الاتصال بين الأدب والقضاء كان ولا زال وثيقًا، فالدكتور هيكل الأديب كان مُحاميًا، وفكري أباظة الأديب الأريب كان محاميًا. والمحاماةُ قضاءٌ واقف.
وعبد العزيز فهمي باشا أول رئيس لمحكمة النقض وعبد الخالق ثروت باشا النائب العام كانا لا يُشَقُ لهما غُبار في الأدب القضائي، وتوفيق الحكيم ويَحيي حقي وقاسم أمين ومحمد فريد كانوا من رجال القانون.
ولغة المحاكم - من مرافعات وأحكام - جزءٌ من أدب كل أُمَّة، هذه اللغة ليس لها عن الأدب غِنى، وللأدب فيها كل الغَناء ليس لها عن الأدب غِنى، لأنها من دون الأدب تكون ضئيلة عليلة، مُملَّة. وللأدب فيها كل الغَناء، لأنه يجدُ فيها ساحةً رَحبةً خِصبة تلتقي فيها الحقيقة بالخيال، حكاياتٌ وروايات ومواقفَ وتصرفاتٍ لا حَدَّ لكثرتها ولا سَقف لتباينها، منها العظيم الفَخم ومنها الصغير الدقيق. فيها الباكي المُفجع وفيها الساخر المُضحك، وفيها من كوميديا الموقف ما قد لا يجود بمثله مؤلفٌ مَسرحيٌ مُتمرِّس، فالإنسانية كلها هناك، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنُبلها وضِعَتِها، بخيرها وشرِّها.
ينطق القاضي بحكم البراءة فتنفجر القاعة بالزغاريد والتهليل ورُبما البُكاء الحُلو للفرحة. وينطق في ذات اللحظة بالإدانة فتُزَلزَل القاعة بالصُّراخ والعويل وربما الضَّحِك الهيستيري المُر للصَّدمة، وكِلا الفريقان مُتجاوران، فترَى وُجوهًا نضِرة وأخرى ترهقها قتَرة، فيتنازع وجدان القاضي مشاعرَ مُتناقضة وتتبايَن أحاسيسُه لمواقفَ مُتباينة. ألا يجد القلم الواعي والعقل المتدبِّر في كل هذا مَنهلٌ عَذبٌ يغترف منه ليفيض من بعد بدُرَر القول وأصداف التصوير والإبداع؟ ألا يجد قُماشةً واسعة ألوانها زاهية ناصعة الشفافية، وأخرى قاتمة ألوانها داكنة ليَصنع من هذه وتلك أدب وأدب؟!
فالقلم الذي لا يَجد في مثل هذه الساحة الثَّريَّة كل صُنوف الأدب ولم يكتب، خيرٌ له أن يُكسَر!
ولستُ مُبالغًا إن قلتُ إنَّ لصَنعة القانون على هواية الأدب أثر. ولغة القانون لها على لغة الأدب أثر.
فأمَّا أثر صَنعة القانون على هواية الأدب، فإنَّ الأولى طغتَ على الثانيةِ طُغيانا مُبينًا. ولا يقدح في هذ أن الأديب يستطيع أحيانًا اختلاس بعض وقت القانون وتسخيره للأدب متى عنَّت له فكرة واستجاب من فوره لمَشاعره وسَجلها، فإذا ما توانَى ذهبت بغير رَجعة. وهنا يتجلى الطُغيان جليًا.
وأما أثر لغة القانون على لغة الأدب، فإن لغة القانون تجور جَورًا لا إراديًا على لغة الأدب، فالأولى لغة إيجاز والثانية لغة إسهاب. فتنعكس الأولى على الثانية ويظهر ذلك جليا في الكتابات الأدبية إذا ما قرأنا ما يكتُب القاضي الأديب أو إذا ما رجعنا إلى كتاباته قبل أن تتمكن منه صَنعة القانون. فإنه يُجبلُ مع مَرِّ السنين على الإيجاز في تحصيل الوقائع وصياغة الأحكام. بل إن من أُصول كتابة الأحكام أنْ يكتُب القاضي ثم يرجع إلى ما كتب ويَعمَد إلى حذف بعض الجُمَل فإذا لم يَختَل المعنى للحذفِ فهي زائدة. وهذا - أعتقدُ - أنه لا يُستَحب في الأدب.
وأما أثر لغة الأدب على كتابة الأحكام فلا يُنكر أحد انعكاسها عليه في تحصيل وقائع القضايا فإذا به دون أن يدري - أيضًا - يصوغها في قالبٍ أدبي وهذا مُستَحسًنٌ في الأحكام. ولِمَ لا ووقائع القضايا هي في الأصل قِصصًا بشخُوصِها وزمانها ومكانها ومسارح الأحداث. فضلاً عما يُحَققه الأدب للقاضس من أثر في كتابة مقدمات النطق بالأحكام في القضايا الهامة لتنبيه المجتمع إلى خطورة ما كان منها من عدوان عليه.
