إنكَّ لتَفزع إنْ رأيتَ جُرحًا عميقًا أو إصابة بالغة، فهل لكَ أن تَتخيَّل أجسادَ الناس وهي طريحة مِنضَدة التشريح، أسيرة المشارط والمطارق والمناشير؟ وهل يُمكنك احتمال رُؤية التقطيع والتفتيت والتكسير والتمزيق؟
كنتُ في بداية عهدي بالعَمَل، أذهبُ بخيالي إلى أبعد مَدى في تَصوُّر أجساد الناس وهي تَقبَعُ تحت المشارط في غرفة التشريح، وحين كنتُ أستمعُ إلى كبير الأطباء الشرعيين لدى تدريبنا بالمركز القومي للدراسات القضائية في منتصف الثمانينيات، أرسمُ من خلال أحاديثه صُورًا لما يَتم تقطيعه أو تكسيره أو تمزيقه من هذه الأجساد، وصُورًا أخرى لتلك الجُّثث لدى مناظرتها بمناسبة التحقيقات، كي أشْحذ النفس على مُعايشة هذا الواقع المفزع الغريب. ولكن في المشرحة، وأمام تلك الأجسادِ التي لم تَعُد سوى أدوات يُقاسُ بها الدليل، فقد كان الأمر جَدُّ خطير، بل يفوق كل تَخيُّل.
التفَفنا حولَ الجسد المُسَجَّى على المنضدة، يدخل الطبيب الشرعي، يجري مُساعده فيسبقه، يرفَع من على الأرض حقيبة نصف بالية إلى جوار الجسد، يُخرج منها أدواته، مقصات مَناشير، مطارق، مشارط، وزجاجات فارغة، إلخ. ثم يرتدي مُساعد الطبيب الشرعي قُفَّازه، ويضربُ المِبضَع في البطن فيبقُرها، فتخرُج الأمعاء من مَكمنها.
وهنا، اتَّسَعتْ العيون، ارتعَدت الفرائص، ارتجفَتْ القلوب وسقط مَغشيًا عليه من سَقَط، وجَرَى من استطاع أن يتماسَك ليَلوذَ خارج هذه الغرفة المفزعة، بينما تَسَمَّر باقي الحضور كل في مكانه وكأنَّ الطير فوق الرؤوس، ثم كسَتْ الوجوهُ غَبَرَة، وخَيَّم على المكان صَمتٌ رهيب، وكرهنا الدنيا في لحظات.
لم يعبأ الطبيب الشرعي بغير عمله، أوْمَأَ للمساعد مُشيرًا إلى البطن، فأمسَك الأخير بالمقص وقَصَّ من الأمعاءِ جزءًا عبأه في زجاجة، وما أن فرغَ منها حتى استكمل أعماله دون إيماءاتٍ جديدة، فكأنَّ الإيماءة الأولى بمثابة إشارة البدء بالعمل، ثم أتى بمنشارٍ قديم صدِئ من مَناشير الخشَب، وراح يَحزُّ بين التقاء الضلوع؛ فانشقَّ الصدرُ وظهَر القلب، فتفحَّصهُ الطبيب بمِبضَعِهِ ثم تَناول جزءًا من الرئتين فتَّتهُ وتحفَّظ عليه في زجاجة، ثم صعدَ إلى أعلى فَشقَّ الحلق، وفَحَصَ منه العَظْم اللَّاميِّ، ثم ذبَحَ الرأسَ من الخَلفِ فانقَشعَت إلى الأمام الفروة، وبالمنشار حَزَّ العظام طَبقة ثم طَبقة، حتى أتَى إلى أُخرى؛ فقابَله المخ فأعملَ فيه نظراته، وكان الطبيب الشرعي يُتابعه في كل خطوة من هذه الخطوات، ويُوجِّهه ثم يُدوِّن ملاحظاته.
وأخيرًا نَفَضَ المساعد يديه وانتحَى جانبًا، وكان قد كوَّم ما تبقَّى من الأعضاء إلى جوار صاحبها، ثم جمَعها وكأنها فضلات مائدةٍ وفى داخل البطن ألقاها، ثم شَدَّ عليها الخيط، لم يكن كخيط الجراحة، وإنما كخيط الخيْش والأجولة، وكان المِخْيَط كمِخيَط هذه الأشياء.
