(٨)
فتح مصر:
يرى كينيدي أن مصر بالنسبة للعرب لم تكن مثل الشام والعراق، لأن الشام والعراق كان بها قبائل عربية كما أن حركة التجارة على مر العصور بين عرب شبه الجزيرة والشام والعراق كانت متصلة دائما، بينما تواصل العرب مع مصر كان شبه منعدم، وهذا هو عين الافتراء حتى وإن لم يكن بنفس قوة التواصل مع الشام والعراق، لأنه يجافي المنطق.
كانت مصر قبيل الفتح العربي واقعة تحت نير الحكم البيزنطي الذي استوقف مده حقبة الفرس الذين لم يبشروا بدينهم بين المصريين، ولكنهم فقط مدفوعين من قبل هرقل الذي كان يرغب في إخضاع الكنيسة المصرية للكنيسة البيزنطية في محاولة لفرض مذاهب الخلقدونية التي تعتبرها الكنيسة المصرية هرطقة (خلاف حول طبيعة المسيح)، وهذا الاختلاف العقائدي أحدث صدعا بين الطبقة الحاكمة العسكرية الناطقة باليونانية بالأسكندرية وجموع السكان من نصارى ووثنيين لما نالهم من بطش النخبة الحاكمة، كما واجه رجال الكنيسة اضطهادات وحشية منظمة من البيزنطيين نظرا لرغبتهم في الحفاظ على معتقدهم الذي يوقنون به.
وبلغ حنق المصريين من ظلم النخبة اليونانية الحاكمة حدا غير مسبوق، ومع تمكن الفتوح الإسلامية في الشام والعراق بات القلق مسيطرا على النخبة الحاكمة بمصر، ودون سرد تفاصيل متشعبة فإنه يعنيني ما قاله كينيدي (وقبله ألفريد باتلر) أن جيش عمرو بن العاص كان يتألف من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف من الجند أغلبهم من بدو اليمن وهم جسديا أقصر قامة وأكثر نحافة من بدو الاستبس ويتميزون بالخشونة والصلابة (وهذا يدحض ادعاء من يقول بأن كل المسلمين بمصر أصلهم عرب)
ولنا هنا وقفة:
المولى عز وجل تخير من بين البشر على تنوعهم وامتدادهم «البدو العرب الأجلاف» كما وصفهم الفرس ليبلغوا الناس دعوته ويبشرون بدينه الحق ويحملون هم هذا الدين ويمحقون الطغاة الذين يسومون البشر سوء العذاب (هو الذي خلقهم ويعلم من هم رجال المرحلة لذلك تخيرهم)
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
14 الملك
بعد أن حرفت الكتب السماوية التي قبل القرآن وبعضها اختفى، وامتلأت الأرض ظلما وعدوا من أساطين الكفر والنفاق فلا يألون فيمن يليهم إلا ولا ذمة، الجند الذي اختارهم الله كانوا من رقة الحال شكلا وموضوعا وكينونة وكيانا ما يجعلنا نوقن أنه فقط النصر من عند الله
(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) 126 آل عمران
وهو لا يطلب من المؤمنين الذي أقروا وأيقنوا بصدق إيمانهم ومن ثم قبلوا التكليف سوى الصدق والإخلاص له، وأن يتقدموا ليدحضوا الظلم ويقيموا العدل بكل ما أوتوا من قوة حتى ولو كان الفارق بينهم وبين عدوهم بحجم الفارق الذي بين السموات والأرض، فهو يشتري منهم أنفسهم وهم قبلوا فربح البيع.