وعبد العزيز فهمي باشا أول رئيس لمحكمة النقض وعبد الخالق ثروت باشا النائب العام كانا لا يُشَقُ لهما غُبار في الأدب القضائي، وتوفيق الحكيم ويَحيي حقي وقاسم أمين ومحمد فريد كانوا من رجال القانون.
ولغة المحاكم - من مرافعات وأحكام - جزءٌ من أدب كل أُمَّة، هذه اللغة ليس لها عن الأدب غِنى، وللأدب فيها كل الغَناء ليس لها عن الأدب غِنى، لأنها من دون الأدب تكون ضئيلة عليلة، مُملَّة. وللأدب فيها كل الغَناء، لأنه يجدُ فيها ساحةً رَحبةً خِصبة تلتقي فيها الحقيقة بالخيال، حكاياتٌ وروايات ومواقفَ وتصرفاتٍ لا حَدَّ لكثرتها ولا سَقف لتباينها، منها العظيم الفَخم ومنها الصغير الدقيق. فيها الباكي المُفجع وفيها الساخر المُضحك، وفيها من كوميديا الموقف ما قد لا يجود بمثله مؤلفٌ مَسرحيٌ مُتمرِّس، فالإنسانية كلها هناك، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنُبلها وضِعَتِها، بخيرها وشرِّها.
ينطق القاضي بحكم البراءة فتنفجر القاعة بالزغاريد والتهليل ورُبما البُكاء الحُلو للفرحة. وينطق في ذات اللحظة بالإدانة فتُزَلزَل القاعة بالصُّراخ والعويل وربما الضَّحِك الهيستيري المُر للصَّدمة، وكِلا الفريقان مُتجاوران، فترَى وُجوهًا نضِرة وأخرى ترهقها قتَرة، فيتنازع وجدان القاضي مشاعرَ مُتناقضة وتتبايَن أحاسيسُه لمواقفَ مُتباينة. ألا يجد القلم الواعي والعقل المتدبِّر في كل هذا مَنهلٌ عَذبٌ يغترف منه ليفيض من بعد بدُرَر القول وأصداف التصوير والإبداع؟ ألا يجد قُماشةً واسعة ألوانها زاهية ناصعة الشفافية، وأخرى قاتمة ألوانها داكنة ليَصنع من هذه وتلك أدب وأدب؟!
فالقلم الذي لا يَجد في مثل هذه الساحة الثَّريَّة كل صُنوف الأدب ولم يكتب، خيرٌ له أن يُكسَر!
ولستُ مُبالغًا إن قلتُ إنَّ لصَنعة القانون على هواية الأدب أثر. ولغة القانون لها على لغة الأدب أثر.
فأمَّا أثر صَنعة القانون على هواية الأدب، فإنَّ الأولى طغتَ على الثانيةِ طُغيانا مُبينًا. ولا يقدح في هذ أن الأديب يستطيع أحيانًا اختلاس بعض وقت القانون وتسخيره للأدب متى عنَّت له فكرة واستجاب من فوره لمَشاعره وسَجلها، فإذا ما توانَى ذهبت بغير رَجعة. وهنا يتجلى الطُغيان جليًا.
وأما أثر لغة القانون على لغة الأدب، فإن لغة القانون تجور جَورًا لا إراديًا على لغة الأدب، فالأولى لغة إيجاز والثانية لغة إسهاب. فتنعكس الأولى على الثانية ويظهر ذلك جليا في الكتابات الأدبية إذا ما قرأنا ما يكتُب القاضي الأديب أو إذا ما رجعنا إلى كتاباته قبل أن تتمكن منه صَنعة القانون. فإنه يُجبلُ مع مَرِّ السنين على الإيجاز في تحصيل الوقائع وصياغة الأحكام. بل إن من أُصول كتابة الأحكام أنْ يكتُب القاضي ثم يرجع إلى ما كتب ويَعمَد إلى حذف بعض الجُمَل فإذا لم يَختَل المعنى للحذفِ فهي زائدة. وهذا - أعتقدُ - أنه لا يُستَحب في الأدب.
وأما أثر لغة الأدب على كتابة الأحكام فلا يُنكر أحد انعكاسها عليه في تحصيل وقائع القضايا فإذا به دون أن يدري - أيضًا - يصوغها في قالبٍ أدبي وهذا مُستَحسًنٌ في الأحكام. ولِمَ لا ووقائع القضايا هي في الأصل قِصصًا بشخُوصِها وزمانها ومكانها ومسارح الأحداث. فضلاً عما يُحَققه الأدب للقاضس من أثر في كتابة مقدمات النطق بالأحكام في القضايا الهامة لتنبيه المجتمع إلى خطورة ما كان منها من عدوان عليه.