أدب السجون حسن الأشرف - أين أصبحت ظاهرة "أدب السجن" في المغرب؟.. روائيون وشعراء عاشوا التجربة وكتبوا عنها بالعربية والفرنسية

هل تنسحب مقولة "أدب السجن" على ما يكتب داخل السجون أياً يكن نوعه أو طبيعته، أم أنها تشمل أيضاً ما يكتب عن تجربة السجن من أدب، حتى إن لم يدخل أصحابه السجون؟ ولئن تمكن بعض الأدباء العالميين الذين عاشوا تجربة الأسر من كتابة "أدب السجن" ببراعة وعمق، فإن بعض الأدباء تمكنوا بدورهم من الكتابة عن السجون بمهارة وصدق من دون أن يعيشوا التجربة شخصياً ومنهم على سبيل المثال الروائي المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون. فالكتابة أصلاً لا تتم إلا عبر استعادة التجربة سواء عبر المخيلة أو عبر الوجدان، عبر الذاكرة أو عبر الإبداع .وربما يستطيع الكاتب السجين أن يدون الملاحظات أو اليوميات في بعض الأحيان، وربما يمكنه أن يحفظ ما يقاسي ويشهد في ذاكرته، خصوصاً في الأحوال الأشد قسوة وهولاً. أما الكاتب الذي لم يدخل السجن، فيستطيع أن ينطلق من الوثائق والشهادات الحية، معتمداً لعبة التخييل ومتحايلاً على السرد نفسه ليخلق عالماً مطابقاً لعالم السجن وربما أشد واقعية وغرابة في الحين عينه.

