خضر ، الذي أحسبه تولاه بالري ، بقدر ما آثره بعد ذلك في أبحاث علمية مشتركة ، سنرى شعاعاً منها بين طيات هذا السِفْر بين يدي القارئ ، ولم يكن غريب أن يُتَوَجَ جهدهُ ، وهو الذي يختلج عقله وفكره بمددٍ لا ينضبُ من الرغبة في سبرِ غَوْرِ عطشهِ للعلمِ ومن ثم الكتاب والبحث والسعي للجديد ، ومن آيات الرغبة لمن يعرف اللاكانية ( التحليل النفسي في وجهه الفرنسي والذي أسس له العلامة جاك لاكان Lacan ، وأصبح اليوم علم أعلامه في العالم قاطبة العلامة المصري – الطير المهاجر تحت وطأة واقع منهار – مصطفى صفوان ) أنها دال الطلب بقدر ما هي سرابية ، إذ يَحُدُهَا النُقْصَانُ دوماً ، وما الغرابة في ذلك ، والنَهَمُ أبداَ لا يُشْبَعُ لطالب علم ، وكانَهُ الزميل – الابن خالد عبد الغني.
وفي الرابع عشر من ديسمبر عام 1998 توج خالد جهده ومثابرته بحصوله على درجة الماجستير بتقدير "ممتاز" وكان موضوع أطروحته " أنماط اضطرابات النوم لدى الراشدين والمسنين وعلاقتها ببعض المتغيرات النفسية (دراسة مقارنة بين الذكور والإناث )، وهنا تحيةٌ واجبةٌ – تفرض نفسها لواهبي الابن بشارة التكوين ، أستاذه والمشرف على أطروحته الزميل عادل كمال خضر ، والعلامة قدري حفني رئيس لجنة المناقشة ، فقد كان للأخير موقفاً مشهوراً لولاه لضاع – كما علمتُ – جهدٌ متميزٌ كان يستحق عليه ما هو أكثر وأكثر ، وتلك قصةٌ أخرى في النهرِ الراكدِ للظاهرةِ العلميةِ أعفي نفسي والقارئ من تفاصيلها وإن عَكَسَتْ بذاتها واحداً من عوامل التحجرِ في قلوبِ البعضِ والذي لا يخفى أثرهُ على واقعٍ تعليميٍ أحسبُهُ صار كتاباً مفتوحاً تعددت شكوانا منه دون فعلٍ يبدد الرديء ..
عكف الشغوف بالعلم ، والعقل النابض الذي لا يكف عن السعي في طرق الهجير من أجل الحصول على الدكتوراه , مدركاً عبارة النَفْرِي ( ذلك الصوفي الذي لم ير النور من أعماله غير " المواقف والمخاطبات " والذي حققه مستشرق هو آرثر يوحنا أولبري ، زميل كلية بمبروك في جامعة كامبرج سابقاً والمحاضر بالجامعة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي وقد ترجمه للإنجليزية في طبعته الأولى ، دار الكتب المصرية ، القاهرة،1934)، ومن أقوال النَفْرِي في هذا السفر: " معرفة ليس فيها جهل ، معرفة ليست فيها معرفة ".
لقد سجل الطالب أطروحته للدكتوراه في الموضوع الأثير لأستاذه كمال خضر ، وكأنه إذا يحقق رغبته ، فإنما كما يقول اللاكانيون : " الإنسان رغبة في رغبة آخر " ، وهو ما يشي بروحه الشفيف ليصبح حركة موصولة لا ينقطع سعيه عن التطواف في المدار الذي يتوشح بالتقدير والإعزاز ، وإن لم نغفل أن المواقف كاللغة في قمة فعاليتها عندما تريد أن تقول شيئاً فإنها تقول شيئاً مجاوراً أيضاً ، إن المدلول Signified يصل إلى هدفه عن طريق مدلول أخر ، تلك فحسب خطوة أولى يجب أن ندرك معها أنه بدون بنية من قبل الدال Signifier فإن تحويل الإحساس يصبح غير ممكنٍ ، إنه دور الدالِ في الاستعارة ، ولا غرابة وأستاذه قد تعهده بالري منذ البدء ، بقدر ما رأى فيه دفقةً ووهجةً تستطيع أن تتلاطم وموج الجديد ، الذي نستطيع تبيانه من عنوان أطروحة الدكتوراه " دراسة تطور رسوم الأطفال والمراهقين العاديين في اختبار رسم المنزل والشجرة والشخص ومقارنتها برسوم المرضى النفسيين والفئات الخاصة ". ويحصل الابن الذي آن الحين ليمضي على درب هو فيه مطالع الزميل بعد حصوله على درجة الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالتبادل مع الجامعات .
