توقيع كريستيانو رونالدو عقد الانضمام إلى نادي "النصر" السعودي حدث له رمزية كبيرة في تفكيك الصورة النمطية التقليدية وأكبر من بعده الرياضي.
هناك صورة نمطية عن الإنسان الخليجي المشرقي تكونت عبر السنين في مخيال الجزائري وظلت من قناعاته الاجتماعية والدينية والسياسية وعليها بنى كثيراً من مواقفه حيال المشرق الإسلامي بشكل عام.
نتساءل في هذه المقاربة عن كيفية تشكل هذه الصورة وما هي خصائصها وكيف أنها بدأت تتهاوى وتتفتت أمام صعود صورة جديدة بقيم مختلفة.
إلى عهد قريب، كانت صورة المشرقي والخليجي في عيون الجزائري البسيط تحكمها رؤية طوباوية، وهي صورة جوهرها ديني.
انطلاقاً من ذلك فالجزائري لا يمكنه فصل صورة المشرقي، وفي الأساس المواطن الخليجي عن البعد الديني الإسلامي أساساً.
وإلى عهد غير بعيد، لم يكن الجزائري يؤمن بوجود عرب مسيحيين، فكل عربي هو بالضرورة مسلم، وكل مسلم هو عربي، ولا تزال هذه الصورة قائمة في أذهان كثيرين حتى الآن.
ومصطلح "الشيخ" الذي يطلقه الجزائريون على "الأستاذ"، تسمية أول ما أطلقت على الأساتذة المشارقة الذين جاؤوا إلى الجزائر للتدريس بعد الاستقلال مباشرة مع حملة التعريب التي تبناها نظام الدولة الوطنية الجديدة، وهذه التسمية التي أطلقها الجزائري على المشرقي والتي لا تزال قائمة حتى الآن هي التي منحت المشرقي صورة "الشيخ"، أي صورة "الفقيه" حتى لو كان يدرس الرياضيات أو الفيزياء، ناهيك عن اللغة العربية والأدب العربي.
وصورة "الشيخ" التي أطلقت على الأستاذ المشرقي في الستينيات والسبعينيات هي التي رسخت ربط اللغة العربية بالدين.
فالجزائري بشكل عام يعتقد بأن اللغة العربية ركن من أركان الدين الإسلامي وأن لا إسلام من دون اللغة العربية.
فحين يفكر الجزائري في المشرق العربي وبلدان الخليج فهو يفكر أولاً في الأماكن المقدسة، يفكر في بلد الرسول محمد (ص). فجغرافيا الشرق العربي الإسلامي ليست أوطاناً بل هي أرض مفتوحة ومقدسة، هي أرض الله لا أرض البشر.
وكرس الحج والحاج هذه النظرة الدينية عن الشرق، فصورة الحج تختلف دلالتها عند الجزائري عما تحمله لدى المسلمين الآخرين الذين يؤدون هذا الركن.
ونظراً إلى تعامل الجزائري مع الشرق كبعد ديني كان الحجاج كلما هموا بالذهاب لأداء الفريضة يحملون معهم مخطوطات يهدونها للمكتبات والخزانات والمساجد في السعودية كبرهان على هذه الرؤية التقديسية.
وفي زمن كانت فيه وسائل النقل بدائية أو بسيطة كانت صورة الشرق الإسلامي صورة خرافية.
كلما كانت الأماكن المقدسة بعيدة يصعب الوصول إليها، إلا وتنتج في مخيال المؤمن الذي في الأطراف، صورة تحمل كثيراً من الأبعاد والدلالات الأسطورية والخرافية.
لقد جاءت التكنولوجيا المدهشة وتعددت وسائل التواصل وكثرت وسائل المواصلات الحديثة السريعة، وأصبح الشرق على بعد ساعات بعد أن كان على بعد أيام وأسابيع، ومعه اهتزت صورة الشرق وصورة المشرقي في عين الجزائري.
خرجت صورة الخليج من فضاء الرمال إلى فضاء العمران وأصبحت الجغرافيا التي كانت مفتوحة ومقدسة جغرافيا الأوطان والهويات والمشاريع الاقتصادية والمالية العابرة للقارات والمؤثرة في العالم بأسره.
وكلما تعدد العمران وتنوع وارتفع بجمال، وهو ما يحدث في السعودية والإمارات العربية وقطر، حيث أصبحت بعض المدن وكأنها لوحات فنية، تحررت معه صورة الخليج من بعدها المقدس الديني في ذهنية الجزائري.
إن النهضة الثقافية والفنية ومشاريع النشر والترجمة والسينما والمسرح التي تعرفها بلدان الخليج، حررت الجزائري من الصورة النمطية البدوية التي شكلها عن الخليج الذي دخل إلى مربع المدينية والتحضر.
