لقد كثرت في هذه الأيام الأقاويل وتباينت الآراء في البغاء ومنعه من البلاد، وأقصاء البغايا الأجنبيات عنه عملا بقانون يسن لهذا الغرض. فمن مؤيدين لهذا القانون، ومن معارضين له، ولكل فريق فيما يدعيه حججه وبراهينه. فالذاهبون إلى تحريم البغاء مدنيا يقولون انه آفة الاجتماع ومصدر الفاحشة ومجلبة البوائق، وانه لحائل الكبير دون الزواج وتكوين الأسر، وانه العقبة القائمة في وجه كثرة المواليد إلى غير ذلك من الأدلة.
والقائلون مدنياً بإباحته يؤيدون دعواهم بأنه السور الذي يصون الكثير من شرف المحصنات، والحاجز الذي يخفف - أن لم يقف - الأعداء على شرف العذارى وأعراض الأسر. أما أنا فلست أريد بهذا المقال أن أؤيد رأيا أو أخالف آخر، ولكنني إجابة لطلب بعض الإخوان من الأدباء رأيت أن انشر بإيجاز ما اعرفه من هذا القبيل وما قيل بهذا الشان في العصور الخالية وما كان للبغايا لدى مختلف الأمم من المنزلة والمقام.
كانت البغايا في العهد القديم من بواعث الحمية في الرجال. فكن ينبهن فيهم الحماس البدني والنشاط العقلي ويحملنهم على الدفاع والجهاد والتضحية، والتفاني في سبيل الوطن والعقيدة. ففي حرب شعواء شهرت على قورونتية قامت البغايا في اليونان يشجعن الرجال ليذودوا عن الحمى، فهب الرجال هبة واحدة وخرجوا بحشدهم زمرا وكتائب لمواجهة العدو مستبسلين مستميتين بفضل حض البغايا وأغرائهن. ولم تقف البغايا عند هذا بل قمن وجذذن شعورهن - وكان الشعر في ذلك العهد انفس حلى النساء واجمل أزيائهن - وقدمنها قربانا للزهرة آلهة الجمال كي تساعد الإغريقيين على أعدائهم وتهبهم الفوز والظفر، وبفضل ما أبدينه من ضروب التضحية والحض والتنشيط واستفزاز الهمم انتصر الإغريقيون انتصاراً عظيماً، وعزوا أهم أسباب فوزهم للبغايا، فاكبروا عملهن واعلوا قدرهن - ومثل هذا كان يجري أيضاً في كثير من البلاد الأخرى بحيث خصهن رجال تلك العصور الخالية بالمكان الأول في الاجتماع وقالوا أن التمدين لا يقوم إلا بهن ولا يزداد انتشارا إلى بمعاونتهن، وقد شبههن بعض الكتاب الأقدمين بأريج ذكى يعطر الجو ويولي مستنشقيه الاغتباط ويحرك فيهم الهمة والجرأة والإقدام.
وظل فيهن على هذا حتى ظهر الدين المسيحي فحرمت النصرانية البغاء تحريما مطلقا وجعلت من أهم أسس الكمال في الدين قهر الجسد وكبح الشهوات البدنية، ومنذ العهد الذي انتشرت فيه هذه تعاليم أخذ نجم البغايا في الأفول، وبدأ مجدهن في الزوال، فأرمت كنيسة المسيح بنبذهن من الاجتماع، فأقصين من المجالس، واضطهدن وحقرن، حتى غدون أحط من سقط المتاع وعند ما كانت الأوبئة كالطاعون والهواء الأصفر تتفشى في العالم أو تصيب الأمم نكبات ومجاعات كان الناس ينفون البغايا من البلاد ويرهقونهن بألوان العذاب ويذيقونهن شر الميتات ظنا منهم انهم بما يفعلون يلطفون غضب السماء.
ففي بعض البلاد كان الزواج محرما على البغايا، وفي بعضها كانت البغايا يعزلن في الحظائر شأن المواشي، وفي عهد البابا بولس الرابع أي في القرن السادس عشر كان الشبان الأشراف في إيطاليا يعدون التغاضي عن حرق منازل العهر عارا وفضيحة.
وفي مدينة تولوز في فرنسا كانت البغي التي تجرؤ على اجتياز عتبة أحد الأديرة تعد جانية فيقبض عليها وتلقى في السجن، ثم تساق للمحاكمة فيحكم عليها بأقسى عقوبة.