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
[ التوبة: 111]
وكلما تفكرت في البون الشاسع بين المسلمين الأول وبين الفرس والروم توقف عقلي، فماذا لو أعلنت دولة أفريقية فقيرة بائسة أنها ستغزو أمريكا أو الصين مثلا، فلا يمكننا أن نصدق إلا أنهم أصيبوا بلوثة عقلية جماعية، لذا ما كانت قوة المسلمين يوما ما سوى في الإسلام نفسه، الإسلام نفسه قوة في ذاته، كم حورب بصور شتى وما زال، ما يعني أن ضعف المسلمين هو ضعف إيمان ورقة في الدين وعدم الصدق مع الله، وهن حالهم من وهن إيمانهم، الدين الذي خرج المسلمون الأول ليبشروا به هو نفسه الدين الذي بن أيدينا ولكن العطب هو عطبنا نحن وليس شيء آخر، نحن الذين أصخنا السمع لشياطين الإنس والجن فأصابنا ما أصابنا، وإن لم نعد إلى صحيح الدين ونتمسك بأهدابه كما الأول سنظل من سيء إلى أسوأ، والأسوأ متعدد التأويل، سنظل يذيقنا الله من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلنا نرجع وننيب إليه
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
[ سورة السجدة: 21]
علينا أن نوقن بتقصيرنا في جنب الله وأن لا ملجأ لنا سواه، فكل الأسباب التي نبحث فيها ونوعز إليها الكدر الذي نعانيه جديرة بالدراسة والفحص، ولكن علينا أن نوكل الأمر كله إلى الله بمعنى أن كل منا يقف على ثغر من ثغور الإسلام فهو يعمل به ويقضي به حتى ولو كان هذا الثغر هو أسرتك فقط، كل منا راع مسئول عن رعيته ، كلنا مسئولون، سوء حالنا الآني هو من سوء حالنا مع الله فمتى نستفيق؟
يصف كينيدي إقدام العرب على فتح مصر بقوله:
“لقد كانت تلك مهمة جسورة إلى أبعد الحدود، وكان على هذا الجيش الضئيل أن يعبر سيناء، ثم أرض الدلتا غير المألوفة، وأن يهزم الجيش البيزنطي المحلي ويستولي على المدن جيدة التحصين، وكانوا بعيدين عن النجدة إذا ما ساءت الأمور”
وهناك قصة معروفة بأن عمرو وصله خطاب من الخليفة عمر بن الخطاب وهو على مشارف الدخول إلى مصر، رفض أن يفتحه لتكهنه بما فيه، وفي 12 ديسمبر عام 639م وصل جيش المسلمين إلى العريش ففتح عمرو الخطاب وفيه يقول له عمر إن لم يكن دخل مصر فعليه بالرجوع وإن كان دخلها فليواصل المسير.
واصل الجيش الصغير «البائس» كما وصفه (كينيدي وباتلر) على حد سواء زحفه إلى الفارما شرق بورسعيد وقد حاصروها مدة شهر ثم واجهوا الجيش البيزنطي واستولوا عليها ثم وصلوا بلبيس وحاصروها شهرا آخر أبدى فيه الجيش البيزنطي بعض المقاومة حتى استولوا عليها ثم واصلوا الزحف إلى أم دنين شمال القاهرة ، كان البيزنطيون قد حصنوا أنفسهم بخنادق وبوابات وبعثروا حسك الحديد في المساحات المفتوحة وكان القتال صعب والنصر بطيئا، كانت عين عمرو وجيشه على حصن بابليون والذي كان يحافظ عليه الجيش البيزنطي بقوة فتجاوزه عمرو بن العاص إلى الفيوم ريثما يصله الإمداد من الخليفة عمر بن الخطاب.
ويقول يوحنا النقيوسي:
«أن الفيوم كانت خصيبة مشهورة بغلالها ولابد أنها كانت هدفا لعمرو وجيشه»
فكيف علم عمرو بخصوبة الفيوم وهو الجيش الذي تندر عليه كينيدي بأنه لا يعرف أي شيء عن مصر ومدنها وقراها؟!
المؤرخ عبد الرحمن بن الحكم يقول شيء آخر نقيض لما قاله يوحنا النقيوسي:
«المسلمون ظلوا عاما كاملا يجهلون وجود الفيوم أصلا ، فلما علموا بها أرسل إليها عمرو حامية استولت عليها صلحا، بينما ظل عمرو بجيشه مرابطا عند حصن بابليون في انتظار المدد الذي سيرسله الخليفة» وهذه الرواية أكثر منطقية.
وصل الإمداد لعمرو، جيش مكون من اثني عشر ألف من الجند وعلى رأسهم الزبير بن العوام ولكن ظل عمرو هو القائد الأعلى، ويبدو أن التحقير من شكل وسمت الزبير بن العوام يعالج شيئا ما في صدر كينيدي، حيث وصفه نقيض ما وصفه به عبد الرحمن بن الحكم، وأيا كان فلن أتوقف عند هذا الذي يعد بلا قيمة تذكر، فالمهم هو سيرة الرجل وسلوكه ومواقفه ولا يهمنا في شيء ملامحه الشخصية.