أخيراً ها هو يصل إلى مبتغاهُ ، ويحصل على بعض حقٍ كان يتمناهُ ،لكنه بلغ مرادهُ بالسعي الحثيث والتحصيل والمثابرة ، وقيمة العمل والجهد العلمي الموفور الذي تسري وَقْدَتُهُ في ديناميات شخصيته ، وهو الذي تشرنقَ في كوةِ العلمِ ليختلجَ عمله في نهاية المطاف لتتألقَ فَرَاشَتُهُ بجديد لا تستطيعه غير النفوسِ التي لا تكفُ عن طلبِ المزيدِ ، ولا تلوذُ بتأرجحاتِ الإيقاعِ المثقوبِ ، ونزيدُ فنقول إنه الإصرار على تتبع خطىَ الصعبِ والبحثِ عن النقيضِ الذي يؤصلُ لجدلِ العلمِ بلوغاً لِجُمَّاعٍ Synthesis سيَكُونُهُ لِيعبرَ بجهدهِ وعملهِ من الشطآنِ الموحشةِ إلى رحابةِ المعرفةِ ، مما يشي بعمق التكوين الذي نهلَ من أنهارٍ عدةٍ ما بين آداب بنها وآداب عين شمس، لكن قبلهما فالتكوينُ الحقُ إنما هو أرومةُ أسرةٍ وتنشئةٍ في سنواتِ تكوينٍ أولى كانت بذاتها دافعة للإبحار في المرقى الذي يهابه الكثيرون في الآثار اللاحقة، بلوغاً لأفاق قصية ، تعبر المدارات العصية ، إذ يشق بالجلد والمثابرة والإخلاص لمرساهُ ذلك الموج المتلاطم في بحور العلم ، وتقوى يده – ومن قبلها عقله وبصيرته – على السباحة من اجل قارات جديدة للعلم، وهو ما بلغ بعضاً من مراقيهِ وإن تواكب معه بعض من إجحافٍ – في ظني – تركتْ بعضَ الملحِ العالقِ بالحلقِ ، ويا لها من مستدعياتٍ تأخذُ القلبَ وهو الذي لا يُفْصِحُ، لكن الوقائع بذاتها تشير هي الأخرى لشذرة أخرى من مأساة المنظومة التعليمية ،إذ يُحْجَبُ الحقُ عن مستحقيهِ ، إذ يظلُ رهيناً بمكانهِ الذي عُيِّنَ بهِ عام 1995 ، كأخصائي نفسي بوزارة التربية والتعليم ، وإن لم يستسلم لجمرات اللامألوف فقد نهض بدوره ، وواصل سعيه ، ليجيء بعض خلاص عندما ينتقل للعمل بدولة قطر ، وما أكثرَ ما قدم هنا وهناك ، إذ تولى تدريب الأخصائيين النفسيين بالمكاتب الفنية بمديرية التربية والتعليم بالقليوبية ، وهو الذي حاضر بالمشروع القومي المصري الأول لصعوبات التعلم بإشراف جامعة عين شمس ووزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة ، كما أسهم في مشروع تأهيل شباب الخريجين للعمل في مجال الإعاقة بإشراف هيئة الإنتاج الحربي وجامعة عين شمس وهذا كله في مصره ، ورئاسة الفريق الإحصائي القائم بعمل إستراتيجية الأسرة في دولة قطر من عامي 2006/2007 بالمجلس الأعلى لشئون الأسرة بالدوحة ، لكنه معها كم أقام "ورش عمل " في مجال رسوم الأطفال تشخيصا وتحليلا لديناميات الشخصية؟ . بل وأقام دورات تحتذي في القياس النفسي وعلم النفس وذوي الاحتياجات الخاصة وهو الذي أصبح فيها من العلامات المضيئة في هذه الميادين ... مسيرةُ عملٍ في خدمة واقعه المصري العربي غير هياب بالنظر للوراء ، إذ تُقَدَسُ في رؤاه قيمة العمل ، والصحة النفسية كما يقول التحليل النفسي " هي القدرة على الحب والعمل " والتي يتضاءل معهما كل قول ، إذ يرتل الزميل / الابن ، بالحرف المعنى الموصول فيوضاً من جهده فيومضُ عِلْمُهُ بالقَصيِ ، إذ تتعدد أبحاثُهُ العلميةِ والتي نَيَّفَتْ في سنواتٍ لم تتعدَّ أصابع اليد الواحدة (2003- 2007) على أحد عشر بحثاً تعددت اتجاهاتها وميادينها مما يشي بموسوعيةٍ في هذه السن الباكرةِ ، فيما بين الضغوط النفسية والاحتياجات والضغوط وأساليب مواجهتها في مجالات شتى إلى القلق والوحدة النفسية والاختبارات الاسقاطية ليتجاوز ذلك كله إلى الكامنِ والمتجددِ من رغبتهِ حيث الأدب والشعر دارساً (من قبيل جنون الاضطهاد والعظمة في رواية أديب لطه حسين : رؤية إكلينيكية- تحليلية ، ومحللاً وناقداً من قبيل دراسته عن الشعر بديلاً عن السيرة الذاتية في ديوان أناشيد مبللة بالحزن لعيسى الشيخ حسن ) ويا لها من ميادين تعددت معها مناهج البحث ......