وفي مدينة بوكير من أعمال فرنسا أيضاً كان يفرض في كل عام على البغايا الجري عاريات في أحد الميادين إلى أن تنقطع أنفاسهن وتسكت دقات قلوبهن، وفي مدينة مانطو في إيطاليا كانوا يوجبون على البغي شراء ما تلمسه من الأشياء لدى مرورها في الأسواق بحجة إنها دنسته بلمسها ولوثته بيدها النجسة الذليلة وأفسدت تجارته على صاحبه. وفي هذه المدينة أيضاً كان يحتم على البغايا تعليق الجلاجل في أعناقهم عندما يطفن في المدينة أسوة بالمصابين بداء الجذام تنبيهاً للمارة كي يبتعدوا وتحذيرا لهم من العدوى.
هذا قليل من كثير مما كان يجري على البغايا في القرون الوسطى، ولكن عندما أخذ التمدين الحديث يتمشى في أنحاء العالم قل اضطهاد البغايا وأبيح لهن مخالطة الناس والظهور في المجتمعات والأندية والمجالس، بل عد البعض وجودهن من عوامل النهوض والارتقاء، وللبلوغ بالتمدين إلى أرقى درجات الكمال. السن هن اللواتي يبتدعن التأنق في المعيشة، ويطلقن الأزياء البديعة في العالم، ويروجن أسواق الحلي الغالية، والملابس الأنيقة، والمنسوجات الناعمة، والمطارف الثمنية، والمفروشات الفاخرة؟ أو لسن هن اللواتي يخرجن من خزائن الشيوخ الأشحاء ما اكتنزوه من تحف، وكدسوه من نفائس، وخبأوه من أموال، فيغدقنها على الأسواق وينتفع بها المجموع الإنساني.
هذه هي الكلمة التي توخيت نشرها في هذا الباب لعل فيها فائدة، ومنها يرى ان البت في تحريم البغاء أو إباحته يسلتزم كثيرا من التروي والتفكير لمعرفة أيهما افضل وأصلح للبلاد، ولا نخال حكومتنا وهي لم تزل مترددة في سن قانون التحريم إلا مواصلة الفحص والتمحيص حتى تهتدي إلى الأصوب والأنفع فتقره.
وبهذه المناسبة اذكر ما قاله ديموستين كبير خطباء أثينا، من ثلاثة وعشرين قرنا ونيفا - في النساء والبغايا وما يبتغيه الرجال منهن وهذا تعريبه:
(نحن الرجال، بحاجة إلى ضروب ثلاثة من النساء: المرأة الرشيدة المثقفة لنشغل بها العقل ونلهي بها النفس والمرأة البارعة في الجمال لنرضي بها الحواس ونسكن ثورات الجسد.
والمرأة الصالحة الحكيمة لتلد لنا البنين وتدبر لنا المنازل). وقد رأى أن وجود البغايا في البلاد ضروري لاستفزاز همم الرجال إبان الحروب لأن المحصنات قد يحجمن عن ذلك كيلا يعرضن أزواجهن وفلذات أكبادهن إلى الهلاك.
وقال أحد علماء الفرنسيين وكتابهم في البغاء وفي الدفاع عن البغايا ما معناه:
(ينحى الناس باللائمة على البغي التي تبيع جسدها وينبذونها ويصمونها بالعار، ويمطرونها وابلا من السب والثلب، على حين ان الكثيرين منهم يببعون عقولهم وأفكارهم وضمائرهم، فإذا كان العقل في حكم الناس افضل من الجسد وأسمى منه منزلة، فلماذا يحجم عن نبذ ممتهنيه ويغضي عن تعيير بائعيه، بينا ان بيعه اجلب للعار والثلب والاستنكاف من بيع الجسد.؟
ثم لماذا نرانا نجل من الرجال العظام والعلماء الأعلام من باعوا فكرهم وحريتهم وأباحوا عقولهم لقاء الدرهم. أليس هؤلاء ادعى للاحتقار والازدراء والنبذ من البغي التي تبيع جسدها وهو المادة الدنيئة الحقيرة الخاضعة للعقل ودونه قيمة ومقاماً.؟
اجل، ولكن بينا الناس يتخطبون في الخطأ والغواية ويعمهون في كثير من الضلال، وشر الضلال احتقار المرأة البائعة جسدها وإجلال الرجل الذي يسلم للعار عقله وفكره وضميره وحريته الوطنية والأدبية.