حصن بابليون:
كان نتاجا ضخما من نتاج الهندسة العسكرية الرومانية، بناه الإمبراطور تراجان ردا على التمرد اليهودي بالإسكندرية، سمى بهذا الاسم نسبة إلى المستعمرين الذين جاءوا من بابل وكان معروفا عند العرب باسم قصر الشمع.
في سبتمبر عام 640م بدأ عمرو بن العاص بالهجوم على الحصن، سور الحصن كان بارتفاع 12 متر وبعرض ثلاثة أمتار ولم يكن أمام جيش المسلمين سوى أن يحشدوا بعض آلات الحصار البدائية وحاولوا أن يصعدوا إلى الشرفات مستخدمين السلالم، وفي إحدى الروايات قيل أن البيزنطيين غافلوا الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت أثنا صلاتهما ولكنهما وثبا على فرسيهما وساقا المهاجمين الذين تقهقروا إلى الحصن، وفي أثناء تقهقر البيزنطيين ألقوا أحزمتهم الثمينة وزينتهم الفاخرة على أمل أن يتوقف المسلمان كي يلتقطاها ولكنهما أبديا احتقارهما المعتاد للثروة (قال ذلك كينيدي ساخرا مستنكرا) وطاردا أعدائهما حتى أسوار المدينة حيث جرح أحدهما بحجر ألقي من شرفات الحصن ثم عاد البطلان إلى صلاتهما تاركين الغنائم الثمينة بلا مساس (إنها الدنيا التي تأتي مهرولة إلى الصادقين)
مات هرقل وانقطع المدد عن الجيش البيزنطي فأصابهم اليأس وفي 9 أبريل عام 641م صعد الزبير بن العوام السلم متسلقا سور الحصن وصاح «الله أكبر» فأعقبه الجيش الذي دخل الحصن واستسلم البيزنطيون ورحلوا بذهبهم تاركين خلفهم معداتهم العسكرية الثمينة.
الزبير بن العوام بنى بيتا ورثه ابنه ومن بعده أحفاده الذين احتفظوا بالسلم الذي صعد به سور الحصن ثلاثة قرون ونصف حتى أتلفه حريق حدث للبيت.
وللحديث بقية إن شاء الله
فتح مصر:
يرى كينيدي أن مصر بالنسبة للعرب لم تكن مثل الشام والعراق، لأن الشام والعراق كان بها قبائل عربية كما أن حركة التجارة على مر العصور بين عرب شبه الجزيرة والشام والعراق كانت متصلة دائما، بينما تواصل العرب مع مصر كان شبه منعدم، وهذا هو عين الافتراء حتى وإن لم يكن بنفس قوة التواصل مع الشام والعراق، لأنه يجافي المنطق.
كانت مصر قبيل الفتح العربي واقعة تحت نير الحكم البيزنطي الذي استوقف مده حقبة الفرس الذين لم يبشروا بدينهم بين المصريين، ولكنهم فقط مدفوعين من قبل هرقل الذي كان يرغب في إخضاع الكنيسة المصرية للكنيسة البيزنطية في محاولة لفرض مذاهب الخلقدونية التي تعتبرها الكنيسة المصرية هرطقة (خلاف حول طبيعة المسيح)، وهذا الاختلاف العقائدي أحدث صدعا بين الطبقة الحاكمة العسكرية الناطقة باليونانية بالأسكندرية وجموع السكان من نصارى ووثنيين لما نالهم من بطش النخبة الحاكمة، كما واجه رجال الكنيسة اضطهادات وحشية منظمة من البيزنطيين نظرا لرغبتهم في الحفاظ على معتقدهم الذي يوقنون به.