وهكذا رأيتُ أجسادَ البَشر وهي تُمتهَن بما جنَت أيدي البَشر أهذا هو الإنسان؟ أهذا هو الأسد الجَسور حين يَملكُ الزِّمام؟ أهذا هو المغرور حين يُؤتَى النِّعَم؟ أهذا هو الماكرُ الحاقدُ الحاسدُ حين يَشذُّ عن الأخلاق؟!
إنَّ الصورةَ لمُفزعة، والعِبرة أكبر من أن ُتستَوعَب، والعِظةُ أعظم مما تَصرخُ به، ويكون الناظِر أسير الصَّمت والفزَع، فيُسْلم كل حواسه لما يَرى، راغبًا أم غير راغب، مُتَّعظًا أم مَبهوتًا، وكُرهِ الدنيا ولو للحظات يَسُود.
وليس مَرَدُّ هذا الاستسلام جَفافَ القلوب أو مَوت الأحاسيس وإنما هو شيء آخرَ قد تَحارُ في تفسيره، ربما يكون نَوعًا من التَّبلُّد يَصِمُ المشاعر حين يَتمثَّل المرءُ حقيقةَ نفسه في مثل هذا الجسَد الذي باتَ يَتأفَّف منه كل مَن كان لا يحتملُ على صاحبهِ شوكةً يُشاكَّها، وربما يكون نوعًا من الفَزع أو فقدان الإحساس بالمكان والزمان في جوٍّ تَسودُه مثل هذه الرَّهبة والعِظة، فينتابُ المرء استشعار لحظِيٍّ بتفاهة الدنيا وضَعف البَشر، ومن ثم يَنظرُ ولا يَشعر، وفي النهاية لا بُدَّ أن يَتفكَّر.
وأمام مثل هذه الأحوال وغيرها، نَشعرُ بضآلتنا وبصِغَر أحجامنا، بل وبصِغَر عُقولنا، ونكرَهُ الشُرورَ والآثام؛ ثم تأخذنا الحياة، فنعود لننسَى ونتكبَّر، ونَطغَى ونَتجبَّر، ونضِلُّ ونظلِم ويكون الخطأ وتكون الخطيئة، إنها الدنيا وهكذا الإنسان"!
كنتُ في بداية عهدي بالعَمَل، أذهبُ بخيالي إلى أبعد مَدى في تَصوُّر أجساد الناس وهي تَقبَعُ تحت المشارط في غرفة التشريح، وحين كنتُ أستمعُ إلى كبير الأطباء الشرعيين لدى تدريبنا بالمركز القومي للدراسات القضائية في منتصف الثمانينيات، أرسمُ من خلال أحاديثه صُورًا لما يَتم تقطيعه أو تكسيره أو تمزيقه من هذه الأجساد، وصُورًا أخرى لتلك الجُّثث لدى مناظرتها بمناسبة التحقيقات، كي أشْحذ النفس على مُعايشة هذا الواقع المفزع الغريب. ولكن في المشرحة، وأمام تلك الأجسادِ التي لم تَعُد سوى أدوات يُقاسُ بها الدليل، فقد كان الأمر جَدُّ خطير، بل يفوق كل تَخيُّل.
التفَفنا حولَ الجسد المُسَجَّى على المنضدة، يدخل الطبيب الشرعي، يجري مُساعده فيسبقه، يرفَع من على الأرض حقيبة نصف بالية إلى جوار الجسد، يُخرج منها أدواته، مقصات مَناشير، مطارق، مشارط، وزجاجات فارغة، إلخ. ثم يرتدي مُساعد الطبيب الشرعي قُفَّازه، ويضربُ المِبضَع في البطن فيبقُرها، فتخرُج الأمعاء من مَكمنها.
وهنا، اتَّسَعتْ العيون، ارتعَدت الفرائص، ارتجفَتْ القلوب وسقط مَغشيًا عليه من سَقَط، وجَرَى من استطاع أن يتماسَك ليَلوذَ خارج هذه الغرفة المفزعة، بينما تَسَمَّر باقي الحضور كل في مكانه وكأنَّ الطير فوق الرؤوس، ثم كسَتْ الوجوهُ غَبَرَة، وخَيَّم على المكان صَمتٌ رهيب، وكرهنا الدنيا في لحظات.