وهنا لنا وقفة إذ آنَ أَنْ نيمِمَ شَطَرَ هذا السفر بين يدي القارئ إذ عليَّ أن أحاول ركضَ مسافاتِ الكلامِ و إنْ كنتُ أعرفُ أن العبارة قد تَخُونُنِي رغم أنَّ الأنا يسكن في الكلم ، لكن كيف له أن يّعْبُرَ التخوم والكتاب بين يدي القارئ ؟ ، ولكل قراءتِه ، ذلك أنَّ لذةَ النصِ تجعلُ من كلِ قارئٍ – في ظني – كاتباً جديداً وناقداً مرهفاً ، مما يعفيني من تقويمٍ قد يفقد القارئ لذته قبل رأيه ، ورأيه الذي يختلج برؤاه دون إطار مرجعي ، لكني أيضاً أود أن أضيءَ بعضَ معالم طريق .
لقد آثر الزميل - الابن ، النبيل أن يُذَكِر في مطلع مبحثه الأول بهذا السفر عن " التكامل بين الأساليب الموضوعية و الاسقاطية في تقويم الذكاء والشخصية " بما كان من أستاذي مصطفى زيور والذي كان يرى أن الباحث اسم جنس ، وأن الأستاذ المشرف يظل مُقَوِماً وموجهاً حتى في خضم المناقشة ، والتي جرت أعراف ممجوجة اليوم على أن يتخذ المشرف من نفسه سنداً لأخطاء تلميذه ، ويا له من تحول ! يشي في وجه منه بما آل إليه الحال ، يومها وكنت في مطلع الشباب مسكونٌ بالحماس لما اعتنقه غير مدركٍ " أن الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية " , فبقدر ما إن المخاطب حالٌ في المتكلمِ ، وكيف أن إدراك العالم إنما هو و في كل مناحيه إدراكٌ خيالي يدعونا لأن نبحث عن الغائب في إدراكنا ، فالإدراك بما هو إسقاط إنما هو إدراك لصورة موضوع ، وكان لزاماً في حينها وقد نصَّبتُ نفسي – ولي بعض حق – مدافعاً عن التحليل النفسي ،مهاجماً وبضراوة ، ومن نصوص أصحابها تيارات أخرى من علوم النفس (وأنا أقول علوم نفس وليس علم نفس وتلك قضية ليس السبيل لتناول أبعادها هنا )، وعندها وختاما لمناقشة كانت من عضوي لجنة المناقشة العلامة عبد العزيز القوصي صاحب التنظير غير المسبوق في أطروحته للدكتوراه بلندن عام 1934 ، والذي كان ثناؤه جميلاً يطوق عنقي ، وأستاذ أساتذة الإكلينيكية الانتقائية العلامة صلاح مخيمر هذا العالم النهر الذي شرفني بتقديم كتاب له وأنا لمَّا أزلْ في مدارج الابن والمريد ، وفي حينها آثرني هو الآخر بما يتجاوز المنح وهو الضنين بالثناء ، لكنها وقائع الأمس ، وعندها كان التقويم الذي تعلمت منه واحداً من جواهر دروس العلم عندما دلني أستاذي والمشرف على أطروحة الماجستير والتي كانت أول أطروحة في العالم العربي لا في مصر فحسب عن السيكودراما والفصام وكان عنوانها ذو الموضوعات الثلاث " الفصام : بحث في العلاقة بالموضوع كما تظهر في السيكودراما . وكان التحليل النفسي هو المنهج الذي آثرته وأفردت له فصلاً كاملاً باعتباره هو المنهج الأمثل (إِنْ كانَهُ ) وهو المنهج الذي فسرت نتائجي أيضاً في ضوئه وهذا بذاته ما جعل العلامة مصطفى زيور يدلني على عثرتي إذ برهنت على منهجي بمنهجي قائلاً لي : " لقد وقعت في الدَوَرِ يا سيد حسين ، وهل تعرف الدور الذي تكلم عنه ابن سينا في كتابه البرهان ؟" ، ولِتَوي ، ولأني شغوفٌ مثل الزميل – الابن خالد عبد الغني بكل ما لا أعرف ، طموحاً مثله لما يتخطى المجهلة ما أمكننا ، فقد حصلت بعدها على هذا السِّفر العربي الذي يُتَحَسر معه على غروب دورنا ، الذي يلزمنا بتناول تراثنا بالتقويم لا التسليم ، بقدر ما يجب أن يكون دافعاً لنا على تخطي الممكن والمتاح بلوغاً للأمثل، وهو ما يذكرنا به عزيزنا الزميل – الابن خالد عبد الغني في عديد من صفحات سفره بين أيدينا ، بقدر ما تشي به عديد مقالاته وأبحاثه في غيره .
وإليك قارئي العزيز ما كان مقصد ابن سينا كما أبانه في كتابه إذ يقول:" إن المبرهن بالدور يكون في الحقيقة مصادراً على المطلوب الأول .. – فإنه إنما يبين الشيء بما يتوقف بيانه على الشيء نفسه ، فيكون إنما يبين الشيء ببيان الشيء بنفسه وهذا محال ...."(ابن سينا :البرهان من كتاب الشفاء ، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي ، دار النهضة العربية ، القاهرة ،1966).