فلا مراء أن في هذا الكلام حقائق يحسن النظر فيها وتعاليم يجدر بالعاقلين والنابهين التسليم بصحتها والاستفادة منها - سدد الله خطواتنا وهدانا سواء السبيل.
حبيب المعوشي
المصدر:
مجلة الرسالة - العدد 57
بتاريخ: 06 - 08 - 1934
والقائلون مدنياً بإباحته يؤيدون دعواهم بأنه السور الذي يصون الكثير من شرف المحصنات، والحاجز الذي يخفف - أن لم يقف - الأعداء على شرف العذارى وأعراض الأسر. أما أنا فلست أريد بهذا المقال أن أؤيد رأيا أو أخالف آخر، ولكنني إجابة لطلب بعض الإخوان من الأدباء رأيت أن انشر بإيجاز ما اعرفه من هذا القبيل وما قيل بهذا الشان في العصور الخالية وما كان للبغايا لدى مختلف الأمم من المنزلة والمقام.
كانت البغايا في العهد القديم من بواعث الحمية في الرجال. فكن ينبهن فيهم الحماس البدني والنشاط العقلي ويحملنهم على الدفاع والجهاد والتضحية، والتفاني في سبيل الوطن والعقيدة. ففي حرب شعواء شهرت على قورونتية قامت البغايا في اليونان يشجعن الرجال ليذودوا عن الحمى، فهب الرجال هبة واحدة وخرجوا بحشدهم زمرا وكتائب لمواجهة العدو مستبسلين مستميتين بفضل حض البغايا وأغرائهن. ولم تقف البغايا عند هذا بل قمن وجذذن شعورهن - وكان الشعر في ذلك العهد انفس حلى النساء واجمل أزيائهن - وقدمنها قربانا للزهرة آلهة الجمال كي تساعد الإغريقيين على أعدائهم وتهبهم الفوز والظفر، وبفضل ما أبدينه من ضروب التضحية والحض والتنشيط واستفزاز الهمم انتصر الإغريقيون انتصاراً عظيماً، وعزوا أهم أسباب فوزهم للبغايا، فاكبروا عملهن واعلوا قدرهن - ومثل هذا كان يجري أيضاً في كثير من البلاد الأخرى بحيث خصهن رجال تلك العصور الخالية بالمكان الأول في الاجتماع وقالوا أن التمدين لا يقوم إلا بهن ولا يزداد انتشارا إلى بمعاونتهن، وقد شبههن بعض الكتاب الأقدمين بأريج ذكى يعطر الجو ويولي مستنشقيه الاغتباط ويحرك فيهم الهمة والجرأة والإقدام.
وظل فيهن على هذا حتى ظهر الدين المسيحي فحرمت النصرانية البغاء تحريما مطلقا وجعلت من أهم أسس الكمال في الدين قهر الجسد وكبح الشهوات البدنية، ومنذ العهد الذي انتشرت فيه هذه تعاليم أخذ نجم البغايا في الأفول، وبدأ مجدهن في الزوال، فأرمت كنيسة المسيح بنبذهن من الاجتماع، فأقصين من المجالس، واضطهدن وحقرن، حتى غدون أحط من سقط المتاع وعند ما كانت الأوبئة كالطاعون والهواء الأصفر تتفشى في العالم أو تصيب الأمم نكبات ومجاعات كان الناس ينفون البغايا من البلاد ويرهقونهن بألوان العذاب ويذيقونهن شر الميتات ظنا منهم انهم بما يفعلون يلطفون غضب السماء.
ففي بعض البلاد كان الزواج محرما على البغايا، وفي بعضها كانت البغايا يعزلن في الحظائر شأن المواشي، وفي عهد البابا بولس الرابع أي في القرن السادس عشر كان الشبان الأشراف في إيطاليا يعدون التغاضي عن حرق منازل العهر عارا وفضيحة.
وفي مدينة تولوز في فرنسا كانت البغي التي تجرؤ على اجتياز عتبة أحد الأديرة تعد جانية فيقبض عليها وتلقى في السجن، ثم تساق للمحاكمة فيحكم عليها بأقسى عقوبة.