شيئاً فشيئاً، تنهار الصورة التقليدية التي صنعها الجزائري عن الخليج، خرجت الصورة من المقدس ودخلت إلى الزمني والتاريخي، وخرجت من الرمل ودخلت إلى المدينة بمفهوميها الفني والاجتماعي.
إن ما تعرفه السعودية من تغييرات انقلابية عميقة على المستويين الثقافي والفني هو ما سيحرر الجزائري من أوهام صورته المقدسة الدينية التي لطالما صاغها عن الخليج.
إن ما يحدث في الخليج وفي الأساس بالسعودية من تغييرات حيال حرية المرأة والفن والسياحة وهي البلد الذي كان في فترة ما مكانا لدعاة متشددين دينيا، هذا الانقلاب الاجتماعي والفني والثقافي هو الذي سيدفع الجزائري إلى طرح أسئلة محرجة على نفسه وستحرره، إن عاجلاً أو آجلاً، من هذا التعصب والتشدد.
إن مهرجان الرياض السينمائي الدولي كممارسة ثقافية جريئة وجديدة على المنطقة، قلب كثيراً من ملامح الصورة النمطية التقليدية التي لطالما ارتبطت بالمواطن السعودي في ذهنية الجزائري والمغاربي بشكل عام.
كما أن عودة السعوديين والسعوديات إلى صالات العروض السينمائية الجديدة وبأعداد غفيرة وبشهية ثقافية، وغلقها في الجزائر وهجرانها بشكل يكاد يكون نهائياً، وكانت البلاد تمتلك صالات عرض يتجاوز عددها 600 قاعة في السبعينيات، تعرضت للتخريب والتحويل والغلق، هذا الواقع سيجعل الجزائري يعيد النظر في نفسه وفي غيره.
إن ارتياد صالات العرض السينمائية من قبل الرجال والنساء هي ظاهرة ثقافية اجتماعية تسمح بخلق نسيج جديد من العلاقات الإنسانية في المجتمع على قاعدة مشتركة هي حب قيم الجمال والاكتشاف المشترك للآخر، وإذا كان المجتمع السعودي يعود إليها فإننا في الجزائر للأسف تخلينا عنها، فهناك جيل أو جيلان ربما لم يدخل صالة عرض سينمائية مرة واحدة في حياته.
انفتاح الحياة في السعودية وبلدان الخليج على الثقافة والفنون المعاصرة من مسرح وموسيقى عربية كانت أو أجنبية، دفع ممارسي الثقافة والفن في الجزائر وشمال أفريقيا إلى مراجعة أحكامهم المسبقة عن هذه المنطقة الناهضة من العالم.
إن كرة القدم ليست لعبة منافسة فارغة لتسجيل الأهداف فقط، إنها ظاهرة ثقافية واجتماعية وازنة وفاعلة في تغيير العقليات وإعادة النظر في طبيعة العلاقة مع الآخر، وكان لحدث تنظيم قطر لدورة كأس العالم 2022 أثر فاعل في هز صورة الخليج عند الجزائري، فسلسلة الملاعب المدهشة التي خرجت من الرمال ومعاملة الخليجي للمرأة الأجنبية والأمن المنضبط، كل ذلك هز تلك الصورة التقليدية عند المواطن الجزائري العادي وحتى عند الأوروبي.
وتوقيع كريستيانو رونالدو عقد الانضمام إلى نادي "النصر" السعودي حدث له رمزية كبيرة في تفكيك الصورة النمطية التقليدية الدينية عن الخليج وأكبر من بعده الرياضي، فإذا كانت العادة رحلة اللاعبين النجوم إلى بلدان الشمال، فهجرة رونالدو الذي يتابعه الملايين إلى المشرق هز من دون شك صورة المقدس التي طبع بها الجزائري جغرافيا الخليج والسعودية في الأساس. فالدين لا يحد من الحياة ومن المتع الدنيوية، إن الدين جاء لسعادة الإنسان لا لعقابه.
كلما زاد العمران وتوسع التعليم وانتشرت الثقافة الإنسانية وانفتحت دول الخليج على العالم تحرر المواطن المشرقي أولاً من صورته الدينية النمطية وانتقل إلى صورته الدنيوية، ومعه يتحرر المواطن في الجزائر وشمال أفريقيا من أمراض التعصب والتشدد والسلفية وفكر الإخوان الذي كان هذا الشرق مصدره ذات يوم.
Amin Zaoui : Les pays du Golfe dans l’imaginaire Algérien : de l'image religieuse à l'image temporelle.