هذه واحدة أما الثانية فتختص بأمور ثلاثة في مبنىً واحدٍ ، إذ اتصلتْ بإشارة واجبة لبيار مارتي والعلامة سامي علي والإسقاط ، ومارتي كان مساعدا للعلامة زيور عندما كان رئيسا لعيادة جامعة باريس عند عودته لفرنسا عام 1945 ، وهو من دفعه ليصبح من أعلام الأمراض النفس - جسمية فقد كانت بحوث العلامة زيور في فرنسا في حينها بواكير في هذا الميدان البكر وقد حث تلميذه ومساعده لخوضِ لُجَجِهِ وما أكثر ما يدين به مارتي بالفضل لأستاذه زيور، وفيه أبعاد شخصية ليس المجال لذكرها ، وأما العلامة سامي علي هذا الطير المهاجر على كُرْهٍ منه والذي أصبحت مدرسته في الأمراض النفس – جسمية مناراً لا في فرنسا وحدها بل في العديد من بلدان أوربا ، وللأسف لمَّا نزلْ نجهل دوره وما يلزمنا افتخارنا به لننهل من فيوضه ، فقد كانت أطروحته لدكتوراه الدولة في فرنسا عام 1958 مع العلامة دانيل لاجاش عن الإسقاط (Sami Ali e La Projection,PU,1970 ) وفي فصلها الأول أنموذجاً فريداً في الموقف النقدي ودور العالم في تناول مادة بحثه ، فقد أشار في الفصل الأول منها إلى " مفهوم الإسقاط عند فرويد ، وتناوله في حقبتين ، أولهما من عام 1894 – 1913 ( أي من مقال فرويد عن عصاب الحصر 1894 – وذلك في ضوء النظرية الأولى للحصر عندما كان لمَّا يزل عصاباً فعلياً ، وهي اليوم بكلها لم تَعُدْ غير مرحلة في تاريخ نظرية التحليل النفسي – وذلك إلى أن يصل لكتاب فرويد عن " التوتم والتابو " 1913 ( وهو ما أشار إليه في اقتضاب الزميل – الابن خالد عبد الغني ) وأما المرحلة الثانية فتبدأ من 1915 ( الغرائز ومصائرها ) وحتى 1927 ( مستقبل وهم ) ، والفصل بذاته وما به من تقويم ورؤى وبصيرة تتخطى المألوف وتقدم بذاتها درساً في القواعد الرصينة لتناول ظاهرة علمية ، مما أدعو معه لأهمية تناول هذا الفصل الفريد وغير المسبوق من قبل ومن بعد في التراث السيكولوجي وليت المقام يتسع لعرض ما قدمه العلامة سامي علي لنرى كيف يتواصل الخلف بالسلف ؟ ، وكيف نهدر قمم العلم من أولئك الذين يفتحون أسفارهم لسماء أخرى ولعلمهم كل الثناء ..... وعلى ذكر الثناء أحسب أن المستدعيات تقودُني لثناءٍ واجبٍ ، لِمَنْ وهَبَنَا بشارةَ رؤاهُ في هذا السِفْرِ، وهو غيضُ من فيضٍ ، فما أكثرَ ما قدمَ العزيزُ خالد عبد الغني ، عِلماً أرادَ أنْ يوهِمَنَا قَبْلَهُ أنَّ ظِلَّهُ مأسورٌ لشموسِ أساتذتهِ، وإذْ به بذاتهِ شمسٌ تشرقُ برؤىً غيرِ مسبوقةٍ، يفيضُ معها بروحهِ الشفيفِ ، وحَدْسِهِ الرهيفِ إذ يُزيلُ غيمَ الفهمِ وتجاعيدَ من أخطاءٍ ، ويقدم جديداً يُحتذى ليظلَ شارةَ إمارةٍ لرعيلٍ متفردٍ من أبناءَ يوشحونَ عطاءهمْ بالصبر والأناة، ويَمُدُونَ حِوَارهمْ بجدائل علم تُحلقُ في رؤىً أخرى ...و... وعلى لسان الصمت أَكُفُ .. ففي الصمت لغة ، وفي باحةِ القلبِ متسعٌ للمعنى لكني أحسبُ أن القارئ العزيز سيشاركني إحساساً بغدٍ واعدٍ لهذا العالم الشاب الصاعد لمناراتِ علمٍ مشبوبةٍ بالعطاءِ ، وبداخلهِ شاعرٌ وأديبٌ يتناغمُ في قلبهِ وعقلهِ الصفاءُ .و.وفي محاريب العلم أقول .. سيكون لنا آيات من لقاء .. وبقي أن ننتقل لصفحات سفره الرواء .. وسلاماً ..سلاماً وتحيةً من الصبح إلى الصبح ..
بقلم أ. د. حسين عبد القادر - عليه رحمة الله في الخالدين -
أستاذ التحليل النفسي
ورئيس الجمعية المصرية للتحليل النفسي
كل علم منها حجاب نفسه وحجاب غيره "
(النفري – موقف الكشف)
في يوم زمهريري ما كان له أن يبدد دفء سويعات كانت يومها بعض نذرٍ للوفاء لمن كان له عليَّ فضل النشأة العلمية والتكوين " العلامة خالد الذكر مصطفى زيور " كان اللقاء مع الزميل والابن الدكتور خالد محمد عبد الغني ، فيومها ومنذ ما ينيف عن عقد من الزمان كان اللقاء ....
