د. مصعب قاسم عزاوي - كيف يعمل الوعي البشري؟

يعتقد معظم البشر بأن الوعي ثنائي متقاطب أي إما أنك واع أو غير واعٍ. لكن الحقيقة هي أنه يمكنك أن تكون في أي حالة من حالات الوعي المتعددة، من النعاس وأنت واعٍ بذلك إلى التركيز الكامل على أفكارك الداخلية في النسق التفكير التحليلي العميق. في الدماغ، هناك تدفقات متعددة من التفكير التي تحدث في أي وقت، ولكن بطريقة ما يجمع الدماغ هذه التدفقات معاً، ويعمل على دمجها وربطها في تجربة شاملة، هي خلاصة وعيك في تلك اللحظة.

الوعي ودماغنا

نحن نختبر وعينا كتجربة أحادية الاتجاه، وغالباً ما نفكر في الأمر من منظور الأسود والأبيض، سواء أكان قيد التشغيل أم لا، أو مستيقظاً أم نائماً. لكن الحقيقة هي أننا يمكن أن نكون واعين على مستويات مختلفة كما لو أن الوعي سلسلة متصلة على شكل طيف من الحالات المتعددة وليست حالة منفصلة.

ونعلم هذا لأنه يمكننا التلاعب بالوعي بالأدوية ذات التأثير النفسي وأدوية التخدير. وقد لا نعرف بشكل واضح كيف يعمل الوعي من منظور عمل الدماغ عصبياً، لكن يمكننا تغيير مستوى الوعي بطرق محددة إلى حد ما، إذ يمكننا، على سبيل المثال، حقن عقاقير في أدمغتنا تؤدي إلى زيادة استقطاب الخلايا العصبية، وتغيير إمكاناتها الكهربائية بطريقة يصعب فيها عليها الإطلاق الاستجابة للتحفيز. تحفز العديد من هذه الأدوية نشاطاً كهربائياً يشبه ما نراه أثناء النوم بدون حركة العين السريعة، لذلك قد نقول أن هذا الدواء المخدر تسبب في حالة أقل وعياً أو حتى في فقدان للوعي.

ولكن كيف نعرف أن الشخص الذي تم حقنه بالدواء التخديري هو بالفعل فاقد للوعي؟ عندما تم إدخال أدوية التخدير لأول مرة، منذ أكثر من قرن ونصف، تم تعريف اللاوعي بشكل سلوكي محض مفاده إذا كان المريض لا يستجيب للتواصل معه، فإنه يكون فاقداً للوعي. لكننا نعلم الآن أن الشخص يمكن أن يكون مشلولاً تماماً وغير قادر على الاستجابة ولكنه يظل واعياً، وتسمى متلازمة المنحبس.

عدم التجاوب لا يكفي لإثبات فقدان الوعي. هناك حالات موثقة لمرضى استجابوا للأوامر أثناء الجراحة لكنهم استيقظوا دون أن يتذكروا أنهم كانوا واعين.

هناك منطقة معينة في الدماغ تشبه المفتاح الذي عندما يكون نشطاً، نكون واعين، وعندما يتم تعطيله، لا نكون كذلك، ويقع ذلك المفتاح في المهاد، الذي يوجد في منتصف الدماغ، وتنتقل من خلاله جميع المعلومات الحسية (باستثناء الشم)، ويتصل بالعديد من مناطق الدماغ الأخرى، بما في ذلك مراكز الذاكرة والفصوص الأمامية للقشرة الدماغية.

يمكن أن يؤدي تلف هذا الجزء من الدماغ إلى دخول المريض في حالة إنباتية التي يصبح فيها الإنسان غير واعٍ ويعيش وظيفياً كالنباتات يقوم بوظائف البقاء على قيد الحياة الأساسية دون أن يكون واعياً بذلك. يحدث التعافي من هذه الحالة عند استعادة الروابط بين المهاد وأجزاء من القشرة الأمامية.

وعلى الرغم من أن المهاد قد يلعب دوراً مركزياً في التوسط في الحالات الواعية، إلا أن هناك مناطق أخرى، أسفل جذع الدماغ، مهمة أيضاً وربما أكثر حيوية لتحفيز يقظة القشرة الدماغية، والتي تدعى أيضاً الإثارة القشرية.