وبلغ حنق المصريين من ظلم النخبة اليونانية الحاكمة حدا غير مسبوق، ومع تمكن الفتوح الإسلامية في الشام والعراق بات القلق مسيطرا على النخبة الحاكمة بمصر، ودون سرد تفاصيل متشعبة فإنه يعنيني ما قاله كينيدي (وقبله ألفريد باتلر) أن جيش عمرو بن العاص كان يتألف من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف من الجند أغلبهم من بدو اليمن وهم جسديا أقصر قامة وأكثر نحافة من بدو الاستبس ويتميزون بالخشونة والصلابة (وهذا يدحض ادعاء من يقول بأن كل المسلمين بمصر أصلهم عرب)
ولنا هنا وقفة:
المولى عز وجل تخير من بين البشر على تنوعهم وامتدادهم «البدو العرب الأجلاف» كما وصفهم الفرس ليبلغوا الناس دعوته ويبشرون بدينه الحق ويحملون هم هذا الدين ويمحقون الطغاة الذين يسومون البشر سوء العذاب (هو الذي خلقهم ويعلم من هم رجال المرحلة لذلك تخيرهم)
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
14 الملك
بعد أن حرفت الكتب السماوية التي قبل القرآن وبعضها اختفى، وامتلأت الأرض ظلما وعدوا من أساطين الكفر والنفاق فلا يألون فيمن يليهم إلا ولا ذمة، الجند الذي اختارهم الله كانوا من رقة الحال شكلا وموضوعا وكينونة وكيانا ما يجعلنا نوقن أنه فقط النصر من عند الله
(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) 126 آل عمران
وهو لا يطلب من المؤمنين الذي أقروا وأيقنوا بصدق إيمانهم ومن ثم قبلوا التكليف سوى الصدق والإخلاص له، وأن يتقدموا ليدحضوا الظلم ويقيموا العدل بكل ما أوتوا من قوة حتى ولو كان الفارق بينهم وبين عدوهم بحجم الفارق الذي بين السموات والأرض، فهو يشتري منهم أنفسهم وهم قبلوا فربح البيع.
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
[ التوبة: 111]
وكلما تفكرت في البون الشاسع بين المسلمين الأول وبين الفرس والروم توقف عقلي، فماذا لو أعلنت دولة أفريقية فقيرة بائسة أنها ستغزو أمريكا أو الصين مثلا، فلا يمكننا أن نصدق إلا أنهم أصيبوا بلوثة عقلية جماعية، لذا ما كانت قوة المسلمين يوما ما سوى في الإسلام نفسه، الإسلام نفسه قوة في ذاته، كم حورب بصور شتى وما زال، ما يعني أن ضعف المسلمين هو ضعف إيمان ورقة في الدين وعدم الصدق مع الله، وهن حالهم من وهن إيمانهم، الدين الذي خرج المسلمون الأول ليبشروا به هو نفسه الدين الذي بن أيدينا ولكن العطب هو عطبنا نحن وليس شيء آخر، نحن الذين أصخنا السمع لشياطين الإنس والجن فأصابنا ما أصابنا، وإن لم نعد إلى صحيح الدين ونتمسك بأهدابه كما الأول سنظل من سيء إلى أسوأ، والأسوأ متعدد التأويل، سنظل يذيقنا الله من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلنا نرجع وننيب إليه
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
[ سورة السجدة: 21]
علينا أن نوقن بتقصيرنا في جنب الله وأن لا ملجأ لنا سواه، فكل الأسباب التي نبحث فيها ونوعز إليها الكدر الذي نعانيه جديرة بالدراسة والفحص، ولكن علينا أن نوكل الأمر كله إلى الله بمعنى أن كل منا يقف على ثغر من ثغور الإسلام فهو يعمل به ويقضي به حتى ولو كان هذا الثغر هو أسرتك فقط، كل منا راع مسئول عن رعيته ، كلنا مسئولون، سوء حالنا الآني هو من سوء حالنا مع الله فمتى نستفيق؟
يصف كينيدي إقدام العرب على فتح مصر بقوله:
“لقد كانت تلك مهمة جسورة إلى أبعد الحدود، وكان على هذا الجيش الضئيل أن يعبر سيناء، ثم أرض الدلتا غير المألوفة، وأن يهزم الجيش البيزنطي المحلي ويستولي على المدن جيدة التحصين، وكانوا بعيدين عن النجدة إذا ما ساءت الأمور”
وهناك قصة معروفة بأن عمرو وصله خطاب من الخليفة عمر بن الخطاب وهو على مشارف الدخول إلى مصر، رفض أن يفتحه لتكهنه بما فيه، وفي 12 ديسمبر عام 639م وصل جيش المسلمين إلى العريش ففتح عمرو الخطاب وفيه يقول له عمر إن لم يكن دخل مصر فعليه بالرجوع وإن كان دخلها فليواصل المسير.