غالباً ما يطرح عند إصدار رواية أو ديوان شعري أو سيرة ذاتية أو سيرة غيرية، تتحدث عن تجربة السجن والاعتقال، سؤال عن الحدود الفاصلة بين التخييل والتأريخ، فالتخييل يستلزم إضافة أحداث وسياقات لم تحصل في الواقع، بينما التأريخ يستوجب الدقة في نقل صور وآلام التجربة السجنية كما هي. ويطرح الدارسون والمتابعون سؤالاً رئيساً في شأن الكتابات المختلفة التي تتناول السجن كتيمة رئيسة، فهل الأديب صاحب التجربة ذكر الواقع كما عاشه هو بنفسه خلف أسوار السجن، أم أنه أضاف إليه "توابل" التخييل ليصير العمل مشوقاً وجاذباً أكثر للقراء؟
وكثيراً ما يتغاضى القارئ عن هذه الحدود الفاصلة بين التخييل والتأريخ عند قراءة الكتابات التي تدخل في تصنيف "أدب السجن"، خصوصاً عندما تصدر الكتابة عن شخص سواء كان كاتباً في الأصل، أو "صار كاتباً" بفعل تجربة السجن، أو كتب كاتب عن تجربته القاسية تلك.ويطرح سؤال آخر في هذا السياق هو، هل يتعين تصنيف كل كتابة تحكي عن السجن والمعاناة النفسية والاجتماعية التي تختبئ وراء الأسوار المعتمة للزنزانة، ضمن "أدب السجن" بالفعل، أو أنها "كتابات فكرية" في الأساس لما تطرحه من أفكار وإضاءات حول واقع السجون وحرية التعبير وبقية المواضيع ذات الصلة.
الاعتقال السياسي
يقول الشاعر والروائي المغربي صلاح الوديع الذي سبق له أن جرب "الاعتقال السياسي" وكتب روايته الشهيرة "العريس" عن حقبة زمنية "سوداء" من تاريخ المغرب، إن عدداً من البلدان شهدت خلال مراحل محددة من تاريخها فترات اتسمت بانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، يتم تصنيفها عادة بكونها "انتهاكات جسيمة"، إذ تكون ذات طابع منهجي وممتد في الزمن، تطبعها ظواهر متعددة منها الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام خارج نطاق القانون.
ويشرح الوديع في حوار مع "اندبندنت عربية" أن في الحالة المغربية، تمت معالجة هذه المرحلة التي امتدت من عام 1955 إلى 1999 من خلال إنشاء "هيئة للحقيقة والإنصاف" عام 2004، غير أن هذه المعالجة سبقتها أنشطة مدنية وسياسية شاركت فيها الحركة الحقوقية وحركة عائلات المعتقلين السياسيين والضحايا.
ويوضح صاحب "العريس" أن هؤلاء عملوا مبكراً على توثيق شهاداتهم ونشرها وترويجها بإمكاناتهم الخاصة من داخل السجون أو بعد استرداد حريتهم. وتشتمل هذه الكتابات على حوارات منشورة في الصحافة ابتداء من الثمانينيات وشهادات في شكل سردي ونصوص أدبية وسير ذاتية أو توثيق لرسائل متبادلة من السجن وإليه، أو روايات تخييلية تم عرضها لاحقاً في أشرطة سينمائية أو في شكل مسرحيات. ولفت الوديع إلى أن جميع هذه الأدبيات على اختلاف أنواعها وتداخلها نشرت بمعظمها داخل المغرب وعرفت رواجاً كبيراً بلغ أوجه خلال أعوام التسعينيات من القرن الماضي، خصوصاً مع تنامي "حركة الضحايا" قبيل (وغداة) وفاة الملك الراحل الحسن الثاني.
ويرى الوديع أن هذه الكتابات لعبت دوراً مهماً في رفع الوعي داخل المجتمع وكذلك على مختلف مستويات القرار وفي إنضاج مسار "هيئة الإنصاف والمصالحة". ويقول إن أولى الندوات الموضوعاتية التي نظمتها الهيئة تناولت أدب السجن الذي شكل مادة أسهمت في إقرار الحقيقة عن الانتهاكات. وخلص الوديع إلى أن "المسهمين في إبداع أدب السجن في المغرب كثيرون يصعب سرد أسمائهم جميعاً"، مضيفاً أن "بعض الكتابات في هذا المجال عرفت نجاحاً أدبياً وشعبياً ملحوظاً خلال الفترة المذكورة وحتى في ما بعد".
سمات "أدب السجن" المغربي
يقول الكاتب المغربي عبده حقي إن "أدب السجن" ليس أدباً حديثاً كما قد يعتقد بعضهم، بل هو أدب قديم جداً ويضيف "ظهر شعر السجون في الأدب العربي خلال العصر العباسي والعصر الأندلسي، أما في العصر الحديث، فهناك عدد من الكتاب المعاصرين العرب والغربيين الذين عاشوا تجربة الاعتقال المريرة ووثقوها في كتاباتهم".
وفي خصوص العالم العربي أفاد حقي بأن هناك تجارب أدبية أليمة أرخت بحبر المعاناة ليوميات الاعتقال السوداء، وأشهرها على سبيل المثال لا الحصر رواية "شرف" لصنع الله إبراهيم و"شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف و"تجربتي في سجن النساء" لنوال السعداوي. وبدورها لا تخلو المكتبة المغربية من الإبداعات الأدبية التي أرخت لتجارب أليمة في معتقلات حقبة زمنية معينة في المغرب عرفت بـ"سنوات الرصاص"، عندما كان الصراع محتدماً بين المعارضة والنظام الحاكم من قبيل معتقل "تازمامارت" الشهير وسجن درب مولاي الشريف.
هنا يسجل حقي ملاحظة أولى تتمثل في أن جل هذه الكتابات المغربية تعود لما سماه "عشرية" السبعينيات السوداء في المغرب التي شهدت عمليتين انقلابيتين ضد الملك الراحل الحسن الثاني وصراعاً محتدماً بين اليسار الراديكالي الاشتراكي والنظام المغربي. ويورد حقي ملاحظة ثانية تتمثل في كون جل هذه الكتابات صدرت بعد الانفتاح الديمقراطي الذي عرفته البلاد منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وكذلك ملاحظة ثالثة هي أن معظم هذه الكتابات صدرت باللغة الفرنسية وبعد ذلك تمت ترجمتها إلى العربية لكون مؤلفيها ذوي مرجعية فرنكوفونية مثل "رسائل السجن 1972-1980" للشاعر عبداللطيف اللعبي و"الغرفة السوداء" لجواد مديديش و"الزنزانة رقم 10" لأحمد المرزوقي و"كابازال" لصالح حشاد و"تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون.
ونشرت أعمال أدبية أخرى باللغة العربية مثل "كان وأخواتها" لعبدالقادر الشاوي و"العريس" لصلاح الوديع و"رقصة الرأس والوردة" لعبدالله زريقة و"صهيل الخيل الجريحة" لمحمد الأشعري و"أفول الليل" للطاهر المحفوظي و"حديث العتمة" لفاطنة البيه.
وخلص صاحب الكتاب الرقمي "أديب ذو سجون" في ملاحظته الرابعة إلى أن "معظم هذه الكتابات تتوزع بين الشعر والسيرة الذاتية والمذكرات الشخصية"، لافتاً في هذا الصدد إلى أن "هناك نصوصاً أدبية شعرية وقصصية يتيمة صدرت في بعض الجرائد والمجلات المغربية والعربية".
امتدادات "أدب السجن"
وغالباً ما يرتبط "أدب السجن" بنوع من الانفتاح السياسي والاجتماعي، ذلك أن الكتابة عن تجربة السجن وما تتضمنه من آلام ومآسٍ، لن تكون متاحة في مناخ لا يسمح بهذا الصنف من الكتابات، سواء كانت توثيقية وتأريخية أو ممزوجة بما هو تخييلي.
الأديب مصطفى لغتيري يرى في هذا السياق أن لـ"أدب السجن" امتدادين، الأول في الأدب باعتبار النصوص التي كتبت تنتمي إلى الأدب الذي له خصائصه التعبيرية التي تميزه عن غيره من الفنون، وقد اختارت هذه النصوص في غالبيتها جنس الرواية لتجعل منه حاضناً لتجاربها الحياتية الصعبة. أما الامتداد الثاني، فهو متعلق بالمجتمع نظراً إلى أن أدب السجن بالنسبة إلى أحد مستويات التأويل هو نوع من "الكتارسيس" (التطهير) في المفهوم الأرسطي، بمعنى أن هذا الأدب شكل لبعض أصحاب كتابات السجن نوعاً من العلاج والمصالحة مع الذات. وقد يمكن اعتباره وعداً بعدم تكرار هذه المآسي التي تحط من كرامة الفرد والمجتمع والدولة على السواء.
واعتبر لغتيري في حوار مع "اندبندنت عربية" أن بعض كتاب هذا النوع من الأدب "لم يعيشوا التجربة السجنية بأنفسهم، بل استلهموها فقط ممن كابدوا هذه المرارة في حياتهم". ويشير إلى روايته "أحلام النوارس" التي قارب فيها تجربة سجين سياسي، تخلى عنه الجميع بعد خروجه من السجن، حتى أولئك الذين ناضل واعتقل من أجلهم، مما جعل الحرية التي حظي بها بعد فترة السجن لا معنى لها، بل أضحت سجناً مضاعفاً ومرارة قاسية.
وشدد على أن هذه النصوص في أدب السجون تظل متفاوتة في إبداعيتها، فمنها ما لم يتجاوز منطق الشهادة وتصوير ما عاشه خلف أسوار السجن، ومنها كتابات مست بالفعل عمق الإبداع في تعبيريته وإنسانيته.

__________________
اندبندنت عربية 18 يناير 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...