نظريات الوعي

هناك مجموعة متزايدة من الأدلة التي تشير إلى أن الوعي والإثارة القشرية ليسا نفس الشيء، وأن الوظائف التكاملية للمناطق المركزية في الدماغ مثل المهاد ضرورية للوعي.

في الواقع، في إحدى النظريات الرئيسية للوعي، يلعب تكامل المعلومات دوراً رئيسياً. وبشكل مستوحى من العمل على مرضى التخدير، اقترح عالم الأعصاب جوليو تونوني أن نفكر في الوعي على أنه يحتوي على صفتين رئيسيتين: الأولى أنه يحتوي على معلومات حول تجربة (ترى سيارة حمراء)، والثانية هذه التجربة متكاملة (لا يمكنك ألا ترى السيارة سيارة، ولكن لونها أحمر في نفس الوقت). يقترح تونوني أن هذا التكامل هو جزء أساسي من الوعي؛ إنه جزء من التجربة الذاتية.

من خلال هذا النوع من التعريف، يجب إذن أن يكون للدماغ روابط وظيفية بين مناطق الدماغ الرئيسية ليكون واعياً. في الواقع، عندما نرى كهربائية تنشيط الدماغ في شخص يبدو وكأنه سلسلة من الجزر المعزولة بدلاً من شبكة متصلة، ففي تلك الحالة الوظيفية الكهربائية فلقد تم تعطيل الوعي.

والسؤال الضاغط في هذا السياق هل وعينا متكامل حقاً؟ هل يمكن أن يكون لدينا وعي متعدد؟ يعتقد بعض علماء الأعصاب أنه يمكننا ذلك، ويشيرون إلى المرضى الذين يعانون من شخصيات متعددة كدليل قاطع.

ربما تقترح النظرية الفلسفية الأكثر إقناعاً للوعي أنه لا يوجد كيان واعٍ واحد في أذهاننا، بل تيار لا نهاية له من المسودات، ووفقاً لهذا الرأي، فإن الشبكات والمسارات المختلفة داخل الجسم والدماغ توفر باستمرار تدفقات من المعلومات المتزامنة، ولكن المتمايزة عن بعضها فيما يتعلق بعلاقتنا بالعالم الخارجي وفهمنا واستيعابنا له.

كل من هذه التدفقات يشبه مسودة منفصلة للواقع. والوعي ليس منطقة واحدة موثوقة في الدماغ تستند على كل هذه المسودات معاً في تجربة وحدوية وموثوقة «وحقيقية». بدلاً من ذلك، الوعي هو بالضبط المسودات المتعددة نفسها أي حاصل جمع كل تلك التدفقات المنفصلة من المعلومات التي تحدث في نفس الوقت.

نموذج المسودات المتعددة هذا هو من بنات أفكار الفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت، ووفقاً لهذا النموذج، عندما لا نفكر فعلياً في وعينا، لا نعرف ما إذا كنا واعين وبأي الطرق.

يجادل دينيت أنه عندما نسأل أنفسنا ما إذا كنا واعين أم لا، فإن عقولنا تبني تياراً من الوعي يمنحنا فرصة تلمس وعينا، وأنه يتم إنشاء وهم الوعي الموحد. وبمجرد أن نفكر في شيء آخر، تتلاشى تجربة وجود الذات الموحدة في الخلفية، ويمكن لدماغنا حينئذ العودة إلى الوظيفة المهمة المتمثلة في خوض تجربة الحياة.

تلف الدماغ

لا يستطيع الأشخاص المصابون بفقدان الذاكرة العميق خلق وهم الذات المتماسكة والمستمرة لأنه ليس لديهم ذكريات يمكنهم الاستفادة منها. لكن هل نسميهم فاقدين للوعي؟ ماذا عن المرضى الذين لا عطب في ذاكرتهم، ولكن انتباههم مشتت؟

ربما يكون وعينا مجرد فكرة عصبية لاحقة، كما يقترح العديد من علماء الأعصاب. ربما يكون مجرد مسودة واحدة تنشئها عقولنا، وتتجاهلها حين تتم كتابة مجموعة أخرى من المسودات تلية لتلك المسودة أو بالتوازي معها. عندما تنحرف العمليات الإدراكية ذات المستوى الأدنى كما في حالة وجود مرض ما في أعيننا أو كوننا لا نسمع جيداً، فحينئذ نلاحظ العمليات الإدراكية الأولية، ونصبح مدركين لنقص المعلومات الحسية التي نستقيها من العالم الخارجي.