لم يعبأ الطبيب الشرعي بغير عمله، أوْمَأَ للمساعد مُشيرًا إلى البطن، فأمسَك الأخير بالمقص وقَصَّ من الأمعاءِ جزءًا عبأه في زجاجة، وما أن فرغَ منها حتى استكمل أعماله دون إيماءاتٍ جديدة، فكأنَّ الإيماءة الأولى بمثابة إشارة البدء بالعمل، ثم أتى بمنشارٍ قديم صدِئ من مَناشير الخشَب، وراح يَحزُّ بين التقاء الضلوع؛ فانشقَّ الصدرُ وظهَر القلب، فتفحَّصهُ الطبيب بمِبضَعِهِ ثم تَناول جزءًا من الرئتين فتَّتهُ وتحفَّظ عليه في زجاجة، ثم صعدَ إلى أعلى فَشقَّ الحلق، وفَحَصَ منه العَظْم اللَّاميِّ، ثم ذبَحَ الرأسَ من الخَلفِ فانقَشعَت إلى الأمام الفروة، وبالمنشار حَزَّ العظام طَبقة ثم طَبقة، حتى أتَى إلى أُخرى؛ فقابَله المخ فأعملَ فيه نظراته، وكان الطبيب الشرعي يُتابعه في كل خطوة من هذه الخطوات، ويُوجِّهه ثم يُدوِّن ملاحظاته.
وأخيرًا نَفَضَ المساعد يديه وانتحَى جانبًا، وكان قد كوَّم ما تبقَّى من الأعضاء إلى جوار صاحبها، ثم جمَعها وكأنها فضلات مائدةٍ وفى داخل البطن ألقاها، ثم شَدَّ عليها الخيط، لم يكن كخيط الجراحة، وإنما كخيط الخيْش والأجولة، وكان المِخْيَط كمِخيَط هذه الأشياء.
وهكذا رأيتُ أجسادَ البَشر وهي تُمتهَن بما جنَت أيدي البَشر أهذا هو الإنسان؟ أهذا هو الأسد الجَسور حين يَملكُ الزِّمام؟ أهذا هو المغرور حين يُؤتَى النِّعَم؟ أهذا هو الماكرُ الحاقدُ الحاسدُ حين يَشذُّ عن الأخلاق؟!
إنَّ الصورةَ لمُفزعة، والعِبرة أكبر من أن ُتستَوعَب، والعِظةُ أعظم مما تَصرخُ به، ويكون الناظِر أسير الصَّمت والفزَع، فيُسْلم كل حواسه لما يَرى، راغبًا أم غير راغب، مُتَّعظًا أم مَبهوتًا، وكُرهِ الدنيا ولو للحظات يَسُود.
وليس مَرَدُّ هذا الاستسلام جَفافَ القلوب أو مَوت الأحاسيس وإنما هو شيء آخرَ قد تَحارُ في تفسيره، ربما يكون نَوعًا من التَّبلُّد يَصِمُ المشاعر حين يَتمثَّل المرءُ حقيقةَ نفسه في مثل هذا الجسَد الذي باتَ يَتأفَّف منه كل مَن كان لا يحتملُ على صاحبهِ شوكةً يُشاكَّها، وربما يكون نوعًا من الفَزع أو فقدان الإحساس بالمكان والزمان في جوٍّ تَسودُه مثل هذه الرَّهبة والعِظة، فينتابُ المرء استشعار لحظِيٍّ بتفاهة الدنيا وضَعف البَشر، ومن ثم يَنظرُ ولا يَشعر، وفي النهاية لا بُدَّ أن يَتفكَّر.
وأمام مثل هذه الأحوال وغيرها، نَشعرُ بضآلتنا وبصِغَر أحجامنا، بل وبصِغَر عُقولنا، ونكرَهُ الشُرورَ والآثام؛ ثم تأخذنا الحياة، فنعود لننسَى ونتكبَّر، ونَطغَى ونَتجبَّر، ونضِلُّ ونظلِم ويكون الخطأ وتكون الخطيئة، إنها الدنيا وهكذا الإنسان"!