فيليب بروطون - الحجاج في التواصل.. مقدمة(1) - ترجمة: د. محمد مشبال، د. عبدالواحد التهامي العلمي Philippe Breton, L'argumentation dans la communication

مقدمة المترجمين: (1)

لم تعد البلاغة محصورة في الأنواع الخطابية القديمة التي حددها أرسطو في الخطاب السياسي والخطاب القضائي والخطاب الاحتفالي، بل إنها ماثلة في كل الخطابات التي يتواصل بها الناس في أمور دنياهم العملية والثقافية؛ فالرجل عندما يحاول إغراء الفتاة الجميلة، والمراهقة عندما تحاول إقناع أبويها للسماح لها بالخروج في المساء، وصاحب المطعم عندما يغري زبناءه ويقنعهم بما يعرضه عليهم من وجبات، والأستاذ عندما يسعى إلى إقناع تلاميذه، والمثقف عندما يروم إقناعنا بصحة رؤاه..كل هؤلاء يستخدمون في تواصلهم الحجاج ويمارسون فن الإقناع؛ أي باختصار يتحولون إلى بلاغيين.
تعني البلاغة إذن التحكم في إمكانات اللغة لأجل التواصل مع الآخرين وإقناعهم بوجهة نظرك أو رأيك أو موقفك أو سلوكك أو أطروحتك. وفي جميع الأحوال تتحرك البلاغة في دائرة الرأي؛ إننا لا نحاجج الآخرين في الحقائق العلمية الصحيحة أو القابلة للبرهنة الحاسمة، لأن مدار الحجاج على الرأي المحتمل الذي لا يمتلك دقة الحقائق العلمية، بيد أنه من جهة أخرى لا يعرى عن القوة والفعالية في الحياة الاجتماعية اليومية. قد يعوزنا الاستدلال بالمعنى العلمي الصارم على صحة رأي ما؛ فنحن لا نستطيع أن نبرهن علميا على صحة القول بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو على صحة القول بحرية الإنسان في إبداء الرأي، أو على صحة القول بضرورة تطبيق الديموقراطية في البلدان المتخلفة، أو على صحة القول بضرورة احترام الآباء، وغيرها من الأقوال والآراء التي لا يمكن الغمز في قوتها أو سريانها في المجتمعات، على الرغم من أنها لا تخضع بالضرورة للاختبار العلمي. ولكن هل يستطيع العلم أن يحسم مشكلات الإنسان العملية والعقدية وأن يدلي بدلوه في شؤون حياة الناس الاجتماعية والإيديولوجية؟ هل يملك القبض على حقيقة الإنسان وجوهره؟
لقد أدرك الإنسان اليوم أن العلم لا يمكنه أن يحل مشكلاته العملية اليومية التي يواجهها في الحياة، كما ثبت لديه أن توصيل آرائه-التي لا يستطيع أن يحيا من دونها- يحتاج إلى وسيلة أكثر إنسانية تنأى به عن صرامة العلم وتجنبه أساليب الإكراه والتطويع وكل ما يشير إلى عنف الخطاب الذي لا يبتعد كثيرا عن العنف الجسدي. من هنا تنبثق أهمية البلاغة بوصفها الأداة الأكثر إنسانية في تواصل الأفراد داخل المجتمع وتواصل الشعوب داخل هذا العالم الذي يحتويهم.
لقد شكلت البلاغة والحجاج قطيعة مع التصور الديكارتي للعقل الذي ساد في الفلسفة الغربية لعقود من الزمن، وهو التصور الذي كان يرى أن العقلانية مفهوم مطابق للمناهج العلمية، وأن الأدلة المقبولة هي الأدلة التي تحظى بتقدير العلوم الطبيعية، أما الحجج المبنية على ما هو محتمل فإنها تجافي الحقيقة ولا ينبغي الاعتداد بها. إن البلاغة ونظرية الحجاج تقران بأن العقل بالمفهوم الديكارتي لا يتمتع بالكفاية في مجالات غير خاضعة للحساب مثل المجال الإنساني الذي يستمد فيه الحجاج قوته من تأثيره في المتلقي وليس من صرامته أو مطابقة محتواه للوقائع.