ولكن هناك نمط من الانفصال المتناقض بين ما يمكن أن نشهده بالفعل وما ندرك أننا نختبره موجود في المرضى الذين يعانون من العمى القشري في فص دماغي واحد، وهي حالة يكون فيها المريض مصاباً بآفة في القشرة البصرية في فص واحد من القشرة الدماغية القذالية، وبالتالي لا يمكنه إدراك جزء واحد من مجاله البصري هو نصف مجاله البصري، ولأن العطب التشريحي ليس في شبكية العين، لذلك يمتلك الدماغ إمكانية الوصول إلى المدخلات الحسية الأولية، لكن المعالجة البصرية تتعطل لاحقاً في التدفق بين الإحساس والإدراك.

هناك أيضاً حالات موثقة من فقدان السمع وفقدان حاسة الشم والتخدير الحسي، حيث يبلغ المرضى عن عدم وجود تجربة واعية لحاسة معينة، ولكنهم يتصرفون كما لو أنهم يستطيعون السمع أو الشم أو الشعور بالرضا.

يبدو هؤلاء المرضى كمرشحين مثاليين لحل مشكلة الوعي، لأن لديهم الرؤية، أو السمع، أو الشم، أو اللمس بدون الكيفيات المحسوسة المصاحبة أو التجربة الذاتية للوعي. يشير هذا إلى أن التجربة الذاتية حقيقية (لأنه يمكننا ملاحظة عدم وجودها) وأن لها أساساً عصبياً (أيا كان الجزء التالف من الدماغ عند المرضى).

لكن المرضى الذين يعانون من هذه الحالات لا يزال لديهم تجارب واعية أخرى. لا يزالون يشعرون وكأنهم واعين، بينما قدرتهم على إدراك العالم من خلال إحساسهم المتضرر ليس قريبة من «الطبيعي»، وفي أنشطتهم اليومية هم ليسوا عمياناً تماماً من حيث تجربتهم الواعية للرؤية إذ يمكنهم أحياناً أن يروا بوعي أشياء متحركة بشكل خاطف، على سبيل المثال، ولكن ليس الأشياء المتحركة بسرعة اعتيادية في الحياة اليومية.

يخبرنا بعض المرضى بعد السكتات الدماغية، على سبيل المثال، عن قدرتهم على رؤية أجسام تتحرك بسرعة، ولكن دون القدرة على رؤية الأشياء التي تتحرك ببطء. ماذا يخبرنا الضرر لديهم عن التجربة الواعية للرؤية؟ هل الأشياء السريعة والبطيئة يتم التعرف عليها بوعي في أجزاء مختلفة من الدماغ؟ ماذا يحدث عندما نقارن هؤلاء المرضى بالمرضى الذين لا يستطيعون رؤية الحركة على الإطلاق؟

ما زلنا نعود إلى مشكلة إيجاد ارتباط عصبي للتجربة الذاتية. نحن نعلم أن الرؤية نمطية أي أننا نعالج جوانب مختلفة من العالم المرئي في مناطق دماغية مختلفة، لكن تجربتنا متماسكة ومتكاملة ولا نراها على شكل أجزاء. هل يعني ذلك أن الأساس العصبي للوعي قد يكون نمطياً أيضاً، لكنه لا يزال يعطينا وهم التماسك؟ لمرة أخرى، يبدو أن نموذج المسودات المتعددة لدينيت هو الأنسب لتفسير البيانات البحثية التي بين يدينا بصدد نظام عمل الوعي البشري.

بالنسبة للعديد من الأشخاص، على الرغم من أن نظرية المسودات المتعددة تمثل مدخلا ملائماً لحلحلة معضلة الوعي البشري، إلا أنها لا تزال غير قادرة على الإلمام بكل جونب تجاربنا اليومية، ولا يبدو أنها تضم في طياتها مجمل ما يشعر به كثير من الناس أنه الجوهر والقوة الحقيقية للوعي متمثلاً في ربط تجاربنا معاً في ذات واحدة.