(المقال الأسبوعي في أندبندنت اللندنية، الخميس 5 يناير 2023
الرابط: https://www.independentarabia.com/.../%D8%A7%D9%84%D8%AC...)
ت
هناك صورة نمطية عن الإنسان الخليجي المشرقي تكونت عبر السنين في مخيال الجزائري وظلت من قناعاته الاجتماعية والدينية والسياسية وعليها بنى كثيراً من مواقفه حيال المشرق الإسلامي بشكل عام.
نتساءل في هذه المقاربة عن كيفية تشكل هذه الصورة وما هي خصائصها وكيف أنها بدأت تتهاوى وتتفتت أمام صعود صورة جديدة بقيم مختلفة.
إلى عهد قريب، كانت صورة المشرقي والخليجي في عيون الجزائري البسيط تحكمها رؤية طوباوية، وهي صورة جوهرها ديني.
انطلاقاً من ذلك فالجزائري لا يمكنه فصل صورة المشرقي، وفي الأساس المواطن الخليجي عن البعد الديني الإسلامي أساساً.
وإلى عهد غير بعيد، لم يكن الجزائري يؤمن بوجود عرب مسيحيين، فكل عربي هو بالضرورة مسلم، وكل مسلم هو عربي، ولا تزال هذه الصورة قائمة في أذهان كثيرين حتى الآن.
ومصطلح "الشيخ" الذي يطلقه الجزائريون على "الأستاذ"، تسمية أول ما أطلقت على الأساتذة المشارقة الذين جاؤوا إلى الجزائر للتدريس بعد الاستقلال مباشرة مع حملة التعريب التي تبناها نظام الدولة الوطنية الجديدة، وهذه التسمية التي أطلقها الجزائري على المشرقي والتي لا تزال قائمة حتى الآن هي التي منحت المشرقي صورة "الشيخ"، أي صورة "الفقيه" حتى لو كان يدرس الرياضيات أو الفيزياء، ناهيك عن اللغة العربية والأدب العربي.
وصورة "الشيخ" التي أطلقت على الأستاذ المشرقي في الستينيات والسبعينيات هي التي رسخت ربط اللغة العربية بالدين.
فالجزائري بشكل عام يعتقد بأن اللغة العربية ركن من أركان الدين الإسلامي وأن لا إسلام من دون اللغة العربية.
فحين يفكر الجزائري في المشرق العربي وبلدان الخليج فهو يفكر أولاً في الأماكن المقدسة، يفكر في بلد الرسول محمد (ص). فجغرافيا الشرق العربي الإسلامي ليست أوطاناً بل هي أرض مفتوحة ومقدسة، هي أرض الله لا أرض البشر.
وكرس الحج والحاج هذه النظرة الدينية عن الشرق، فصورة الحج تختلف دلالتها عند الجزائري عما تحمله لدى المسلمين الآخرين الذين يؤدون هذا الركن.
ونظراً إلى تعامل الجزائري مع الشرق كبعد ديني كان الحجاج كلما هموا بالذهاب لأداء الفريضة يحملون معهم مخطوطات يهدونها للمكتبات والخزانات والمساجد في السعودية كبرهان على هذه الرؤية التقديسية.
وفي زمن كانت فيه وسائل النقل بدائية أو بسيطة كانت صورة الشرق الإسلامي صورة خرافية.
كلما كانت الأماكن المقدسة بعيدة يصعب الوصول إليها، إلا وتنتج في مخيال المؤمن الذي في الأطراف، صورة تحمل كثيراً من الأبعاد والدلالات الأسطورية والخرافية.
لقد جاءت التكنولوجيا المدهشة وتعددت وسائل التواصل وكثرت وسائل المواصلات الحديثة السريعة، وأصبح الشرق على بعد ساعات بعد أن كان على بعد أيام وأسابيع، ومعه اهتزت صورة الشرق وصورة المشرقي في عين الجزائري.
خرجت صورة الخليج من فضاء الرمال إلى فضاء العمران وأصبحت الجغرافيا التي كانت مفتوحة ومقدسة جغرافيا الأوطان والهويات والمشاريع الاقتصادية والمالية العابرة للقارات والمؤثرة في العالم بأسره.
وكلما تعدد العمران وتنوع وارتفع بجمال، وهو ما يحدث في السعودية والإمارات العربية وقطر، حيث أصبحت بعض المدن وكأنها لوحات فنية، تحررت معه صورة الخليج من بعدها المقدس الديني في ذهنية الجزائري.
إن النهضة الثقافية والفنية ومشاريع النشر والترجمة والسينما والمسرح التي تعرفها بلدان الخليج، حررت الجزائري من الصورة النمطية البدوية التي شكلها عن الخليج الذي دخل إلى مربع المدينية والتحضر.