شابٌ طُلْعَةٌ يقبلُ في نهاية لقاء بمعرض الكتاب المصري السنوي بأرض المعارض حيث كنتُ والعلامة فرج طه نتحدث عن أستاذنا "المصطفى " (مصطفى زيور) ، وما أن انتهينا من الشجن المتجدد إلا والبرودة تسري من جديد بالأجسام، لكنها لا تبدد الأفهام , وإذ بهذا الشاب يندفعُ لتحيتي مناديا اسمي بزميل عزيز كان مقدراً أن يتحدث معنا ، لكن حالت دون حضوره ما حرمنا من متعةِ حديثهِ ، ولم يشأْ منظموا اللقاء أن يغيروا اللافتة المعلنة عن اسمه ، وهنا كانت المفارقة : مديحٌ يتداعىَ به خاطرُ ابنٍ مسكونٍ بالشعرِ والأدبِ ( وخالد سيكون له بعد ذلك قصائدَ منشورةٍ ، ومذاعةٍ ، وقلمِ أديبٍ إذ يكتبُ عِلماً ) ، لكن المفاجأةَ تولدتْ من المفارقةِ ، إذ ناداني باسمِ الزميل الأعز ، وكان في البسماتِ ما يبدلُ حَرَجَهُ ، لتتآصر المشاعر ، وتتأجج علاقةٌ أحسبُها تحملُ – في البدءِ على الأقل - ملمحاً لنبضٍ طرحيٍ Transference ، والطرحُ لمن يعرفُ التحليلَ النفسيَ ، ليس بعداً فحسبْ بين المحلل ومريضهِ باعتبارهِ جوهرَ كلِ علاجٍ سواء أقره المعالج وعياً بهِ ، أم غابَ عنهُ دورهُ ، فهو وجودٌ بالقوةِ - بأيٍ من شِقَيْهِ الموجب (حباً) أو السالب (كرهاً) في كل علاقة إنسانية - .
وتتعدد اللقاءات مع طالبِ علمٍ نابهٍ من أولئك القلة من عطشى المعرفة، كان قد تخرج من قسم علم النفس بكلية الآداب ببنها وهي في حينها فرع من جامعة الزقازيق (1992) ، وقد دفعه طموحه ليتحمل معاناة الانتقال من " بَلَقْس الأشراف " كما يسميها المقريزي في السلوك ، ليحصل على السنة التمهيدية للماجستير من قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس (سبتمبر 1995)، وأغلب الظن – وليس كل الظن إثم – أن ما عوق مسيرته عدة سنوات وهو الذي يشرق وجهه مع جهده بالطموح ، إنما قيامه بأداء فريضة وطنه ، إذ أدى الخدمة العسكرية الوطنية عام 1992/1993, ومن بعدها انطلقت خطاه حتى لم تُقْطَعْ سُبُلَها في طرق العلم ، وهو الشغوف دوماً بمزيدٍ يبددُ وحشةَ المجهلةِ ، ولم يكنْ غريبٌ والحال هذه أن يحصل على درجة دبلوم الخدمة النفسية ( شعبة علم النفس الإكلينيكي ) بتقدير جيد جداً ( دور يونيو 1996 ) من ذات القسم الذي أهله للحصول على درجة الماجستير ، لكنه يعود لرحاب جامعته ، ففي ديناميات شخصيته كما تزيدها الوقائع صدقاً ، ووفاءً ، وإيثاراً ، والتزاماً ، وحفظاً لأيادي من بثهُ لبنات علم ، وهو الملازم – كما أظن – لأستاذه عادل كمال خضر ، الذي أحسبه تولاه بالري ، بقدر ما آثره بعد ذلك في أبحاث علمية مشتركة ، سنرى شعاعاً منها بين طيات هذا السِفْر بين يدي القارئ ، ولم يكن غريب أن يُتَوَجَ جهدهُ ، وهو الذي يختلج عقله وفكره بمددٍ لا ينضبُ من الرغبة في سبرِ غَوْرِ عطشهِ للعلمِ ومن ثم الكتاب والبحث والسعي للجديد ، ومن آيات الرغبة لمن يعرف اللاكانية ( التحليل النفسي في وجهه الفرنسي والذي أسس له العلامة جاك لاكان Lacan ، وأصبح اليوم علم أعلامه في العالم قاطبة العلامة المصري – الطير المهاجر تحت وطأة واقع منهار – مصطفى صفوان ) أنها دال الطلب بقدر ما هي سرابية ، إذ يَحُدُهَا النُقْصَانُ دوماً ، وما الغرابة في ذلك ، والنَهَمُ أبداَ لا يُشْبَعُ لطالب علم ، وكانَهُ الزميل – الابن خالد عبد الغني.
