خالد محمد مندور - هل تنتصر الثورات؟

سؤال يبدو بسيطا وان إجابته سهلة مباشرة، وقد يتصور البعض، خصوصا عندما تكون الدماء ما زالت حارة، دماء الثورة، أن الإجابة ممكنة حيث يتحكم في التقدير الانحياز العاطفي سواء مع الثورة وشعاراتها واحلامها أم ضدها .
ولان الثورة هي فعل جماهيري مركب تشارك فيه طبقات وفئات اجتماعية مختلفة سعيا وراء أحداث تغييرات اجتماعية وسياسية متباينة، حتى لو التفت حول الشعارات العامة للثورة، ولكن هذا الالتفاف لا تتضح حقيقته إلا في السلوك العملي الفعلي للقوى الاجتماعية وممثليها السياسيين في الصراع الاجتماعي الدائر ، حيث تتضح حقيقة اختلاف فهم القوى الاجتماعية لشعارات الثورة ، لذلك فإن الوصول الى تقدير انتصار الثورة أو هزيمتها رهن برؤية وموقف من يبحث الامر.
ولا يمكن الاكتفاء بالركون الى المعيار الذاتي في التقدير، بل يجب التوقف أمام التطور الاجتماعي السابق على الثورة واللاحق لها، فالثورة، أي الحركة الجماهيرية الواسعة والدائمة، قد تؤدى الى تغيير شكل الحكم والى تزايد أو تناقص تأثير مصالح القوى الاجتماعية المختلفة على سياسات الدولة الجديدة بما يفتح الطريق أمام التغييرات الاجتماعية سواء أكانت تستجيب للسياق العام للتطور أم تعاكسه.
ولعل من الواجب التوقف عند بعض من الخبرات التاريخية لفهم طبيعة الثورات.
فالثورة الفرنسية الكبرى في القرن الثامن عشر كانت ترفع شعارات " الحرية الإخاء المساواة “، لكن فهم القوى السياسية المختلفة لهذه الشعارات اتضحت بشكل قاطع في الصراع السياسي بينها، بين الملكيين والملكيين الدستوريين و الجيروند واليعاقبة، وبرغم أنهار الدماء التي سالت، فإن الثورة انتهت باستيلاء بونابرت على السلطة وتعيين نفسه إمبراطورا، فهل انتصرت الثورة الفرنسية؟ أم لعلنا يجب أن نتساءل هل فتحت الثورة الباب أمام التطور الاجتماعي الذي كانت الأوضاع الاجتماعية السابقة على الثورة تعيق تطوره؟
ولأن الإجابة أكثر تعقيدا من ان تكون بسيطة فلعلنا في حاجة الى التوقف قليلا أمام الثورة الروسية عام 1905 ، هذه الثورة التي استطاعت أن تخلق شكلا جديدا من الحكم يعبر عن مصالح القوى الاجتماعية الأكثر مساهمة وانخراطا في الثورة ، أي لجان العمال والفلاحين ، هذا الشكل الجديد الذى لم يستطع الانتقال من حالة ازدواج السلطة الى الانفراد بها وانتهى الأمر بهزيمته وعودة الحكم المطلق من جديد ، لكن هذا الحكم المطلق هو نفسة الذى قاد التغييرات الاجتماعية في اتجاه ما كانت تطمح الية الثورة ، لكن من أعلى وعلى طريقته ، فهل انتصرت ثورة 1905 في روسيا أم هزمت ؟
وإذا عدنا من جديد الى الثورة الفرنسية الكبرى فمن المؤكد أنها قد حطمت البنية الاقطاعية الفرنسية القديمة التي كانت تعيق التقدم الرأسمالي ، ليس فقط على الصعيد الفرنسي بل أيضا على الصعيد الأوربي ، وحولت فرنسا ، بشكل تدريجي ، الى القوى العظمى الثانية على الصعيد العالمي ، برغم الحكم الإمبراطوري النابليونى ثم عودة ملكية أل بوربون ثم ثورة 1830 و1848 وعودة الإمبراطورية من جديد على أيدى الكاريكاتير النابليونى ، لويس بونابرت ، وانتهى الأمر بهزيمة كميونه باريس سنة 1870 وتأسيس الجمهورية ، وبرغم ذلك فان فهم شعارات الثورة المختلف لدى أكثر التيارات السياسية راديكالية ، أي اليعاقبة ، لم يتحقق حتى الان !!.
أن فهم طبيعة الثورات لا يحتاج فقط الى الفهم الدرامي لشكسبير، بل أيضا الى فهم كافكا للدراما ناهيك عن فهم كبار المفكرين الاجتماعيين لتطور المجتمعات الإنسانية ، للصراع الطبقي ، والى التحليل الاجتماعي العميق للتناقضات الاجتماعية التي قادت الى الثورة والى النتائج الفعلية اللاحقة لها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...