واضح أن المقصود بالبلاغة هنا ليس مفهومها المدرسي الذي استقر في الثقافة العربية الحديثة، وليس مفهومها الذي ساد أيضا في الثقافة الغربية منذ القرن السادس عشر واستمر حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ أعني مفهومها الذي اقترن بالكفاية الأسلوبية والقدرة على تنميق الكلام واستخدام أفانينه الساحرة، بل المقصود بالبلاغة نظرية في الخطابات التواصلية؛ سواء أكانت كلاما عاديا بين أفراد المجتمع أم خطابات سياسية ودينية وقضائية وحقوقية واجتماعية وأدبية . إنها البلاغة التي أسسها أرسطو في كتابه "فن الخطابة" واستمرت بعده مع شيشرون وكونتيليان وغيرهما، إلى أن حدث ما حدث من تعرضها للاختزال ثم إلى الاختفاء أو الأفول بعد ذلك لعدة أسباب يلخصها أوليفيي ريبول Olivier Reboul في عاملين؛ أحدهما، هيمنة النزعة الوضعية التي رفضت البلاغة باسم الحقيقة العلمية، وثانيهما، ظهور المذهب الرومانسي الذي رفضها باسم الصدق .
ولم تعرف البلاغة انبعاثا إلا في أواخر الأربعينات ونهاية الخمسينات من القرن العشرين، وتحديدا مع ظهور كتاب كورتيوس E.R.Curtius "الأدب الأوروبي والعصر الوسيط اللاتيني" (1948) الذي ترجم إلى الفرنسية سنة )1956(، وهو الكتاب الذي استخدم فيه صاحبه مفهوم "المواضع المشتركة" وهو أحد أبرز مفهومات الحجاج. وفي سنة (1958) ظهر كتابان سيكون لهما تأثير واسع على كل الدراسات البلاغية والحجاجية التي سيتوالى ظهورها في وقت لاحق وخاصة في التسعينات وحتى الآن؛ يتعلق الأمر بكتاب "مصنف الحجاج: البلاغة الجديدة" لحاييم بيرلمان C.Perelman ولوسي أولبرخت تيتيكا L.Olbrechts-Tyteca وكتاب "استخدامات الحجاج" لتولمين S.E.Toulmin. دون أن نغفل الدور الذي اضطلعت به التداوليات La pragmatique في تغذية الدراسات البلاغية الحجاجية؛ فقد أدى نمو هذا الحقل الذي قام على دراسة اللغة في السياق وربط اللغة بمستعمليها، إلى إحداث مفهومات استثمرتها الدراسات الحجاجية من قبيل مفهوم نظرية أفعال اللغة عند أوستين J.L.Austin (1962) وسورل J.R.Searle (1969) .
ومع ذلك لم تسمح فترة الستينات والسبعينات-على الأقل في فرنسا - بازدهار البلاغة ونظرية الحجاج، لأنها كانت فترة انتشار البنيوية التي لم تكن لتفسح المجال لظهور مفهومات البلاغة والحجاج من قبيل "مقصدية المؤلف" و"المتلقي" و"الموقف التواصلي" وغيرها من المفهومات التي تتعارض مع المبادئ التي نادت بها. وحتى عندما ظهر كتاب "البلاغة العامة" لجماعة مو( 1970 ) فإنه لم يكشف عن أية علاقة بالبلاغة كما عهدناها مع أرسطو؛ أي من حيث هي نظرية في الحجاج، بل كان مجرد إعادة صياغة على أسس لسانية بنيوية حديثة للمصنفات البلاغية الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي انشغلت بالوجوه الأسلوبية، على نحو ما صنع دومارسي Dumarsais في كتابه عن "المجازات" (1730) وفونطانيي Fontanier في كتابين ؛ أحدهما عن الصور المجازية (1821) والثاني عن الصور غير المجازية (1827).








Philippe Breton, L'argumentation dans la communication, Quatrième édition, La Découverte, Paris, 2006.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...