شيئاً فشيئاً، تنهار الصورة التقليدية التي صنعها الجزائري عن الخليج، خرجت الصورة من المقدس ودخلت إلى الزمني والتاريخي، وخرجت من الرمل ودخلت إلى المدينة بمفهوميها الفني والاجتماعي.
إن ما تعرفه السعودية من تغييرات انقلابية عميقة على المستويين الثقافي والفني هو ما سيحرر الجزائري من أوهام صورته المقدسة الدينية التي لطالما صاغها عن الخليج.
إن ما يحدث في الخليج وفي الأساس بالسعودية من تغييرات حيال حرية المرأة والفن والسياحة وهي البلد الذي كان في فترة ما مكانا لدعاة متشددين دينيا، هذا الانقلاب الاجتماعي والفني والثقافي هو الذي سيدفع الجزائري إلى طرح أسئلة محرجة على نفسه وستحرره، إن عاجلاً أو آجلاً، من هذا التعصب والتشدد.
إن مهرجان الرياض السينمائي الدولي كممارسة ثقافية جريئة وجديدة على المنطقة، قلب كثيراً من ملامح الصورة النمطية التقليدية التي لطالما ارتبطت بالمواطن السعودي في ذهنية الجزائري والمغاربي بشكل عام.
كما أن عودة السعوديين والسعوديات إلى صالات العروض السينمائية الجديدة وبأعداد غفيرة وبشهية ثقافية، وغلقها في الجزائر وهجرانها بشكل يكاد يكون نهائياً، وكانت البلاد تمتلك صالات عرض يتجاوز عددها 600 قاعة في السبعينيات، تعرضت للتخريب والتحويل والغلق، هذا الواقع سيجعل الجزائري يعيد النظر في نفسه وفي غيره.
إن ارتياد صالات العرض السينمائية من قبل الرجال والنساء هي ظاهرة ثقافية اجتماعية تسمح بخلق نسيج جديد من العلاقات الإنسانية في المجتمع على قاعدة مشتركة هي حب قيم الجمال والاكتشاف المشترك للآخر، وإذا كان المجتمع السعودي يعود إليها فإننا في الجزائر للأسف تخلينا عنها، فهناك جيل أو جيلان ربما لم يدخل صالة عرض سينمائية مرة واحدة في حياته.
انفتاح الحياة في السعودية وبلدان الخليج على الثقافة والفنون المعاصرة من مسرح وموسيقى عربية كانت أو أجنبية، دفع ممارسي الثقافة والفن في الجزائر وشمال أفريقيا إلى مراجعة أحكامهم المسبقة عن هذه المنطقة الناهضة من العالم.
إن كرة القدم ليست لعبة منافسة فارغة لتسجيل الأهداف فقط، إنها ظاهرة ثقافية واجتماعية وازنة وفاعلة في تغيير العقليات وإعادة النظر في طبيعة العلاقة مع الآخر، وكان لحدث تنظيم قطر لدورة كأس العالم 2022 أثر فاعل في هز صورة الخليج عند الجزائري، فسلسلة الملاعب المدهشة التي خرجت من الرمال ومعاملة الخليجي للمرأة الأجنبية والأمن المنضبط، كل ذلك هز تلك الصورة التقليدية عند المواطن الجزائري العادي وحتى عند الأوروبي.
وتوقيع كريستيانو رونالدو عقد الانضمام إلى نادي "النصر" السعودي حدث له رمزية كبيرة في تفكيك الصورة النمطية التقليدية الدينية عن الخليج وأكبر من بعده الرياضي، فإذا كانت العادة رحلة اللاعبين النجوم إلى بلدان الشمال، فهجرة رونالدو الذي يتابعه الملايين إلى المشرق هز من دون شك صورة المقدس التي طبع بها الجزائري جغرافيا الخليج والسعودية في الأساس. فالدين لا يحد من الحياة ومن المتع الدنيوية، إن الدين جاء لسعادة الإنسان لا لعقابه.
كلما زاد العمران وتوسع التعليم وانتشرت الثقافة الإنسانية وانفتحت دول الخليج على العالم تحرر المواطن المشرقي أولاً من صورته الدينية النمطية وانتقل إلى صورته الدنيوية، ومعه يتحرر المواطن في الجزائر وشمال أفريقيا من أمراض التعصب والتشدد والسلفية وفكر الإخوان الذي كان هذا الشرق مصدره ذات يوم.
Amin Zaoui : Les pays du Golfe dans l’imaginaire Algérien : de l'image religieuse à l'image temporelle.
(المقال الأسبوعي في أندبندنت اللندنية، الخميس 5 يناير 2023
الرابط: https://www.independentarabia.com/.../%D8%A7%D9%84%D8%AC...)
ت