واصل الجيش الصغير «البائس» كما وصفه (كينيدي وباتلر) على حد سواء زحفه إلى الفارما شرق بورسعيد وقد حاصروها مدة شهر ثم واجهوا الجيش البيزنطي واستولوا عليها ثم وصلوا بلبيس وحاصروها شهرا آخر أبدى فيه الجيش البيزنطي بعض المقاومة حتى استولوا عليها ثم واصلوا الزحف إلى أم دنين شمال القاهرة ، كان البيزنطيون قد حصنوا أنفسهم بخنادق وبوابات وبعثروا حسك الحديد في المساحات المفتوحة وكان القتال صعب والنصر بطيئا، كانت عين عمرو وجيشه على حصن بابليون والذي كان يحافظ عليه الجيش البيزنطي بقوة فتجاوزه عمرو بن العاص إلى الفيوم ريثما يصله الإمداد من الخليفة عمر بن الخطاب.
ويقول يوحنا النقيوسي:
«أن الفيوم كانت خصيبة مشهورة بغلالها ولابد أنها كانت هدفا لعمرو وجيشه»
فكيف علم عمرو بخصوبة الفيوم وهو الجيش الذي تندر عليه كينيدي بأنه لا يعرف أي شيء عن مصر ومدنها وقراها؟!
المؤرخ عبد الرحمن بن الحكم يقول شيء آخر نقيض لما قاله يوحنا النقيوسي:
«المسلمون ظلوا عاما كاملا يجهلون وجود الفيوم أصلا ، فلما علموا بها أرسل إليها عمرو حامية استولت عليها صلحا، بينما ظل عمرو بجيشه مرابطا عند حصن بابليون في انتظار المدد الذي سيرسله الخليفة» وهذه الرواية أكثر منطقية.
وصل الإمداد لعمرو، جيش مكون من اثني عشر ألف من الجند وعلى رأسهم الزبير بن العوام ولكن ظل عمرو هو القائد الأعلى، ويبدو أن التحقير من شكل وسمت الزبير بن العوام يعالج شيئا ما في صدر كينيدي، حيث وصفه نقيض ما وصفه به عبد الرحمن بن الحكم، وأيا كان فلن أتوقف عند هذا الذي يعد بلا قيمة تذكر، فالمهم هو سيرة الرجل وسلوكه ومواقفه ولا يهمنا في شيء ملامحه الشخصية.
حصن بابليون:
كان نتاجا ضخما من نتاج الهندسة العسكرية الرومانية، بناه الإمبراطور تراجان ردا على التمرد اليهودي بالإسكندرية، سمى بهذا الاسم نسبة إلى المستعمرين الذين جاءوا من بابل وكان معروفا عند العرب باسم قصر الشمع.
في سبتمبر عام 640م بدأ عمرو بن العاص بالهجوم على الحصن، سور الحصن كان بارتفاع 12 متر وبعرض ثلاثة أمتار ولم يكن أمام جيش المسلمين سوى أن يحشدوا بعض آلات الحصار البدائية وحاولوا أن يصعدوا إلى الشرفات مستخدمين السلالم، وفي إحدى الروايات قيل أن البيزنطيين غافلوا الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت أثنا صلاتهما ولكنهما وثبا على فرسيهما وساقا المهاجمين الذين تقهقروا إلى الحصن، وفي أثناء تقهقر البيزنطيين ألقوا أحزمتهم الثمينة وزينتهم الفاخرة على أمل أن يتوقف المسلمان كي يلتقطاها ولكنهما أبديا احتقارهما المعتاد للثروة (قال ذلك كينيدي ساخرا مستنكرا) وطاردا أعدائهما حتى أسوار المدينة حيث جرح أحدهما بحجر ألقي من شرفات الحصن ثم عاد البطلان إلى صلاتهما تاركين الغنائم الثمينة بلا مساس (إنها الدنيا التي تأتي مهرولة إلى الصادقين)
مات هرقل وانقطع المدد عن الجيش البيزنطي فأصابهم اليأس وفي 9 أبريل عام 641م صعد الزبير بن العوام السلم متسلقا سور الحصن وصاح «الله أكبر» فأعقبه الجيش الذي دخل الحصن واستسلم البيزنطيون ورحلوا بذهبهم تاركين خلفهم معداتهم العسكرية الثمينة.
الزبير بن العوام بنى بيتا ورثه ابنه ومن بعده أحفاده الذين احتفظوا بالسلم الذي صعد به سور الحصن ثلاثة قرون ونصف حتى أتلفه حريق حدث للبيت.
وللحديث بقية إن شاء الله