وفي الرابع عشر من ديسمبر عام 1998 توج خالد جهده ومثابرته بحصوله على درجة الماجستير بتقدير "ممتاز" وكان موضوع أطروحته " أنماط اضطرابات النوم لدى الراشدين والمسنين وعلاقتها ببعض المتغيرات النفسية (دراسة مقارنة بين الذكور والإناث )، وهنا تحيةٌ واجبةٌ – تفرض نفسها لواهبي الابن بشارة التكوين ، أستاذه والمشرف على أطروحته الزميل عادل كمال خضر ، والعلامة قدري حفني رئيس لجنة المناقشة ، فقد كان للأخير موقفاً مشهوراً لولاه لضاع – كما علمتُ – جهدٌ متميزٌ كان يستحق عليه ما هو أكثر وأكثر ، وتلك قصةٌ أخرى في النهرِ الراكدِ للظاهرةِ العلميةِ أعفي نفسي والقارئ من تفاصيلها وإن عَكَسَتْ بذاتها واحداً من عوامل التحجرِ في قلوبِ البعضِ والذي لا يخفى أثرهُ على واقعٍ تعليميٍ أحسبُهُ صار كتاباً مفتوحاً تعددت شكوانا منه دون فعلٍ يبدد الرديء ..
عكف الشغوف بالعلم ، والعقل النابض الذي لا يكف عن السعي في طرق الهجير من أجل الحصول على الدكتوراه , مدركاً عبارة النَفْرِي ( ذلك الصوفي الذي لم ير النور من أعماله غير " المواقف والمخاطبات " والذي حققه مستشرق هو آرثر يوحنا أولبري ، زميل كلية بمبروك في جامعة كامبرج سابقاً والمحاضر بالجامعة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي وقد ترجمه للإنجليزية في طبعته الأولى ، دار الكتب المصرية ، القاهرة،1934)، ومن أقوال النَفْرِي في هذا السفر: " معرفة ليس فيها جهل ، معرفة ليست فيها معرفة ".
لقد سجل الطالب أطروحته للدكتوراه في الموضوع الأثير لأستاذه كمال خضر ، وكأنه إذا يحقق رغبته ، فإنما كما يقول اللاكانيون : " الإنسان رغبة في رغبة آخر " ، وهو ما يشي بروحه الشفيف ليصبح حركة موصولة لا ينقطع سعيه عن التطواف في المدار الذي يتوشح بالتقدير والإعزاز ، وإن لم نغفل أن المواقف كاللغة في قمة فعاليتها عندما تريد أن تقول شيئاً فإنها تقول شيئاً مجاوراً أيضاً ، إن المدلول Signified يصل إلى هدفه عن طريق مدلول أخر ، تلك فحسب خطوة أولى يجب أن ندرك معها أنه بدون بنية من قبل الدال Signifier فإن تحويل الإحساس يصبح غير ممكنٍ ، إنه دور الدالِ في الاستعارة ، ولا غرابة وأستاذه قد تعهده بالري منذ البدء ، بقدر ما رأى فيه دفقةً ووهجةً تستطيع أن تتلاطم وموج الجديد ، الذي نستطيع تبيانه من عنوان أطروحة الدكتوراه " دراسة تطور رسوم الأطفال والمراهقين العاديين في اختبار رسم المنزل والشجرة والشخص ومقارنتها برسوم المرضى النفسيين والفئات الخاصة ". ويحصل الابن الذي آن الحين ليمضي على درب هو فيه مطالع الزميل بعد حصوله على درجة الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالتبادل مع الجامعات .
أخيراً ها هو يصل إلى مبتغاهُ ، ويحصل على بعض حقٍ كان يتمناهُ ،لكنه بلغ مرادهُ بالسعي الحثيث والتحصيل والمثابرة ، وقيمة العمل والجهد العلمي الموفور الذي تسري وَقْدَتُهُ في ديناميات شخصيته ، وهو الذي تشرنقَ في كوةِ العلمِ ليختلجَ عمله في نهاية المطاف لتتألقَ فَرَاشَتُهُ بجديد لا تستطيعه غير النفوسِ التي لا تكفُ عن طلبِ المزيدِ ، ولا تلوذُ بتأرجحاتِ الإيقاعِ المثقوبِ ، ونزيدُ فنقول إنه الإصرار على تتبع خطىَ الصعبِ والبحثِ عن النقيضِ الذي يؤصلُ لجدلِ العلمِ بلوغاً لِجُمَّاعٍ Synthesis سيَكُونُهُ لِيعبرَ بجهدهِ وعملهِ من الشطآنِ الموحشةِ إلى رحابةِ المعرفةِ ، مما يشي بعمق التكوين الذي نهلَ من أنهارٍ عدةٍ ما بين آداب بنها وآداب عين شمس، لكن قبلهما