تجارب الاقتراب من الموت والخروج من الجسد

غالباً ما يتم الترحيب بتجارب الاقتراب من الموت كدليل على فكرة أن الوعي يختلف عن العمليات الفيزيائية للدماغ والجسم. تجربة الخروج من الجسد خلال العمليات الجراحية الحرجة التي يكاد فيها الإنسان يقرب الوفاة، والتي يشعر فيها الشخص كما لو أنه ترك جسده ويراقبه من وجهة نظر مختلفة، يمكن أن تكون مقنعة جداً للشخص الذي يمر بها بحيث لا يوجد شيء تقريباً يمكن أن يقنعه بأنها مجرد تلفيق من دماغه المادي.

يشير المشككون والمؤمنون على حد سواء إلى تجربة الاقتراب من الموت كدعم لفكرة أن هناك حياة بعد الموت، أو أن التجربة هي ببساطة نتاج اضطراب وظيفة الدماغ.

الشعور بأنك ميت لا يقتصر على تجارب الاقتراب من الموت. هناك وهم غريب يسمى متلازمة كوتارد حيث يعتقد المريض أنه قد مات. سيصر هؤلاء المرضى مراراً وتكراراً على أنهم أموات، وأنهم في الجنة أو المطهر، وسيخبرونك بطريقة موتهم. تتنوع أسباب متلازمة كوتارد من التيفوئيد، إلى التصلب اللويحي المتعدد مع حدوث تلف في القشرة الجدارية والقشرة الأمامية.

تسمى تجارب الخروج من الجسد أيضاً بالتنظير الذاتي لأن الوهم يتضمن الإحساس بأنك تطفو خارج جسمك وأنك تستطيع رؤية جسمك من الأعلى.

لا تقتصر تجارب الخروج من الجسد أيضاً على تجارب الاقتراب من الموت حيث يبلغ بعض الأشخاص عن حدوثها قبل النوم مباشرة، أو عندما يعانون من شلل النوم أي عندما يستيقظ عقلهم الواعي قبل أن تتاح الفرصة للجسم لتطهير الجهاز العصبي من النواقل العصبية التي تثبط نشاط العضلات أثناء النوم مع حركة العين السريعة.

في إحدى الدراسات، تم تحفيز تجارب الخروج من الجسم عن طريق تحفيز جزء معين من الدماغ يسمى الموصل الصدغي الجداري.

ويمكن أيضاً تحفيز تجربة يبدو للإنسان فيها كما لو أنه يتحرك في نفق بطرق تحفيزية أخرى للدماغ. يتفق معظم علماء الأعصاب على أن الرؤية النفقية يمكن أن تحدث عندما لا تتلقى العين ما يكفي من الأكسجين من مجرى الدم، وهي حالة تعرف باسم نقص الأكسجين. يعد نقص الأكسجين سمة مشتركة للعديد من المواقف التي تحدث فيها تجارب الاقتراب من الموت.

وعندما يتعلق الأمر بأنواع الأشخاص والمشاهد التي يواجهها المرضى في رحلاتهم حتى باب الموت، تصبح هناك علاقة قوية بين معتقداتهم الثقافية أو الدينية وما يتبدى لهم رؤيته.

يمكن أيضاً تحفيز الشعور بوجود شخص آخر عن طريق التحفيز الكهربائي لجزء من الدماغ يسمى التلفيف الزاوي، كما لوحظ في مرضى الصرع الذين يخضعون للعلاج الجراحي، إذ عندما يقوم الجراحون بتحفيز هذه المنطقة، يبلغ المريض عن شعور شخص آخر في الغرفة.

على الرغم من أننا لم نكتشف بعد نمط نشاط الدماغ الشائع في جميع تجارب الاقتراب من الموت، يمكن تفسير كل سمة منفصلة في سياق تلك التجارب من خلال التغيرات العصبية الفسيولوجية المرافقة لها والتي تمثل سبب حدوثها في المقام الأول على مستوى الجهاز العصبي والدماغ بالخاصة.

د. مصعب قاسم عزاوي


* تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...