وفي مدينة بوكير من أعمال فرنسا أيضاً كان يفرض في كل عام على البغايا الجري عاريات في أحد الميادين إلى أن تنقطع أنفاسهن وتسكت دقات قلوبهن، وفي مدينة مانطو في إيطاليا كانوا يوجبون على البغي شراء ما تلمسه من الأشياء لدى مرورها في الأسواق بحجة إنها دنسته بلمسها ولوثته بيدها النجسة الذليلة وأفسدت تجارته على صاحبه. وفي هذه المدينة أيضاً كان يحتم على البغايا تعليق الجلاجل في أعناقهم عندما يطفن في المدينة أسوة بالمصابين بداء الجذام تنبيهاً للمارة كي يبتعدوا وتحذيرا لهم من العدوى.
هذا قليل من كثير مما كان يجري على البغايا في القرون الوسطى، ولكن عندما أخذ التمدين الحديث يتمشى في أنحاء العالم قل اضطهاد البغايا وأبيح لهن مخالطة الناس والظهور في المجتمعات والأندية والمجالس، بل عد البعض وجودهن من عوامل النهوض والارتقاء، وللبلوغ بالتمدين إلى أرقى درجات الكمال. السن هن اللواتي يبتدعن التأنق في المعيشة، ويطلقن الأزياء البديعة في العالم، ويروجن أسواق الحلي الغالية، والملابس الأنيقة، والمنسوجات الناعمة، والمطارف الثمنية، والمفروشات الفاخرة؟ أو لسن هن اللواتي يخرجن من خزائن الشيوخ الأشحاء ما اكتنزوه من تحف، وكدسوه من نفائس، وخبأوه من أموال، فيغدقنها على الأسواق وينتفع بها المجموع الإنساني.
هذه هي الكلمة التي توخيت نشرها في هذا الباب لعل فيها فائدة، ومنها يرى ان البت في تحريم البغاء أو إباحته يسلتزم كثيرا من التروي والتفكير لمعرفة أيهما افضل وأصلح للبلاد، ولا نخال حكومتنا وهي لم تزل مترددة في سن قانون التحريم إلا مواصلة الفحص والتمحيص حتى تهتدي إلى الأصوب والأنفع فتقره.
وبهذه المناسبة اذكر ما قاله ديموستين كبير خطباء أثينا، من ثلاثة وعشرين قرنا ونيفا - في النساء والبغايا وما يبتغيه الرجال منهن وهذا تعريبه:
(نحن الرجال، بحاجة إلى ضروب ثلاثة من النساء: المرأة الرشيدة المثقفة لنشغل بها العقل ونلهي بها النفس والمرأة البارعة في الجمال لنرضي بها الحواس ونسكن ثورات الجسد.
والمرأة الصالحة الحكيمة لتلد لنا البنين وتدبر لنا المنازل). وقد رأى أن وجود البغايا في البلاد ضروري لاستفزاز همم الرجال إبان الحروب لأن المحصنات قد يحجمن عن ذلك كيلا يعرضن أزواجهن وفلذات أكبادهن إلى الهلاك.
وقال أحد علماء الفرنسيين وكتابهم في البغاء وفي الدفاع عن البغايا ما معناه:
(ينحى الناس باللائمة على البغي التي تبيع جسدها وينبذونها ويصمونها بالعار، ويمطرونها وابلا من السب والثلب، على حين ان الكثيرين منهم يببعون عقولهم وأفكارهم وضمائرهم، فإذا كان العقل في حكم الناس افضل من الجسد وأسمى منه منزلة، فلماذا يحجم عن نبذ ممتهنيه ويغضي عن تعيير بائعيه، بينا ان بيعه اجلب للعار والثلب والاستنكاف من بيع الجسد.؟
ثم لماذا نرانا نجل من الرجال العظام والعلماء الأعلام من باعوا فكرهم وحريتهم وأباحوا عقولهم لقاء الدرهم. أليس هؤلاء ادعى للاحتقار والازدراء والنبذ من البغي التي تبيع جسدها وهو المادة الدنيئة الحقيرة الخاضعة للعقل ودونه قيمة ومقاماً.؟
اجل، ولكن بينا الناس يتخطبون في الخطأ والغواية ويعمهون في كثير من الضلال، وشر الضلال احتقار المرأة البائعة جسدها وإجلال الرجل الذي يسلم للعار عقله وفكره وضميره وحريته الوطنية والأدبية.
فلا مراء أن في هذا الكلام حقائق يحسن النظر فيها وتعاليم يجدر بالعاقلين والنابهين التسليم بصحتها والاستفادة منها - سدد الله خطواتنا وهدانا سواء السبيل.
حبيب المعوشي
المصدر:
مجلة الرسالة - العدد 57
بتاريخ: 06 - 08 - 1934