فالتكوينُ الحقُ إنما هو أرومةُ أسرةٍ وتنشئةٍ في سنواتِ تكوينٍ أولى كانت بذاتها دافعة للإبحار في المرقى الذي يهابه الكثيرون في الآثار اللاحقة، بلوغاً لأفاق قصية ، تعبر المدارات العصية ، إذ يشق بالجلد والمثابرة والإخلاص لمرساهُ ذلك الموج المتلاطم في بحور العلم ، وتقوى يده – ومن قبلها عقله وبصيرته – على السباحة من اجل قارات جديدة للعلم، وهو ما بلغ بعضاً من مراقيهِ وإن تواكب معه بعض من إجحافٍ – في ظني – تركتْ بعضَ الملحِ العالقِ بالحلقِ ، ويا لها من مستدعياتٍ تأخذُ القلبَ وهو الذي لا يُفْصِحُ، لكن الوقائع بذاتها تشير هي الأخرى لشذرة أخرى من مأساة المنظومة التعليمية ،إذ يُحْجَبُ الحقُ عن مستحقيهِ ، إذ يظلُ رهيناً بمكانهِ الذي عُيِّنَ بهِ عام 1995 ، كأخصائي نفسي بوزارة التربية والتعليم ، وإن لم يستسلم لجمرات اللامألوف فقد نهض بدوره ، وواصل سعيه ، ليجيء بعض خلاص عندما ينتقل للعمل بدولة قطر ، وما أكثرَ ما قدم هنا وهناك ، إذ تولى تدريب الأخصائيين النفسيين بالمكاتب الفنية بمديرية التربية والتعليم بالقليوبية ، وهو الذي حاضر بالمشروع القومي المصري الأول لصعوبات التعلم بإشراف جامعة عين شمس ووزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة ، كما أسهم في مشروع تأهيل شباب الخريجين للعمل في مجال الإعاقة بإشراف هيئة الإنتاج الحربي وجامعة عين شمس وهذا كله في مصره ، ورئاسة الفريق الإحصائي القائم بعمل إستراتيجية الأسرة في دولة قطر من عامي 2006/2007 بالمجلس الأعلى لشئون الأسرة بالدوحة ، لكنه معها كم أقام "ورش عمل " في مجال رسوم الأطفال تشخيصا وتحليلا لديناميات الشخصية؟ . بل وأقام دورات تحتذي في القياس النفسي وعلم النفس وذوي الاحتياجات الخاصة وهو الذي أصبح فيها من العلامات المضيئة في هذه الميادين ... مسيرةُ عملٍ في خدمة واقعه المصري العربي غير هياب بالنظر للوراء ، إذ تُقَدَسُ في رؤاه قيمة العمل ، والصحة النفسية كما يقول التحليل النفسي " هي القدرة على الحب والعمل " والتي يتضاءل معهما كل قول ، إذ يرتل الزميل / الابن ، بالحرف المعنى الموصول فيوضاً من جهده فيومضُ عِلْمُهُ بالقَصيِ ، إذ تتعدد أبحاثُهُ العلميةِ والتي نَيَّفَتْ في سنواتٍ لم تتعدَّ أصابع اليد الواحدة (2003- 2007) على أحد عشر بحثاً تعددت اتجاهاتها وميادينها مما يشي بموسوعيةٍ في هذه السن الباكرةِ ، فيما بين الضغوط النفسية والاحتياجات والضغوط وأساليب مواجهتها في مجالات شتى إلى القلق والوحدة النفسية والاختبارات الاسقاطية ليتجاوز ذلك كله إلى الكامنِ والمتجددِ من رغبتهِ حيث الأدب والشعر دارساً (من قبيل جنون الاضطهاد والعظمة في رواية أديب لطه حسين : رؤية إكلينيكية- تحليلية ، ومحللاً وناقداً من قبيل دراسته عن الشعر بديلاً عن السيرة الذاتية في ديوان أناشيد مبللة بالحزن لعيسى الشيخ حسن ) ويا لها من ميادين تعددت معها مناهج البحث ......
وهنا لنا وقفة إذ آنَ أَنْ نيمِمَ شَطَرَ هذا السفر بين يدي القارئ إذ عليَّ أن أحاول ركضَ مسافاتِ الكلامِ و إنْ كنتُ أعرفُ أن العبارة قد تَخُونُنِي رغم أنَّ الأنا يسكن في الكلم ، لكن كيف له أن يّعْبُرَ التخوم والكتاب بين يدي القارئ ؟ ، ولكل قراءتِه ، ذلك أنَّ لذةَ النصِ تجعلُ من كلِ قارئٍ – في ظني – كاتباً جديداً وناقداً مرهفاً ، مما يعفيني من تقويمٍ قد يفقد القارئ لذته قبل رأيه ، ورأيه الذي يختلج برؤاه دون إطار مرجعي ، لكني أيضاً أود أن أضيءَ بعضَ معالم طريق .
لقد آثر الزميل - الابن ، النبيل أن يُذَكِر في مطلع مبحثه الأول بهذا السفر عن " التكامل بين الأساليب الموضوعية و الاسقاطية في تقويم الذكاء والشخصية " بما كان من أستاذي مصطفى زيور والذي كان يرى أن الباحث اسم جنس ، وأن الأستاذ المشرف يظل مُقَوِماً وموجهاً حتى في خضم المناقشة ، والتي جرت أعراف ممجوجة اليوم على أن يتخذ المشرف من نفسه سنداً لأخطاء تلميذه ، ويا له من تحول ! يشي في وجه منه بما آل إليه الحال ، يومها وكنت في مطلع الشباب مسكونٌ بالحماس لما اعتنقه غير مدركٍ " أن الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية " , فبقدر ما إن المخاطب حالٌ في المتكلمِ ، وكيف أن إدراك العالم إنما هو و في كل مناحيه إدراكٌ خيالي يدعونا لأن نبحث عن الغائب في إدراكنا ، فالإدراك بما هو إسقاط إنما هو إدراك لصورة موضوع ، وكان لزاماً في حينها وقد نصَّبتُ نفسي – ولي بعض حق – مدافعاً عن التحليل النفسي ،مهاجماً وبضراوة ، ومن نصوص أصحابها تيارات أخرى من علوم النفس (وأنا أقول علوم نفس وليس علم نفس وتلك قضية ليس السبيل لتناول أبعادها هنا )، وعندها وختاما لمناقشة كانت من عضوي لجنة المناقشة العلامة عبد العزيز القوصي صاحب التنظير غير المسبوق في أطروحته للدكتوراه بلندن عام 1934 ، والذي كان ثناؤه جميلاً يطوق عنقي ، وأستاذ أساتذة الإكلينيكية الانتقائية العلامة صلاح مخيمر هذا العالم النهر الذي شرفني بتقديم كتاب له وأنا لمَّا أزلْ في مدارج الابن والمريد ، وفي حينها آثرني هو الآخر بما يتجاوز المنح وهو الضنين بالثناء ، لكنها وقائع الأمس ، وعندها كان التقويم الذي تعلمت منه واحداً من جواهر دروس العلم عندما دلني أستاذي والمشرف على أطروحة الماجستير والتي كانت أول أطروحة في العالم العربي لا في مصر فحسب عن السيكودراما والفصام وكان عنوانها ذو الموضوعات الثلاث " الفصام : بحث في العلاقة بالموضوع كما تظهر في السيكودراما . وكان التحليل النفسي هو المنهج الذي آثرته وأفردت له فصلاً كاملاً باعتباره هو المنهج الأمثل (إِنْ كانَهُ ) وهو المنهج الذي فسرت نتائجي أيضاً في ضوئه وهذا بذاته ما جعل العلامة مصطفى زيور يدلني على عثرتي إذ برهنت على منهجي بمنهجي قائلاً لي : " لقد وقعت في الدَوَرِ يا سيد حسين ، وهل تعرف الدور الذي تكلم عنه ابن سينا في كتابه البرهان ؟" ، ولِتَوي ، ولأني شغوفٌ مثل الزميل – الابن خالد عبد الغني بكل ما لا أعرف ، طموحاً مثله لما يتخطى المجهلة ما أمكننا ، فقد حصلت بعدها على هذا السِّفر العربي الذي يُتَحَسر معه على غروب دورنا ، الذي يلزمنا بتناول تراثنا بالتقويم لا التسليم ، بقدر ما يجب أن يكون دافعاً لنا على تخطي الممكن والمتاح بلوغاً للأمثل، وهو ما يذكرنا به عزيزنا الزميل – الابن خالد عبد الغني في عديد من صفحات سفره بين أيدينا ، بقدر ما تشي به عديد مقالاته وأبحاثه في غيره .
وإليك قارئي العزيز ما كان مقصد ابن سينا كما أبانه في كتابه إذ يقول:" إن المبرهن بالدور يكون في الحقيقة مصادراً على المطلوب الأول .. – فإنه إنما يبين الشيء بما يتوقف بيانه على الشيء نفسه ، فيكون إنما يبين الشيء ببيان الشيء بنفسه وهذا محال ...."(ابن سينا :البرهان من كتاب الشفاء ، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي ، دار النهضة العربية ، القاهرة ،1966).
هذه واحدة أما الثانية فتختص بأمور ثلاثة في مبنىً واحدٍ ، إذ اتصلتْ بإشارة واجبة لبيار مارتي والعلامة سامي علي والإسقاط ، ومارتي كان مساعدا للعلامة زيور عندما كان رئيسا لعيادة جامعة باريس عند عودته لفرنسا عام 1945 ، وهو من دفعه ليصبح من أعلام الأمراض النفس - جسمية فقد كانت بحوث العلامة زيور في فرنسا في حينها بواكير في هذا الميدان البكر وقد حث تلميذه ومساعده لخوضِ لُجَجِهِ وما أكثر ما يدين به مارتي بالفضل لأستاذه زيور، وفيه أبعاد شخصية ليس المجال لذكرها ، وأما العلامة سامي علي هذا الطير المهاجر على كُرْهٍ منه والذي أصبحت مدرسته في الأمراض النفس – جسمية مناراً لا في فرنسا وحدها بل في العديد من بلدان أوربا ، وللأسف لمَّا نزلْ نجهل دوره وما يلزمنا افتخارنا به لننهل من فيوضه ، فقد كانت أطروحته لدكتوراه الدولة في فرنسا عام 1958 مع العلامة دانيل لاجاش عن الإسقاط (Sami Ali
بقلم أ. د. حسين عبد القادر - عليه رحمة الله في الخالدين -
أستاذ التحليل النفسي
ورئيس الجمعية المصرية للتحليل النفسي